أفلام المغرب العربي في «القاهرة السينمائى»:
استعراض لتاريخ الاستعمار.. ومفارقات الحياة الحديثة
نرمين
يسر
ربما تجمع السينما فى دول شمال إفريقيا، خاصة تونس والجزائر
والمغرب، ظروف واحدة، وهى تزامن بدايات الفن السابع فيها مع وجود الاستعمار
الأجنبى فى البلاد خاصة الفرنسى، الذى أثر بشكل كبير على ثقافة الأفلام
التى تم إنتاجها.
وتشابهت بدايات السينما فى تلك البلدان أيضًا من ناحية
الآليات الإخراجية والموضوعات الفنية، وطبيعة الأفلام التى كان أغلبها
وثائقيًا، فالسينما التونسية على سبيل المثال بدأت سلسلة أعمالها بأفلام
تسجل فيها مواقعها الطبيعية الجميلة، وهو نمط تأثرت فيه بالأفكار
السينمائية فى بلد المستعمر.
وصوّر الفرنسيان الأخوان لوميير، فى عام ١٨٨٦، أول ١٠ أفلام
تسجيلية تونسية، وبعد ذلك بفترة أنشئت أول دار عرض فى مدينة تونس العاصمة..
وفى عام ١٩١٢ قدم المخرج طيب بلخيرى فيلم «معروف» وهو أول فيلم بسيناريو
فرنسى، كما قدمت السينما التونسية بعد ذلك أول فيلم وطنى من إخراج المصور
شمامة شكلى، وهو روائى قصير بعنوان «الزهراء» عام ١٩٢١.
ولم تختلف الجزائر عن تونس من حيث تاريخ النشأة والتطور
التقنى للفن السابع، إلى جانب انفراد أبناء البلد بصنع سينماهم الخاصة، حيث
استقطبت المناظر الطبيعية فى البلاد الكثير من المخرجين المشهورين فى
السينما الصامتة أمثال «جاك فيدر». أما السينما فى المملكة المغربية فلم
تتطور إلا بعد الاستقلال من المستعمر الفرنسى، حيث شهدت البلاد أول تصوير
سينمائى سنة ١٨٩٧، ودخلت أولى آلات العرض القصر السلطانى على عهد الملك
مولاى عبدالعزيز فى الفترة ذاتها، ونظم أول عرض عام بمدينة طنجة خلال عام
١٩٠٥، وشهدت مدينة فاس ميلاد أول قاعة سينمائية فى عام ١٩١٢، ثم جرى تنظيم
تشريعى للقطاع السينمائى فى ٢٢ أبريل ١٩١٦.
وفى ظل تلك القواسم المشتركة بين السينما المغربية
والتونسية والجزائرية، تقدم «الدستور» عرضًا لعدد من الأفلام التى تحمل فى
بعض الأحيان قواسم وأفكارًا مشتركة، وتم عرضها مؤخرًا فى مهرجانات دولية،
خاصة مهرجان القاهرة السينمائى.
هليوبوليس: مآسى المستعمر وجرائمه بحق الجزائريين
يعد الفيلم الجزائرى «هليوبوليس»، الذى تم ترشيحه لجائزة
الأوسكار وعرض فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى من خلال مسابقة «آفاق
السينما العربية»، أحد الأعمال المهمة التى تطرح مآسى الاستعمار، وهو إنتاج
المركز الجزائرى التابع لوزارة الثقافة والفنون.
و«هليوبوليس» أول فيلم للمخرج الجزائرى جعفر قاسم الذى
اشتهر بأعماله التليفزيونية الكوميدية، حيث قرر دخول عالم السينما من خلال
موضوع تاريخى عن مجازر ٨ مايو ١٩٤٥ الدامية التى ارتكبها الاستعمار الفرنسى
فى حق الشعب الجزائرى، وهى المرة الأولى التى تُعالج فيها هذه المرحلة
دراميًا.
واعتمد المخرج فى فيلم «هليوبوليس»، وهو الاسم القديم
لمدينة «قالمة»، على نمط جديد عبر تناول الموضوع بطريقة إنسانية تعطى نظرة
مغايرة لبعض الأمور، منها الصورة المعروفة عن «القياد والأعيان» لدى
الجزائريين.
وتدور أحداث الفيلم حول عائلة «زناتى»، أحد أعيان وأغنياء
المنطقة، وصراعات أفرادها مع الثورة والاستعمار والكيانات السياسية
والحربية والعقائدية.
