لا مسطرة واحدة في البحث والإعداد للفيلم الوثائقي
·
كتاب "جدل التجارب" يؤسس نظرية خاصة حول السينما الوثائقية
العربية.
·
كل شيء في هذه الحياة يحتاج إلى التوثيق بشكل أو بآخر،
تجميد اللحظة من عمر الزمن هو أكثر من ضرورة، وهذا ما توفره الأفلام
الوثائقية أيا كانت مواضيعها فهي تتناول جزءا حيويا من حياة كاملة، وبهذا
وجد هذا النوع الفيلمي مداه في كونه ليس إلا امتدادا للحياة نفسها بجميع
متغيراتها، لكن ماهي شروط نجاح الفيلم الوثائقي؟ وما هي سماته؟
عمان
– يقدم
الكاتب الأردني محمد محمود البشتاوي في كتابه “جدل التجارب” تحليلاته ورؤاه
التي تتناول إنتاج الأفلام الوثائقية، عربيًّا وعالميًّا، عبر سبعة أبواب
توقفت عند نماذج سينمائية مثلت بيئات إبداع متعددة في إطاراتها الزمانية
والجغرافية والحضارية.
ووفقًا للباحث في الشؤون الثقافية والسينما تيسير مشارقة،
فإن البشتاوي “يحاول التأصيل والتأسيس لنظريته الخاصة في التحليل للسينما
الوثائقية”، متيحًا للقارئ أن يستخلص الرؤية النقدية والمنهج النقدي
والخطوط التحليلية التي عمل عليها.
رحلة نظرية
يتوقف المؤلف بداية عند تجربة المزاوجة بين التخييل الدرامي
والتسجيلي الواقعي من خلال معالجة عدد من القضايا المتصلة بـ”الوثائقي
الإبداعي” والتجريب السينمائي الإبداعي في إنتاج الأفلام الوثائقية.
ويقدم
في هذا السياق ثلاث تجارب فيلمية عبر معالجات نقدية لها، وهي “بعيدًا عن
الوطن” لقيس الزبيدي، و”المنام” لمحمد ملص، و”تمتمات منى” لإيهاب خمايسة.
وخُصص الباب الثاني للومضة الوثائقية (الأفلام الوثائقية
القصيرة جدًا)، وفيه يعاين المؤلف الحالةَ الإبداعية في الاختزال والإيجاز
والتكثيف، ثم ينتقل إلى تناول سمات الومضات التسجيلية، من خلال قراءات
نقدية في خمسة أعمال هي: “اغتيال جنة”، و”شق”، و”البرج”، و”بحلم”،
و”الحياة المعلقة”.
الكاتب يضع الفيلمَ الوثائقي في بوتقة التجربة بسؤاله الذي
يقدّمه في العنوان بصيغة "جدل" لإيمانه بالتنوع والتعدُّد
ويقدم المؤلف في الباب الثالث تحليلًا لفيلم “مقتل
السيناتور”، مصطحبًا القارئ من مرحلة تبلور الفكرة الوثائقية مرورًا
بعملية الإنتاج وصولًا إلى مرحلة العرض على الشاشة.
ويورد في هذا الباب جملة من النصائح في كيفية صياغة مشاريع
الأفلام الوثائقية وكتابة الفكرة ومعالجتها، مؤكدًا بحسب المشارقة “أن لا
مسطرة واحدة في البحث والإعداد للفيلم الوثائقي”. أما الباب الرابع فيمثل
رحلة نظرية تؤسس لمعرفة أفضل في إنتاج الفيلم التسجيلي الوثائقي من خلال
التركيز على مسائل على غرار وحدة الموضوع وتعدد الخيوط.
ويقدم
البشتاوي في هذا السياق معالجة وافية للمحتوى الموضوعي والرؤية البصرية
لفيلم “البدول” لمخرجه محمد سلامة. كما يركز على أهمية تدوير زوايا الرؤية
وكيفية الذهاب إلى الهامش أثناء معالجة قضايا مركزية ومُلحّة في الفيلم
الوثائقي، ممثلًا على ذلك بفيلم “اغتيال الحريري” للمخرجة بهية نمور التي
تمكّنت من إبراز الجوانب المهمشة والإنسانية المغيبة إعلاميًا.
