أبطال فيلم «يهودا والمسيح الأسود» يكشفون لـ«القدس العربي»
كيف تخترق «أف بي آي» المنظمات وتدمرها من الداخل
حسام عاصي
لوس أنجليس – «القدس العربي» : أطلقت شبكة نتفليكس نهاية
العام الماضي فيلم «محاكمة السبعة في شيكاغو» حيث طرح أحداث محاكمة سبعة من
قياديي الحركات المناهضة لحرب فيتنام، الذين اتهموا بالتحريض على العنف ضد
الشرطة، خلال مؤتمر الحزب الديمقراطي، للتصديق على مرشحهم في الانتخابات
الرئاسية عام 1968.
تلك التهم وجهت أيضاً لزعيم حزب «الفهود السود» بوبي سيل،
رغم أنه لم يكن موجوداً في شيكاغو عند وقوع تلك الأحداث. آنذاك ساعده في
الدفاع عن نفسه في المحكمة نائبه، رئيس فرع «الفهود السود» في شيكاغو، ابن
الـ 21 عاماً فريد هامتون.
وفي أحد مشاهد المحكمة منتصف الفيلم، يستشيط سيل غضباً
عندما يُعلن عن مقتل هامتون خلال اشتباكات مسلحة مع عناصر من مكتب
التحقيقات الفدرالية (أف بي آي) حسب تقارير الصحف، التي صرحت أن قوة
تكتيكية تابعة لـ«أف بي آي» داهمت شقته فجر الرابع من ديسمبر/كانون الأول
عام 1969 وتعرضت لإطلاق نار منه وزملائه، فقتلته وقتلت أحد رفاقه، واعتقلت
الآخرين، الذين أصيب العديد منهم بجراح خطيرة.
لكن «الفهود السود» أنكروا ادعاء «أف بي آي» والشرطة،
مؤكدين أن ثمانين طلقة أُطلقت عليهم، بينما لم يُطلق من جانبهم إلا طلقة
واحدة، وأن هامتون قُتل بطلقتين في رأسه، بينما كان نائماً بجانب زوجته
الحامل.
ورغم أن تحقيقات مستقلة أثبتت طرح «الفهود السود» إلا أن
المحكمة أدانت زملاء هامتون الناجين بإطلاق النار على رجال الأمن، وحكمت
عليهم بالسجن.
تواطؤ مكتب «أف بي آي»
لكن تم إطلاق سراحهم عندما كشفت وثائق سرية، سُرقت من مكتب
«أف بي آي» في بنسلفانيا، أن الجهاز جند لصاً لمساعدته في الوصول الى
هامتون وتخديره وحراسه قبل مداهمة شقته، وبناء على تلك الوثائق يتابع فيلم
«يهودا والمسيح الأسود» أحداث عملية اغتيال هامتون، الذي يجسده البريطاني،
دانييل كالويا، على يد «أف بي آي».
«كلما تحدثت إلى أحد من شيكاغو خلال تحضيري للدور كانوا
يذكرونه بأسمى درجات التقدير، وما زال حضوره ماثلاً فيهم حتى الآن» يعلق
كالويا.
ولد هامتون في ضواحي شيكاغو عام 1948، وبعد تخرجه من
المدرسة الثانوية بمرتبة الشرف عام 1966، درس القانون ليستخدمه كوسيلة دفاع
ضد الشرطة.
وفي الوقت نفسه أصبح ناشطاً في الجمعية الوطنية للنهوض
بالملونين، حيث أظهر قدرات قيادية فطرية، ما أسهم في حشد الآلاف من الشباب
من أجل تحقيق تغيير اجتماعي من خلال التنظيم المجتمعي والنشاط السلمي.
«دافعه كان حبه للناس» يعلق كالويا. «وهذا يبين أن من كان له مثل هذا الحب
الكبير والعميق يمكنه فعل أي شيء وفي أي سن كان.»
لكن تدريجياً صار هامتون ينجذب الى نهج حزب «الفهود السود»
الذي نشأ في ظل عجز منظمات الحقوق المدنية عن تحسين وضع السود الإقتصادي
والاجتماعي والسياسي في الولايات المتحدة، وحمايتهم من عنف الشرطة، التي
قتلت المئات منهم. وقد استلهم الحزب نهجه من الزعيم المسلم مالكولم أكس،
الذي لم ينبذ استخدام العنف في الدفاع عن السود.
فحمل أعضاؤه السلاح وتصدوا للشرطة في معارك دموية، وهو ما
جعله في نظر البيض، حزباً إرهابيا. واستهدفه «أف بي آي» في حملة شرسة
لتدميره وتصفية أعضائه من خلال مشروع «كوينتليبرو» السري، الذي هدف لمراقبة
واختراق وتشويه سمعة المنظمات السياسية والتحري عنها.
«أمريكا كثقافة هي أفضل من قام بالدعاية التحريضية» يقول
مخرج الفيلم شاكا كينغ «الفكرة التي صُوّرت أنها منارة الاستقامة
الأخلاقية، التي يجب على العالم أن يتعلم منها، بينما يوجد تمييز عنصري
فيها وتمكنوا من إقناع الناس أنني كأسود أمثل الخطر. وعندما لم يتمكنوا من
إقناع الناس بذلك قتلوا وأمعنوا في القتل.»
