سينما يوسف شاهين ومهرجان «كان»
منحه صداقته وفتح له أبوابه
كان:
محمد رُضا
ما بين 1918 و1952 عرض مهرجان «كان» السينمائي تسعة أفلام
للمخرج يوسف شاهين مما ساعد المخرج على الانتقال من رحى العروض المحلية
ومهرجانات العالم العربي، إلى تلك العالمية. شيء كهذا لم يقع لمخرج عربي
آخر من حيث الكم أو نوعية الاهتمام.
بقيت أوروبا، عنوة عن كل القارات الأخرى، الأكثر استقبالاً
لجديد المخرج المصري المولود سنة 1926 والراحل سنة 2008. وفرنسا نالت
المركز الأول في تبنّي المخرج المصري منذ أن كان شابّاً في مطلع الخمسينات
حتى ما بعد عام وفاته. كانت قلب اهتمامه عاطفياً وإنتاجياً وثقافياً. هي
التي عرضت أفلامه بلا تأخير، وهي التي فتحت صالاتها التجارية لمعظم أعماله
إما كعروض منفردة أو كبانوراما احتفائية بأفلامه.
فوق كل ذلك، واكب مهرجان «كان» المخرج من تلك السنوات
الأولى حتى سنة قبل وفاته، ثم استعادت فيلمين له كانا عرضا في ذلك المهرجان
وقدّماه من جديد. الفيلمان هما «وداعاً بونابرت»، الذي استقبله المهرجان
الفرنسي أول مرّة سنة 1985، داخل المسابقة، ثم قام بإعادة تقديمه سنة 2016.
الفيلم الآخر «المصير»، الذي استقبله المهرجان خارج المسابقة سنة 1997 ثم
قدّمه مرّة ثانية في دورة 2018.
لا بد من الإشارة إلى أنه من بين هذه الأفلام التسعة (اثنان
منها تكررا) فيلمان شارك بهما مخرجان عالميان آخران بأعمال قصيرة من عنده،
كما سيرد لاحقاً.
حضور وغياب
ليس أن شاهين كان المصري الوحيد الذي عرض له المهرجان
أفلاماً، ولا كان أول مخرج مصري تُتاح له فرصة عرض أفلامه في «كان». وعلى
صعيد عربي واسع، لم يكن المخرج العربي الوحيد، بالطبع، الذي سنحت له فرصة
تقديم أفلامه على شاشة المهرجان الكبير.
في عام 1949 ظهرت السينما المصرية في فيلمين هما «البيت
الكبير» لمحمد كامل مرسي، و«مغامرات عنتر وعبلة» لصلاح أبو سيف. تنافس
الفيلمان مع أعمال لمخرجين مرموقين من تلك الفترة مثل كارول ريد («الرجل
الثالث») وروبرت وايز («التأسيس»)، جاك بَكر («موعد مع جولييت») وديفيد لين
(«أصدقاء حميمين»).
بعد عامين تنافس فيلم أحمد بدرخان «ليلة غرام» مع فيلم يوسف
شاهين «ابن النيل» وفي عام 1954 عرض صلاح أبو سيف رائعته المبكرة «الوحش»
وعرض يوسف شاهين فيلمه «صراع في الوادي».
غاب يوسف شاهين واستمر حضور سواه من مخرجين مصريين أساساً
(سنة 1955 عرض كمال الشيخ فيلمه الجيد «حياة وموت» في المسابقة الرسمية)
وتوسّعت الدائرة قليلاً فضمّت فيلم المخرج اللبناني جورج نصر هما «إلى
أين؟» سنة 1957 ولاحقاً أفلاماً من تونس والجزائر داخل أو خارج المسابقة
الرسمية.
استمر غياب يوسف شاهين حتى عاد سنة 1970 بفيلمه الممتاز
«الأرض» (أنجزه سنة 1969) الذي استقبل باهتمام كبير لكن الجائزة التي طمح
إليها شاهين ذهبت حينها إلى فيلم روبرت التمن
M.A.S.H
الساخر. من بين أعضاء لجنة التحكيم الممثل الأميركي كيرك دوغلاس الذي لم
يكن في وارد تشجيع فيلم مصري على الفوز بسبب سياسته المعادية.