وينطلق البشتاوي من فكرة أن الفيلم هو “عبارة عن رحلة بحث”،
وهو ما أكده في سياق معالجته لفيلم “عندما يُستهدف الصحافيون” للمخرج بشار
حمدان الذي تجوّل عبر عدسة الكاميرا في الأراضي الفلسطينية المحتلة
والعالم. كما يتوقف عند جماليات الصورة وبساطة السرد الوثائقي في فيلم
“طبيب في الأرياف” للمخرج خيري بشارة.
ويفرد المؤلف مساحة في كتابه للفيلم التاريخي الذي يلتزم
بالصورة الوثائقية، موضحًا جوانب سطوة الصورة في هذا النوع من الأفلام،
ومؤكدًا أن التاريخ يمكن معايشته من خلال الصور الناطقة التي تقدمه بصيغة
“سرد بصري”، وهو ما يؤسس للتاريخ المرئي أسوة بالتاريخ الشفهي والمكتوب.
وتطبيقًا لهذه الرؤية، يستشهد البشتاوي بفيلمَي “وعد بلفور” و”سودان مايو”.
ويحرص المؤلف على التأصيل النظري للفيلم الوثائقي
الاستقصائي؛ لافتًا إلى أن هناك اشتراطات واضحة للتحرّي والتقصّي، وأنّ
الإعلامي في هذا الحقل يبذل مجهودًا كبيرًا في عملية البحث وجمع المعلومات
وتحليلها، والوصول إلى مصادر خاصة، وتقديم مادة تتسم بالدقة والعمق
استنادًا إلى علم الفرضيات، وصولًا إلى “محاولة الكشف عن جديدٍ يزيل الغموض
عن الجهة المسؤولة عن الواقعة”.
ويؤكد البشتاوي أن الطريق محفوفة بالتحديات في النوع من
الأفلام، ويستعرض أساليب المعالجة الفنية والبصرية للفيلم الاستقصائي،
متوقفًا عند أربعة أفلام استقصائية نقّبت في المسكوت عنه في القطاع الصحي،
وهي “ابتسامة مهربة” و”سماسرة الدواء” و”تجارب دوائية خلف الأبواب
الموصدة”، و”هل يصنع القتَلة الدواء”؟
في بوتقة التجربة
يقدم المؤلف في سادس أبواب الكتاب وجهة نظره في الفيلم
التسجيلي العربي، ويتناول مسائل من بينها؛ الموسيقى وتوظيفها في علاقة
جدلية ما بين الصورة والنغمة، و”الوثائقي الفلسطيني” وغياب أرشيف مرجعيّ،
وجماليات المكان في الفيلم الوثائقي عبر ثلاثية سلطنة عُمان ضمن برنامج
“كاميرا ومدينة” للمخرج عايد نبعة.
وفي سياق حديثه عن هذه الثلاثية التي عُرضت على قناة
الجزيرة، يوضح البشتاوي أن نبعة انطلق في رؤيته الإخراجية مما تتميز به
عُمان من “ديناميكية بصرية ساحرة”، إذ تشهد تنوعًا في الجغرافيا، والمناخ،
والغطاء النباتي، الأمر الذي يمنحها جماليات من نوع خاص.
ويضيف “هذه الجماليات، يبحثُ عنها المخرج بعينهِ اللاقطة،
والتي تُحالُ إلى المخيلةِ لبحثِ كيفية إنتاج المشهد بصورته النهائية”،
مستعيدًا وصف نبعة للبيئة العُمانية “سلاسل الجبال، وتدرُّج الضوء، وصوت
الماء المنساب في الأفلاج تحت الأرض وخارجها، يجعل منها مكانًا يمتلك
المقومات السياحية المميزة، سواءً التراثية أو الطبيعية، في معظم المدن
والمحافظات العُمانية”.
