لم يكن من السهل توقع أي من نتائج الدورة الـ43 لمهرجان
القاهرة السينمائي. الأمر الوحيد الذي رجح الاحتمالات كان قوّة الأفلام
الأجنبية، مقارنة مع مثيلاتها العربية، مما يرجح فوز أحد تلك الأفلام
الآتية من وراء الحدود العربية. وهذا ما حدث فعلاً، فالجائزة الأولى ذهبت
إلى الفيلم المكسيكي «ثقب في السياج» ليواكين دل باسو. والجائزة الفضية
(الثانية في الأهمية) ذهبت إلى الفيلم الإيطالي «جسد ضئيل» للورا ساماني
والبرونزية للفيلم الكوري «انطوائيون» لهونغ سيونغ يون.
الوجود العربي الوحيد في هذه النتائج جاء في نطاق جائزة
أفضل ممثل، إذ نالها محمد ممدوح عن الفيلم المصري «أبو صدّام». المقابل
النسائي ذهب إلى الممثلة الإيطالية سوامي روتورلو عن دورها في «كيارا»
ليوناس كاربنيانو.
يكشف هذا قدراً من عزوف لجنة التحكيم التي قادها المخرج
الصربي أمير كوستاريتزا عن منح الأفلام على نحو استرضائي. فمن فاز هنا فاز
لأنّه استحق الفوز في إطار منافسة قوية أشرنا إليها في رسالة سابقة تحدثنا
فيها عن عدم وجود توقعات، نظراً لعدد من الأفلام الجيدة الآتية من الدول
الأوروبية والآسيوية، ونظراً لاختلاف المنوال والاهتمامات في الوسط الفني
هنا.
وثبة لبنانية
وكنا كذلك أشرنا إلى أنّ الفيلم اللبناني «دفاتر مايا»،
الذي عرضناه في نقد موسّع، هو أفضل ما شوهد لحينه وتبين لاحقاً أنّه بقي
الأفضل بين معظم ما عُرض واستحق الفوز بالجائزة الأولى في مسابقة «آفاق
السينما العربية»، التي حشدت أفلاماً قدمت إليها من السعودية ومصر والمغرب
ولبنان وفلسطين والجزائر وتونس من بين أخرى.
«دفاتر
مايا» لجوانا حاجي توما وزوجها وشريكها في كل أعمالها خليل جريج، تناول
منظور الحرب اللبنانية وذكرياتها من زاوية غير مسبوقة وبأسلوب عمل ابتكاري
جيد.
الجائزة الثانية في هذا المجال ذهبت أيضاً لفيلم لبناني هو
«فياسكو»، لنقولا خوري. وجائزة الفيلم غير الروائي نالها الفيلم المصري
«هنا القاهرة» لهالة جلال، وأحسن أداء تمثيلي حصدتها عفاف بن محمود عن
دورها في فيلم «أطياف» لمهدي هميلي.
وهناك فيلم لبناني آخر حاز على التقدير هو «الغريب»، لأمير
فخر الدين، الذي نال الجائزة الأولى في تظاهرة «أسبوع النقاد الدولية».
في واقعها حفلت السينما اللبنانية مؤخراً بنجاحات لا بأس
بها في المحافل الدولية آخرها فوز فيلم «يوسف»، لكاظم فيّاض بجائزة لجنة
التحكيم الخاصة في مهرجان «آسيا وورلد فيلم فستيفال»، الذي أُقيم في مدينة
لوس أنجليس في مطلع الشهر الماضي.
وإذا ما عاينا وضع الإنتاجات اللبنانية خلال العام الحالي،
نجد عدداً لا بأس به من الإنجازات التي ما زالت تحت مستوى الرادار ولم يُشر
إليها، أو يراها أحد، مثل «حرب ميغيل» لإليان الراهب و«موت عذراء وخطيئة
الموتى» لبيت بربري و«جفاف» لرمي عيتاني و«أخطبوط» لكريم قاسم.
