لأن السينما هي إحدى صلات الوصل الرئيسة في تعزيز وتطوير
العلاقات الثقافية والاجتماعية بين الشعبين السعودي والفرنسي، نظمت جمعية
الصداقة الفرنسية السعودية "جيل 2030" فعالية "ليالي
السينما السعودية"
في باريس التي أنشأها مهرجان
البحر الأحمر السينمائي الدولي.
وكان معهد العالم العربي قد احتضن الفعالية عشية افتتاح
مهرجان كان السينمائي في دورته الرابعة والسبعين، حيث حضر الجمهور الباريسي
مجموعة من الأعمال الأخيرة لعدد من المخرجين السعوديين الشباب، الذين حصل
بعضهم بالفعل على جوائز دولية.
سينما سعودية واعدة
وأكد جاك
لانغ رئيس معهد
العالم العربي في
باريس معلقاً على الحدث، أن السينما السعودية اليوم في أوج نهضتها وهي تعمل
لتقدم للجمهور السعودي والعالمي صالات عرض سينمائية جديدة ومجددة تتيح
الفرص أمام الموهوبين الشباب وتسمح كذلك للمنتجين والموزعين والعارضين بأن
يدعموا ويشجعوا الإنتاج السينمائي في المملكة.
وأشار إلى أن مهرجان البحر الأحمر هو مهرجان فريد من نوعه،
إذ إنه يحظى ببرنامج متنوع واسع تتخلله جلسات نقاش ولقاءات ثرية ما يوفر
مساحة مناسبة أمام السينمائيين السعوديين الشباب من الجنسين لإظهار
مواهبهم.
وتوجه السيد لانغ بالشكر العميق لجمعية الصداقة الفرنسية
السعودية جيل 2030، لتنظيمها هذا الحدث الذي عرّف الجمهور الفرنسي بالسينما
السعودية.
كما توجه بتحية خاصة للأمير بدر بن عبد الله بن محمد بن
فرحان آل سعود وزير الثقافة السعودي الذي أطلق منذ عدة سنوات عملية تحول
وتطوير مذهلة في القطاع الثقافي، مبيناً أن السياسة التي يتبعها تجاه
المتاحف والمسرح وفن الطبخ السعودي وكذلك في مجال الأزياء والأدب والسينما
والإبداع الإعلامي والموسيقى، مثيرة للإعجاب بالفعل، فاليوم، القليل فقط من
البلدان هي التي تبذل الغالي والنفيس من أجل الثقافة بكل هذه الحرارة
والحماس.
وعبر جاك لانغ عن عمق الصداقة وقوة المشروع الثقافي المشترك
بين فرنسا والمملكة العربية السعودية، مؤكداً ثقته في أن السينمائيين
السعوديين، رجالاً ونساء، سينجزون في الأيام المقبلة كثيراً من الأعمال
العظيمة التي ستبهر العالم ومحبي السينما في كل مكان.
من جهتها أكدت إدارة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي،
أن المهرجان يسهم في تطوير السينما السعودية اليوم من خلال عدة مبادرات
كانت تهدف منذ البداية إلى تشكيل بنية تحتية سريعة لقطاع صناعة الأفلام.
من بين المبادرات معمل البحر الأحمر السينمائي لتطوير
المشاريع السعودية، إضافة إلى صندوق "تمهيد" الذي انطلق لدعم الإنتاج
المحلي في السينما، وقد قام بتمويل فيلمين سينمائيين هما: فيلم "أربعون
عاماً وليلة" الذي يعرض ضمن فعالية باريس، وهو من إخراج محمد الهليل،
وإنتاج عبد الرحمن خوج، وفيلم "شمس المعارف" للمخرج فارس قدس، وشقيقه
المنتج صهيب قدس.
كذلك ومن خلال سوق البحر الأحمر، تتوفر مساحة لاكتشاف
المواهب والمشاريع والأفكار التي تعزز صناعة السينما في السعودية والعالم
العربي. وهي مساحة أيضاً، للموزعين والمنتجين والراغبين في تطوير مشاريعهم
في المنطقة.
وأوضحت رئيسة جمعية "جيل 2030"، أن التفاعل الكبير الذي
لاقته الفعالية من الجمهور الفرنسي، يؤكد نجاحهم في إيصال رسالتهم الثقافية
المشتركة. لقد قال بعض الحاضرين إنهم يشاهدون السينما السعودية للمرة
الأولى، وشبهوا هذه التجربة بالسفر، إذ اطلعوا من خلال الأفلام المعروضة
على المجتمع السعودي كما لو أنهم زاروه بالفعل، وتعرفوا على بعض عاداتنا
وتقاليدنا، كما شاهدوا ملامح موروثنا الثقافي الغني.
وبشكل عام، أكدت أن الجمعية تسعى إلى تسليط الضوء على
المواهب السعودية في المحافل الدولية، ليس فقط من خلال السينما، وإنما
أيضاً في كافة مجالات الفنون والثقافة.
وقالت: "نحن ثقافتان مختلفتان لكن الشغف بين الموهوبين
والمهتمين هو دائماً صلة الوصل. ورسالتنا تكمن في تقوية هذه الصلة
وتعزيزها، فالثقافة وسيلة لكسر الحواجز وطريقة مثالية للتعارف والاطلاع
الثقافي".
وأضافت أن الجمعية مهتمة كثيراً في التعريف بالسينما
السعودية وخلق مجالات واسعة لتطويرها في بلد مثل فرنسا لها تاريخ كبير في
الصناعة السينمائية.