ويفتتح الفيلم بمشهد عريض تسلط فيه الكاميرا أضواءها على
دهشة ورعب شيخ وطفل من الريف، من خطر قادم من السماء، لتقترب رويدًا طائرات
حربية تشرع فى القصف، وتتوقف الكاميرا لتعود فجأة إلى نحو ٥ سنوات مضت،
والتى تسجل قيام الحرب العالمية الثانية مع بداية الأربعينيات من القرن
الماضى.
وهذه هى المرحلة الأطول فى الفيلم، لأنها تذكر بالحيثيات
التى أدت إلى وقوع تلك الأحداث المؤلمة، حيث ركز المخرج على التغيرات التى
طرأت على حياة مقداد زناتى «عزيز بوكرونى» الأب بعد عودة ابنه «محفوظ» من
الجزائر العاصمة بشهادة البكالوريا التى تؤهله لأفضل الجامعات، لكن أمنية
الأب والابن لن تتحقق لأن المدارس العليا لا تقبل بـشهادة «الاندجانة» كما
سماها المستعمر الجزائرى آنذاك.
ويصور الفيلم انضمام مقداد الأب، أو ابن القايد، إلى صفوف
حزب الشعب الجزائرى، وتتطور الأحداث ليكشف المستعمر عن وجهه الحقيقى من
خلال تصرفات وحشية واحتقار للسكان عبر تجنيد أبنائهم عنوة للمشاركة فى
الحرب ضد ألمانيا وحلفائها.
وبعد انتهاء الحرب يحتفل المستعمرون بالانتصار ويرفضون
الوفاء بوعودهم بخصوص مصير الجزائر، وسط مطالبات الجزائريين للفرنسيين
المستعمرين بالاستقلال، ويزيد هذا الموقف من عزم الجزائريين فى انتزاع
استقلالهم ويخرجون للتظاهر سلميًا، لكن سلطات الاحتلال تقابلهم بعنف دموى
أسفر عن مقتل أكثر من ٤٥ ألف مواطن.
وحاول المخرج إضافة الصور البشعة للجرائم ضد السكان العزّل
وحرق الجثث فى الأفران- التى تظهر لأول مرة فى السينما- ليحلل تطور موقف
«مقداد» الأب من تلك الأحداث، خاصة بعدما فشل فى إنقاذ ابنه من الموت.
ونجح جعفر قاسم فى رفع مستوى التحدى وتقديم عمل محترم
ومتكامل من الناحية التقنية وأداء الممثلين، فجاء أداء عزيز بوكرونى
مقنعًا، خاصة مع تعرض الشخصية لمواقف متناقضة ومليئة بالمشاعر.
كما تألقت الممثلة سهيلة معلم فى دور «نجمة»، حيث ظهرت بوجه
غير مألوف فى دور فتاة قوية الشخصية رغم إعاقة جعلتها تتنقل بصعوبة، وكان
لها دور حاسم فى تغيير موقف أبيها وقبول حماية القرويين الهاربين من بطش
المستعمر.
ولم يخيب المخرج ظن المشاهدين فى الأدوار الأخرى التى أوكلت
لممثلين شباب، أغلبهم من المسرح، مثل الممثل مهدى رمضانى «محفوظ ابن زناتى»
ومراد أوجيت «بشير» الذى أُسند له دور مهم.
«لو
كان يطيحو لحيوط».. مغامرة حكيم بلعباس مع المهمشين
«لو
كان يطيحو لحيوط» مغامرة سينمائية جديدة للمخرج المغربى حكيم بلعباس، الذى
نجح فى لفت الأنظار إليه عقب عرض العمل بمهرجان القاهرة السينمائى فى دورته
الـ٤٣ من خلال مسابقة «آفاق السينما العربية».
يضم الفيلم مجموعة من الحكايات ترتبط كلها بفضاء واحد،
وتدور أحداثها بين شخصيات وأناس بسطاء يعاركهم القدر ويعاركونه، ويتحول
المشاهد إلى مشارك فى لحظات حميمية تذكرنا بشرط المخرج الأساسى الذى أفصح
عنه فى تقديمه الفيلم قبل بداية عرضه وهو الاحتضان.
مع مرور أحداث الفيلم نشاهد المرأة التى تجلس فى إحدى دور
العرض المتهالكة كمتفرج وحيد، وتستغرق فى مجموعة متوالية من القصص
والحكايات الصغيرة عن المهمشين والفقراء والمجروحين، وكل من تقابله فى
الطريق يعانى من مشكلات حياتية.
الفيلم محاولة جديدة ومخيفة، إذ يحاول أن يجرب إلى أى حد
يمكن له التركيز على مفهوم الزمن بالغوص فى اللحظة الإنسانية، عوضًا عن
مفهوم القصة المتداول.