وينقل البشتاوي ما التقطته عين نبعة من جمال عمراني في
مسقط، فهي “مدينة ملتزمة بعدم بناء الأبراج الضخمة، وحافظت على البساطة،
وتجد اللون الأبيض الصافي هو اللون المسيطر على المشهد، ويحيط به اللون
البني المكوّن للجبال الصخرية التي تلف المدينة، مع وجود لمسات أخرى لألوان
متعددة تشكل زركشات لها هويتها الخاصة”.
أما الشواطئ الرملية في السلطنة، فـ”تمنح زائرها الراحة
والهدوء، فالشواطئ تحيط بها سلاسل الجبال بألوانها البنية المتدرجة،
بالإضافة إلى مشهد مغاير لا يمكن أن تجده في مكان آخر وهو انتشار الأزهار
على الأرصفة والحدائق العامة، فمنظر الأزهار يمنح الزائر والسكان الطمأنينة
ويذكرك دائمًا بالجمال، فتجد السكينة واللطف يسيطران على المكان”.
شملت الأفلام التي تناولها الكتاب بالتحليل 27 فيلمًا، منها
خمسة أفلام لمخرجين عالميين من أمثال مايكل مور والأخوين لوميير وراشيل
دريتزين وفيل بيرتسن وجيمس لونغلي وسانتياغو ألفاريس
ووفقًا لبشتاوي، يرتكز نبعة في معالجته الفنية للثلاثية على
ما يُسمِّيه “الوثائقي الإبداعي”، أي أنه عَمِدَ إلى “إعادة إنتاج اللحظة،
والتقاطها ضمن لقطة مرسومة، وحوار شبه متفق عليه، هو ليس نصًّا مكتوبًا، بل
على العكس؛ يعتمد على تلقائية الضيوف، لكنه يصوّر ويقطّع بطريقة الفيلم
الروائي، الأمر الذي ربما يخدم النصوص التي تقال، ويضعها في حالة من
الديناميكية البصرية لتصل للمشاهد، وتخدم عملية التلقّي، فيمكن القول إن
هذا العمل الوثائقي جاء في سياق درامي”.
ويختم البشتاوي كتابه ببابٍ للفيلم الوثائقي الفلسطيني،
مستندًا إلى مشاركات وأطروحات لعدد من المختصين في هذا المجال؛ ومن بينهم
الناقد الفلسطيني الراحل بشار إبراهيم الذي كرّس حياته لتوثيق السينما
الفلسطينية، وروان الضامن التي تحدثت عن تجربتها في إنتاج الأفلام
الوثائقية، وإيهاب خمايسة الذي أكد أن “الوثائقي الفلسطيني” ليس مجرد بيان
سياسي، وتيسير المشارقة الذي تناول الجيل الجديد في السينما الوثائقية
الفلسطيني. كما يشتمل الباب على دراسة للبشتاوي عن تجربة المصوّر الراحل
هاني جوهرية.
من جهته، قال الناقد حسين نشوان في كلمة له على الغلاف
الأخير للكتاب الصادر عن “الآن ناشرون وموزعون”، إن البشتاوي “يضع الفيلمَ
الوثائقي في بوتقة التجربة بسؤاله الذي يقدّمه في العنوان بصيغة (جدل)؛
لإيمانه بالتنوع والتعدُّد وحدود المغامرة التي يلامسها الفيلم الوثائقي
تاريخيًّا”.
وشملت الأفلام التي تناولها الكتاب بالتحليل 27 فيلمًا،
منها خمسة أفلام لمخرجين عالميين من أمثال مايكل مور والأخوين لوميير
وراشيل دريتزين وفيل بيرتسن وجيمس لونغلي وسانتياغو ألفاريس، إضافة إلى 22
فيلمًا عربيًا بدءًا من فيلم “بعيدًا عن الوطن” الذي أُنتج عام 1969 للمخرج
قيس الزبيدي، وصولًا إلى أعمال تنتمي إلى الألفية الجديدة من دول عربية
عديدة، من بينها عُمان والأردن ولبنان ومصر والسودان. |