«الأرض»
هو ما لفت الأنظار الفرنسية والأوروبية أكثر من سواه، إلى ذلك الحين.
الموضوع المترامي ما بين ثورة فلاح ووضع اجتماعي - سياسي وبين علاقة صبي
يرنو لدخول تجربة غرامية مراهقة، ثم شخصيات الفيلم المتميّزة بالتصاقها
بالواقع، منح «الأرض» كل هذا البعد المطلوب ليفتح باب صالات السينما
الفرنسية أمامه. وشاهين، مدركاً الوضع، عرف كيف يوظّفه لحساب الأعمال
المقبلة.
مرّت خمس سنوات أخرى قبل عودة شاهين إلى مسابقة مهرجان
«كان» بفيلم «وداعاً بونابرت» (داخل المسابقة). كان خلال ذلك حقق «العصفور»
(1972) ثم «الاختيار» (1974) الذي توجّه به شاهين لمهرجان فينيسيا. في عام
1978 حقق «عودة الابن الضال» الذي شهد توزيعاً خارجياً شمل فرنسا (مطلع سنة
1978) وتايوان والنرويج وأستراليا وروسيا.
شاهين في نيويورك
لم يلق «وداعاً بونابرت» أي تجاوب نقدي عربي واسع النطاق،
لا في مصر ولا في خارجها. السبب الذي تكرر أكثر من سواه أن الفيلم يغازل
فرنسا على حساب الموقف الوطني، أمر نفاه المخرج حينها لكن النظرة إلى فيلمه
ذاك بقيت كما هي.
الفيلم الشاهيني الخامس الذي عرضه كان هو «المصير» (1993.
خارج المسابقة) الذي أراده تعليقاً على بذور التعصب الديني الذي كانت دول
عربية وإسلامية بدأت تشهده. دارت أحداث «المصير» في القرن الثاني عشر وفتح
الفيلم صفحات العلاقة بين السُلطة وبين المثقفين وبينهما وبين المتطرفين
الإسلاميين. المحاولة بحد ذاتها تستحق الإعجاب، لكن الفيلم غاص في مشاكل
تعبير وتوليف جعلته أكثر استخداماً للحوار المباشر والمواقف الذاتية من
توظيف صورة واقعية للفترة وللأحداث.
في فيلمه اللاحق «الآخر» (تظاهرة «نظرة ما»، 1999) نقل
شاهين اهتمامه إلى مصر الراهنة الواقفة على مفترق طريق مع التحديث والعصرنة
في مواجهة فتيل التطرّف من جهة والوضع الذي يمنح الأثرياء تلك اليد الطولى
في تحقيق المكانة رغم وضع الغالبية السائد.
قبل هذا الفيلم، كان شاهين حقق «اليوم السادس» (1986)
و«الإسكندرية كمان وكمان» (1989) ثم «المهاجر» (1994). هذا الأخير تم عرضه
العالمي الأول في مهرجان لوكارنو في العام ذاته، بينما خص شاهين مهرجان
القاهرة السينمائي بفيلمه السابق «الإسكندرية كمان وكمان» (بعد القاهرة
انتقل الفيلم إلى مهرجان تورونتو).
في سنة 2004 قدّم شاهين سابع أفلامه في كان «وهو
الإسكندرية... نيويورك». أحاطه الصحافيون والإعلاميون العرب بكثير من
التبجيل لكن الفيلم لم يكن فعلياً بتلك الدرجة المرموقة التي يمكن لها أن
تتجانس مع أعمال أخرى له. شاهين سرد هنا حكاية لا يمكن التثبت من كل
وقائعها حول دراسته السينما في الولايات المتحدة (قام بدوره جيداً محمود
حميدة) وكيف أصبح محط أنظار وإعجاب الأساتذة والطلاب على حد سواء.
عند هذا الحد، انتهت رحلة شاهين في «كان» والأبواب التي
فتحها المهرجان له في فرنسا وباقي أوروبا. هناك ثلاثة أفلام من إخراج
مجموعتين كبيرتين من السينمائيين أولهما «لوميير وشركاه» (1995) والثاني
«لكل سينماه» (2007) قدّم فيهما المخرج المصري رؤيته لتاريخ السينما
وموقعها بالنسبة إليه. |