عند مشاهدة الفيلم ستمر بتجربة مفعمة بالجرأة، وتقتحم آلة
العرض المسموعة صوتها فى أثناء ما تعرض السيدة ما يدور فى ذاكرتها من
حكايات بطريقة غير سردية تعرض تراجيديا الإنسان المعاصر وهو يخرب نظام
الحكى ليجعل الزمن مكان القصة، وبديلًا عنها مهما تعددت القصص وتساقطت فوق
بعضها كحبات السبحة المنفرطة، حيث تصبح العين أو الأصبع علامة على التعداد
أو الإشهاد ليدخل المشاهد فى دوخة سينما بصرية صافية تنبجس من عين امرأة
مُسنة لا ترى، لكنها تنظر وتبصر من خلال تربعها على عرش الرؤية داخل قاعة
سينمائية تسكنها أشباح حبيسة ومغلقة عليها باب كتب عليه أن من خلف الجدار
كلهم من ضحايا الحياة، من ضمن كبار السن المهدور حقهم من الاهتمام
والعناية، ففى نهاية كل حكاية من السبع أو الثمانى- لن تتعرف على عدد
الحكايات المعروضة فى الفيلم- تنقل للمشاهدين إحساس الألم الذى تشعر به
ضحية الحياة، كمثل حكاية سيدة فقدت ابنها الوحيد تحتضن صديقه الذى جاء
ليخبرها بنبأ الوفاة، تتعامل الأم مع الصديق كما لو كان ولدها بل وتقدم
للصديق وجبة لفردين.. أو الأم الصغيرة التى تدفن رضيعتها وتهيل التراب على
جسدها، وفى مشهد ذى لغة شعرية رقيقة تعتصر الأم ثديها الممتلئ باللبن لتسقط
قطرات دسمة على قبر الطفلة، ربما تركت لها وجبة العشاء قبيل تركها فى سلام
بين أحضان تراب الأرض.
لم ينل المهمشون حظًا من الحياة، وهو ما يعبّر عنه «بلعباس»
من خلال مشهد عامل البناء الذى يقوم بطلاء حائط باللون الأبيض فيخلط الأحمر
على الواجهة والأزرق فى الجهة المقابلة، ويصرخ ببعض أبيات من الشعر، ويشدو
بصوت مبحوح بأغنيات من الفلكلور المغربى الذى يحمل نزعة صوفية تظهر فى
حكايات الفيلم من خلال موسيقى تصويرية وغناء، والأشعار والمشاعر والحديث
إلى الله بالنظر إلى الأعلى.
سيتعاطف المشاهد مع كبار السن، إضافة إلى الأطفال الذين لا
يقلون براءة عن امرأة تغسل والدها وتودعه بعد أن سألت جارها المساعدة فى
ذلك عن طريق ملء دلوين من الماء، لأن الماء سر الحياة خاصة لمعدومى الحياة
مثل هؤلاء، فدائمًا نجد أبطال الفيلم فى مشاهد يملأون الأوانى بالماء
الجارى من الصنابير العامة أو من المطابخ، هناك سائل فى معظم المشاهد، وإن
لم يكن ماء فهو قطرات حليب من ثدى الأم الثكلى.
نجح المخرج فى توظيف مواهب الممثلين الذين يقفون أمام
الكاميرا للمرة الأولى كما لو أنهم محترفون، فيحسب له تقديم مواهب جديدة،
فبعضهم من سكان القرية الصغيرة مسرح أحداث الفيلم، وآخرون محترفون.
الفيلم من بطولة مجموعة من سكان القرية من زوجات وأزواج
وأمهات وأطفال، ومن بطولة: أمين الناجى، حسناء مومنى، حميد نجاح، زهور
السليمانى، سناء العلوى، سعيد السكاكى، يونس يوسفى، فاطمة الزهراء لخويتر،
أمين التليدى.
«غدوة»..
تجربة ظافر العابدين مع شقيقه المصاب بالسرطان
لم يأتِ فوز فيلم «غدوة»، من بطولة وإخراج الفنان التونسى
ظافر العابدين، بجائزة الاتحاد الدولى للنقاد السينمائيين
«FIPRESCI»
من فراغ، فموضوعه الفريد غير التقليدى أهّله لحصد تلك الجائزة ضمن فعاليات
النسخة ٤٣ من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى.
تدور أحداث الفيلم فى أعقاب الثورة التونسية فى عام ٢٠١١،
بالتزامن مع بدء حملات وطنية للمطالبة بالقصاص من نظام الرئيس السابق زين
العابدين بن على، لتحقيق العدالة والأخذ بالثأر.
ففى هذه الأثناء يناضل المحامى الحقوقى «حبيب بن عمر»، الذى
يجسده ظافر العابدين، سعيًا وراء الأدلة والإثباتات التى تدين الحكومة
السابقة، أو «حكومة الديكتاتور» كما أطلق عليها، إلى جانب المطالبة
بتعويضات من المؤسسات الفاسدة.