ليلة من الاكتشاف
تضمن جدول العرض في تلك الأمسية السعودية الباريسية، خمسة
أفلام: أربعة أفلام قصيرة، وفيلماً روائياً طويلاً، قدمت جميعها في نسختها
العربية الأصلية مصحوبة بترجمة إلى الإنجليزية أشرفت عليها الإدارة الفنية
لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي.
أمسية استثنائية، سلطت الضوء على سينما جديدة في طور
النهضة. وعرضت أمام الفرنسيين أفلاماً عالجت قضايا مهمة وجدلية في المجتمع
السعودي.
لقد كشف فيلم "أربعون عاماً وليلة" للمخرج محمد الهليل، عن
سلسلة علاقات اجتماعية تتداخل فيها مجموعة من الإشكاليات اليومية ضمن حبكة
تتصاعد أحداثها تباعاً إلى أن تصل حد الانفجار وانكشاف الحقائق.
إنه يتطرق إلى فكرة الزواج الثاني بوصفه حدثاً خطيراً يهدد
تماسك عائلة بأكملها، لا بوصفه أمراً عادياً يمكن التساهل معه، وعلى المرأة
تقبله كأمر واقع من الطبيعي حدوثه.
العلاقات في هذا الفيلم الروائي الطويل معقدة تجمع بين
شخوصه بصفات عائلية وأخرى فوضوية. وبالطبع ثمة متسع لعلاقات المصلحة
والمال.
أما في فيلم "من يحرقن الليل" للمخرجة سارة مسفر، فتبدو
العلاقات العائلية بذات التعقيد، لكن هذه المرة من وجهة نظر شقيقتين
مراهقتين تسعيان من بدايته وحتى النهاية إلى اتباع خطى أحلامهن غير
المفهومة بخاصة مع قلة الصبر التي تتمتعان بها.. لكن الليل كان كفيلاً بفرد
الأسرار وتجلي الأحلام، فيفتح باباً سحرياً لاكتشاف الذات وفهم المشاعر
المتناقضة.
وفي المشاهد المتنقلة داخل منزل الشقيقتين، نلقي نظرة خاطفة
على بعض ركائز التراث السعودي: طقوس عائلية، أهازيج وأغان من الموروث
الشعبي. إنها عادات يومية ترسم ملامح الإنسان السعودي وتضفي الجمالية
والصدق على هذه الدراما السينمائية.
وبدوره، يسلط فيلم "ارتداد" لمخرجه محمد الحمود، الضوء على
العلاقات الاجتماعية في السعودية، حيث الاختلافات الثقافية تلعب دوراً
كبيراً في حياة الشخوص. ويتناول بشكل خاص، المناطق الريفية في المنطقة
الجنوبية من المملكة من خلال قصة زوجين حديثين يأتيان لأول مرة إلى مسقط
رأس الزوج، وهناك تبدأ الفوارق العميقة بالظهور ويبدو أنها ستحدد مصير هذه
العلاقة الناشئة.
كذلك نجد صراعات داخلية عميقة جداً في فيلم "ومتى أنام؟"
للمخرج حسام السيد، حيث تلعب الكاميرا دور المستكشف والباحث عن إجابة
منطقية لسؤال العنوان. ثمة خيالات وأمور أخرى قد تكون حقيقية لكنها تأتي
على شكل أحداث غريبة تتداخل مع بعضها البعض، كما لو أنها أفكار شخص فاقد
التركيز ومشوش بسبب قلة النوم.
وأثناء معاناته، يحاول هذا الشخص اكتشاف ملامح مدينته. يجوب
بسيارته ليلاً في شوارعها وأحيائها، فيسمع صوتها وحدها بعيداً عن الضجيج
البشري الذي تعج فيه خلال النهار.
وفي فيلم "موال تاني" للمخرج هشام فاضل، يأخذ انكشاف الذات
مستوى آخر يضع الإنسان أمام مرآته الحقيقية. يتحدث الفيلم عن واقع امرأة
وحيدة، تعاني من روتين قاتل يقودها إلى الاكتئاب الذي هو سبب ونتيجة في
الوقت نفسه. لكن الفكرة الأساسية تكمن في ذلك الصوت الذي تسمعه المرأة
أثناء ممارستها لكل أفعالها اليومية، بدءاً من الاستيقاظ، مروراً بدخول
الحمام وفي الطريق إلى العمل، ثم العمل ذاته وصولاً إلى العودة إلى ذات
المستنقع.
الصوت لا يهدأ أبداً طيلة الفيلم، إنه صوت لامرأة تعلق على
تصرفات الشخصية الرئيسة الصامتة. إنه في الحقيقة مونولوجها الداخلي الصادق
والرافض لكل التمثيل والازدواجية في حياتها. ويتصاعد المونولوج شيئاً
فشيئاً إلى أن يصل إلى مرحلة الذروة في منتصف الأحداث حين نسمع الصوت: "مين
أنت؟ ولا أحد.. كنت تحسبي حتصيري إنسانة مهمة بس ما صرت ولااا شي".
بعد جلسة المكاشفة تحاول المرأة الانتحار، إنها لم تعد
تحتمل مزيداً من الإحباط فالاستقلال ثمنه صعب جداً.. لكن يحدث وأن تتصالح
مع صوتها الداخلي وتبدأ مرحلة التعافي والانتصار على الاكتئاب.
انتهت الأمسية، لكن التجربة مستمرة. والفرنسيون وبعد ما
اطلعوا على هذه الأفلام، ينتظرون اليوم المزيد من الصناعة السينمائية
السعودية، التي يبدو أنها واعدة بالفعل. |