وكان «النهر» لغسّان سلهب عُرض في نطاق «آفاق السينما
العربية»، لكنه خرج بلا ذكر في نتائج هذه المسابقة. على ذلك ينضم هذا
الفيلم إلى الأعمال المتعددة التي قدّمتها السينما اللبنانية في خضم هذه
الظروف الاقتصادية والأمنية الصعبة.
القاهرة
الفيلم الفائز بالجائزة الأولى في المسابقة الرئيسية في
مهرجان القاهرة هذا العام، «ثقب في السياج» هو ثاني فيلم لمخرجه المكسيكي
يواكين دل باسو بعد عمله الأول
Maquinaria Panamericana
سنة 2016. الانتظار الطويل مردّه أنّ دل باسو في بلاده، من المخرجين
المستقلّين، الذين كسواهم حول العالم، عليهم الانتظار طويلاً قبل أن يجدوا
التمويل اللازم. والمرء لا يستطيع إلا أن يتخيّل أن المخرج، في هذه الأثناء
عاين السيناريو أكثر من مرّة وأضاف إليه أو اختزل منه كما أراد.
الماثل على الشاشة مدهم وقاس. قدرة الفيلم على استحواذ
انتباه الاهتمام لما وراء العروض المهرجاناتية صعب (كان شارك في مهرجاني
فينيسيا ولندن هذه السنة). لكن موضوعه حافل بالإسقاطات الاجتماعية
والثقافية التي تتمحور حول من يملك السُلطة وماذا يفعل بها.
يبدأ بتصوير حافلة من التلامذة الصغار تصل إلى منطقة محاطة
بسياج على التلاميذ البقاء داخله. هي رحلة استجمام وصلوات دينية وانصياع
لأوامر المرشدين والمعلّمين التي تبدأ بالتحذير من الخروج من هذا الموقع أو
التعامل مع أي من السكّان. وهذا التحذير يأتي مصحوباً بعبارة… «وتذكروا
أنكم مُراقبون». لا يكمل الخطيب العبارة ليشرح من يراقب من، لكنه يفصح عن
أنّ الرقيب الأول هم المجموعة التي قادت هؤلاء التلاميذ إلى المكان المسيّج.
ما يعانيه هؤلاء الفتيان طوال الوقت هو أقسى الممارسات
الممنوحة لمن هم فوق، في القيادة، على من هم تحت، التلاميذ. قد تذكرك بعض
المشاهد بالنصف الأول من رائعة ستانلي كوبريك
Full Metal Jacket
سنة 1987. هناك شاهدنا ذلك المجنّد الشاب (فنسنت داونوفريو) يتلقّى تنكيلاً
لفظياً وجسدياً من قبل العريف (ر. لي إرمي) حتى يفقد المجنّد اتزانه العقلي
ويخسر شعوره بأي قيمة، فيقتل العريف من ثمّ يطلق النار على نفسه وينتحر.
في فيلم دل باسو النهاية ليست مماثلة، لكن قسوة الأساتذة
والمشرفين على الطلاب تشبه قسوة العريف على المجنّد. ما يضيفه المخرج في
هذا الوضع هو كيف ينفّس الأولاد ذلك العنف الممارس عليهم بأفعال عنف فيما
بينهم. إنّه الضغط السيكولوجي الممعن، الذي لا يستطيع متلقيه درأه عن نفسه
فيستدير صوب من لا حول له أو قوّة ليمارس التعنيف عليه.
وإذ يخلص الفيلم هذا الوضع موحياً ببنية اجتماعية متعددة
الطبقات يحاول استغلال ما يستطيع من مواقف لدعم حالة من التشويق والغموض
تبدأ من تحذير الطلاب التعامل مع ما وراء السياج
(رغم
استخدام الفيلم كلمة
Fence
لوصف الحدود التي لا يستطيع التلاميذ اجتيازها، فإنّ المعنى مزدوج، إذ يضم
وصف ما هو خارج عن المخيّم أو الموقع الذي تدور فيه الأحداث).