«حبيب»
منفصل عن زوجته خلال الأحداث، ويعيش مع ابنه «أحمد» فى شبه عزلة، نظرًا
لسوء حالته النفسية وتوقفه عن العمل بسبب تلقى أدوية علاج نفسى، الذى
يباشره ويتابعه الابن المراهق نفسه، الذى جسده الفنان الشاب أحمد برحومة.
الفيلم من كتابة وإخراج ظافر العابدين كأول تجربة كتابة
سينمائية له، قدم خلالها سيناريو بشكل مركب، ظاهره أن العلاقة بين الأب
وابنه هى المعضلة الأساسية التى تدور حولها الأحداث، فمن خلال هذه العلاقة
تنبثق كل الأحداث، التى تبدأ بمشهد مُشجع على استكمال المشاهدة.
فى هذا المشهد نرى «حبيب» يركض فى الشارع بين رجلين
يطاردانه، ولا نعرف هويتهما.. دخول مباشر وسريع إلى قلب أحداث السيناريو
وخيوطه الدرامية، التى تدور حول الشخصية المحورية فى الفيلم، وهو «حبيب بن
عمر» المصاب بخلل نفسى جراء تاريخه السياسى وسجنه، بالإضافة إلى شعوره
بالظلم والمهانة لضحايا الثورة الذين لم يستطع تعويضهم، ما صنع تراكمات
نفسية شديدة تؤثر على عمله وحياته وعلاقاته بالآخرين.
فنجده يطارد أشباحًا وشخوصًا خيالية غير موجودة على أرض
الواقع، بأداء تمثيلى رائع ومحترف فى تجسيد هذا الدور النفسى، ودور الابن
الذى يرعى والده، فمع تطور الأحداث ينقلب الدوران، فيصبح الابن هو الأب،
والأب هو الابن الذى يهرب من مواجهة ابنه كالمراهق المخطئ الخائف من العقاب.
ويظهر هذا فى مشهد يفتش فيه الابن حقيبة والده، حتى يطمئن
على أنها لا تحوى السجائر التى أقلع والده عنها، وكذلك فى مشهد إعطاء
الوالد قرص الدواء، فيتظاهر «حبيب» بتناوله، ثم يبصقه فى سلة المهملات دون
أن يراه الابن.
وتعد مشاهد «القط والفار» بين الأب وابنه هذه فى غاية
الأهمية، لأنها تبرز جماليات السرد الدرامى فى الفيلم، الموزع على مشاهد
وفقرات، وليس كما هو المعتاد فى تقديم الشخصيات وأساس الأحداث منذ البداية
كنوع من «تغشيش المشاهدين».
فمن خلال مشاهد الوصايا المفروضة على «حبيب» من قبل ابنه-
مثلًا- نعرف إصابته بلوثة عقلية جعلته مقيمًا فى المنزل يتلقى الاهتمام من
ابنه وجيرانه، كأى مريض نفسى غير قادر على تحمل مسئولية نفسه أو غيره.
ولم تُثقل السياسة أو تقلل من شاعرية الفيلم وعذوبته،
فالعلاقات الوهمية التى خاضها «حبيب»، ومنها علاقته بجارته «سعدية»، التى
تعتقد أنها من أشباح خياله، تمتلئ بالحنان والاهتمام والرغبة.. لكن هناك
خيالات مزعجة أخرى، مثل هروبه من أشخاص يضعون له السم فى الخبز الموضوع على
مائدته داخل منزله، فكما يجد الثقة والاطمئنان، يجد الغدر على المائدة
نفسها، بما يشير إلى إصابته بـ«البارانويا».
يقول «ظافر»، فى كلمته للصحافة بعد انتهاء عرض الفيلم كأول
عرض عالمى فى النسخة ٤٣ من مهرجان القاهرة السينمائى الدولى، إن قصة الفيلم
مبنية على تجربة عاشها هو شخصيًا مع شقيقه الذى أصيب بمرض السرطان،
وانتظروا أكثر من عام حتى جاء دوره لدخول المستشفى وتلقى العلاج، وهو ما
جعله يفكر فى كيفية تقديمه المساعدة للمواطن التونسى.
وتطورت الفكرة لتشمل الكثير من القضايا التى يجب طرحها وما
زالت بحاجة إلى التعديل والتطوير، تمامًا كما قالها فى واحد من مشاهد
الفيلم المهمة، عندما يسلم ابنه ملف القضايا والمطالبات قائلًا: «هذا حق
التوانسة فحافظ عليه عشانهم». |