هذا التحذير يخلق حالة خوف مسبقة بين الفتيان وحالة من الغموض بين
المشاهدين، لا يحاول المخرج هنا الانتقال من داخل المخيّم إلى خارجه، ولا
التعريف بماهية الأحداث التي وقعت في السابق ويحذّر المشرفون الطلاب منها.
الانتقال من الغموض إلى التشويق ومن التشويق إلى الرعب يأتي
لاحقاً بعد أن يعرض المخرج لما يمكن له أن يؤكد أنّ هناك ما يُريب فعلاً لا
داخل المخيّم فقط بل خارجه أيضاً. التوليفة الكاملة تتبدّى منذ ربع الساعة
الأولى من ثمّ تتصاعد، وهي رصد ما يحدث لمجموعة من الأولاد القابعين تحت
سُلطة فوقية طاغية، مما يجعل بعضهم يمارس العنف على الآخرين بدورهم.
كل ذلك يدلف بالفيلم إلى حالة هستيرية شاملة بلا شخصية (أو
شخصيات محورية). على قوّة عرضه ومفاداته (السلطتان الدينية والسياسية
تعملان معاً كما حال مفادات الإسباني الراحل لوي بونيَل) يجد المشاهد نفسه
بريئاً مما يدور. يخلق الفيلم مسافة آمنة في الوقت الذي يطالع عن كثب فوضى
الحياة في ذلك المخيّم. يستعرض ويدلي بأبعاده ومضامينه، لكنه لا يسعى
لتوفير عمل يذهب باتجاه المشاهدين، بل يتركهم في الوضع الحيادي وإن كان لا
يخلو من القلق والتساؤل.
حدث على الطريق السريع
باقي الأفلام التي فازت بالجوائز (باستثناء «بنات عبد
الرحمن» لزيد أبو حمدان الذي خرج بجائزة الجمهور) سبق وعرضناها في حينها.
لكنّ فوز الممثل محمد ممدوح عن دوره في «أبو صدّام» يستحق التوقف عنده
بإمعان.
«أبو
صدّام» هو فيلم للمخرجة نادين خان (ابنة المخرج الراحل محمد خان) التي كانت
حققت فيلماً واحداً من قبل هو «هرج ومرج» سنة 2012. (شوهد في مهرجان دبي
حينها) كشف عن استعداد فني جاهز للانطلاق. هذا الفيلم الثاني هو الانطلاق
فعلياً، لكنه ليس بالفيلم الخالي من الشوائب ونواحي الضعف في نطاق الكتابة.
مثل فيلمها السابق، يحمل في طيّاته موهبة واضحة، لكنها لا تزال تحتاج إلى
ترتيب المفادات حسب أولوياتها. هو فيلم طريق نتعرّف فيه على «أبو صدّام»
(كما يؤديه محمد ممدوح بجدارة) يقود شاحنة كبيرة فارغة تنطلق من موقع بعيد
إلى موقع بعيد آخر وإلى جانبه الفتى حسن (أحمد داش). الأول يقود والثاني
يساعد لقاء أجر. أبو صدّام والشاحنة التي يقود يتماثلان في القوّة والهيمنة
وإرشاداته للفتى حسن هي أوامر عليه تنفيذها: «عينك على الطريق» يطلب منه
أكثر من مرّة، لكن عين الفتى على حقيبة أبو صدّام المودعة في خزنة صغيرة
فوق رأسه تحمل مبلغاً من المال. على الطريق يسرقها ويحاول الإفلات من عمله،
لكنها يعيدها إلى مكانها حين يدرك أنّه لن يستطيع الابتعاد عن أبو صدّام
حال يكتشف هذا سرقته. من ثم يقتنص فرصة أخرى ويسرق المال، قبل أن يعيده
مرّة ثانية إلى حيث وجده خوفاً من بطش أبو صدّام.
بالنسبة لـ«أبو صدّام»، الذي يحمل بدناً ضخماً يعفيه عن أن
يكون ضحية ما ويلقّب نفسه بـ«ملك الطريق»، شخصيته ليست بلا ضعف شديد. كان
تعارك مع زوجته التي طلبت تدخل شقيقها، مما اضطره لقبول وساطة حين وصل إلى
عرس مقام في منطقة صحراوية. لكنه وبعد أن أعلن أنّه قبل الوساطة يهدد زوجته
بالمزيد من العنف إذا ما اتصلت بذويها وأنّها إذا تركت البيت فهي لن تعود
إليه. هذه المنطقة تبقى رخوة في السيناريو. صراخ أبو صدّام الدائم يمنع
المُشاهد من معرفة القصّة الخلفية تماماً. كان يمكن لمشهد واحد (ربما في
المقدّمة) أن يفي بغرض التمهيد، لكن نادين خان توفر كل الحوارات الهاتفية
بمنوال واحد.
مشكلة أبو صدّام الأخرى، هي أنّه مع بداية الرحلة، وبينما
كان يحاول تجاوز حافلة أقدمت فتاة تقود سيارة حمراء على مضايقته باستخدام
بوق السيارة لتتجاوزه. عندما سمح لها بذلك أخذت تهدده بتصرّفاتها
الانتقامية قبل أن تنطلق بعيداً. يلتقي بها لاحقاً في استراحة على الطريق.
لا يتحدّث معها، لكنّ عينيه تتشبّع من النظر إلى محاسنها. تشعر بالخطر.
تنصرف.
هي ذاتها التي ستبلغ عنه أمن المنطقة فإذا بالأمن، في
نهايات الفيلم، يوقفه نتيجة ذلك الإبلاغ. عند هذه النقطة يكون «أبو صدّام»
قد وقع تحت الضغط النفسي الناتج عن مغامرة أخرى غير موفّقة إذ كان التقى،
خلال العرس، براقصة دعاها لمشاركته الشاحنة فوق سرير في المقعد الخلفي. لا
نرى ما حدث بالفعل، لكنه كان راضياً من ممارسة الحب على عكسها. يحاول
ممارسة الحب من جديد معها لكي يؤكد سطوته، لكنّها تصدّه وتضربه تاركة ورماً
في جبهته. كل ذلك، وفوقه الشكوى التي تقدّمت بها السائقة الشابة وأدت إلى
احتجازه لساعات زادت من غليانه وكشفت له أنّه ليس «ملك الطريق»، وأن قوّته
ليست مطلقة. حين يرى سيارة حمراء يعتقد أنّها هي ذاتها التي أضافت إلى
متاعبه ينطلق صوبها ويصدمها رغم أنّها ليست السيارة ذاتها. أبو صدّام» فيلم
مفعم تدرس فيه المخرج شخصية محددة وواضحة. لا تحاول نادين خان الخروج بمفاد
اجتماعي ما، بل تسرد حدثاً طويلاً واحداً بمفارقاته. وإذا ما كان الفيلم
افتقد شيئاً فهو ذلك المفاد المطلوب. هذا يتّضح أكثر عندما نقارن بين
فيلمها هذا وفيلم ستيفن سبيلبرغ
Duel
الذي كان أول فيلم له يُعرض عالمياً (سنة 1971). في ذلك الفيلم (وهناك
أمثلة أخرى) شاهدنا رجلاً يقود سيارته على طرق ولاية أريزونا. هناك خلاف مع
زوجته (بصوت طبيعي لكن هذا ليس مهمّاً في هذه المقارنة كون الأداء الصوتي
هو نتيجة السلوك والثقافة الاجتماعية)، وشاحنة كبيرة تطارده طوال الطريق.
المفاد هنا هو أنّ الشاحنة (التي لا نرى سائقها) ترمز إلى الاضطهاد أو
القوى غير المنظورة التي تهيمن على مقدّرات الناس أو النظام ضد الفرد. ما
يخلو منه «أبو صدّام» هو هذا التعامل مع الحالة الماثلة لإخراجها من مجرد
حكاية إلى وضع تحتضن فيه مفاداً أعلى. |