وفي عام 1968، انضم هامتون للحزب، وبعد تسلمه زمام رئاسته في العام نفسه،
نجح في توحيد جميع حركات وعصابات الملونين، تحت شعار واحد. وأسس حركة
«اتحاد الرينبو». لكن فعاليات حركته لم تقتصر على التصدي للشرطة، بل ضمت
خدمات صحية وتربوية وثقافية في حارات الملونين وتقديم وجبات فطور للأطفال،
ما أثار مخاوف رئيس «أف بي آي» جاي إدغار هوفر، الذي وصفه بـ»المسيح
الأسود» وكلف أحد عملائه وهو روي ميتشل، بتصفيته. «قبل ظهور الإنترنت لم
نكن نعرف كل هذه المعلومات» يقول كينغ «كل ما كنا نسمعه عن الفهود السود
كان مصدره «أف بي آي» وما تنشره الصحف.»
التدمير من الداخل
من أجل اختراق الحزب والوصول الى هامتون، يجند روي لصاً
أسود يدعى ويليام أونيل، للعمل لصالحه مقابل إعفائه من السجن بعد أن قبض
عليه وبحوزته بطاقة ضابط أف بي آي مزيفة.
«كل حركات السود تم اختراقها من قبل الإستخبارات الأمريكية
في الستينيات بهذه الطريقة من أجل تقويض طموحاتها» يقول لاكيث ستانفيلد،
الذي يجسد دور أونيل «بالنسبة لي كان صعباً تقمص شخصية أونيل، نظراً
لمشاعري تجاهه. لكن دأبت على معالجة تلك المشاعر وتخطيها، لأن المسألة لا
تتعلق بي ولا بمشاعري إزاء ما يقوم به، بل هي أن أقوم بسرد القصة بصدق
وشفافية.» ينضم أونيل لـ«الفهود السود» وسرعان ما يحظى بثقة هامتون، الذي
يعينه رئيساً للأمن. فيأمره روي باستغلال المنصب لإثارة الفتن داخل الحزب
وارتكاب جرائم باسمه، من أجل تلطيخ سمعته وتبرير استهداف «أف بي آي» له.
«في ذورة نشاط الحزب كان شائعاً أن تجد في صفوفه من لا
يمثلون مبادئه» يقول ستانفيلد «كان منهم مثيرو شغب زرعتهم الحكومة لكي
ينفذوا أنشطة إجرامية من أجل إظهار الحزب كمنظمة إجرامية.
هامبتون كان في العشرين من العمر ورفاقه كانوا شباباً
مراهقين، ممن لم تكن لديهم أدنى فكرة أن الحكومة تركز أبصارها عليهم لتتحرى
عن نشاطهم في حركة حقوق مدنية. في اعتقادي أنهم كانوا مرتبكين. من الواضح
أنهم كانوا يجهلون مقدار الرقابة الذي سلطت عليهم، فكانوا يرحبون بكل من
كان مندفعاً في قضية خدمة الشعب والدفاع عنه. في ذلك الوقت كان أمراً عصياً
الكشف عن دوافع المنتسبين الخفية. وكان شريط الأحداث سريعاً ما جعل أمر
التمييز عسيرا.»
الفيلم لا يقدم أونيل كشرير، بل كضحية لابتزاز السلطة، التي
تعرض لها كثيرون غيره من الأمريكيين السود، ودفعتهم الى خيانة قياداتهم
وارتكاب جرائم بحقهم. فكثير من الزعماء السود، مثل مالكوم أكس، قتلوا برصاص
ذويهم الذين جندوا على يد السلطات.
«رغم أن طموحه كان مختلفاً، أونيل ربما لم ينج من وقع حقيقة
كلمات هامتون عليه، لأنه كان يتفوه بالحق مثل المسيح في الإنجيل ولهذا أريق
دمه. فاجتاحه صراع بين إحساسه وواجب تأدية ما تبتغيه مهمته. كان هناك صراع
داخلي وأردت أن أسعى إلى إشهار ذلك بالقدر الذي أستطيع.»
فعلاً، في عام 1990، عبر أونيل عن شعوره بالندم حيال ما
ارتكبه بحق هامتون في لقاء صحافي قبل أن يقدم على الإنتحار. ذلك اللقاء
ساعد ستانفيلد في فهم شخصية اونيل والتماهي معه. «أدركت أن الأمر كان أعمق
مما نراه» يعلق ستانفيلد. «لم يكن مجرد واش أو شخصاً سيئاً.» بعد مرور أكثر
من عقد على مقتل هامتون، توصلت السلطات الأمريكية إلى تسوية مع عائلته
والضحايا الآخرين ودفعت لهم تعويضات قدرها مليون وثمانمئة وخمسين ألف
دولار، لكنها رفضت الاعتراف بالذنب، مصرة على أن هامتون كان إرهابيا وخطرا
على أمن الدولة، مستندة الى خطاباته التي كان يناشد فيها جمهوره بقتل
الخنازير البيض. لكن كالويا يرفض هذا التبرير.
«قتلوه لأنه كان أسود، وكان يؤمن بمؤهلاته ويؤمن بشعبه
وبتحرير شعبه» يعلق كالويا «قد يكونون تمكّنوا من الارتكاء على تلك الحجة،
وقد فعلوا. ولكني أتساءل عن سبب استخدامهم لتلك العبارة كمبرّر وهو كان تحت
أنظارهم. فلطالما تنصتوا عليه وراقبوه وهو لم يتجاوز بعد عقده الثاني. أشعر
أن قدرته على توحيد الناس حوله هو ما شكل الحد الفاصل وليس ما قاله أو
فعله.»
فعلاً، بعد اغتيال هامتون، توقفت الأنشطة الاجتماعية
والتربوية في حارات السود في شيكاغو، وحل محلها معاركُ دمويةٌ بين عصابات
تجارة المخدرات للسيطرة عليها، ما زالت مشتعلة إلى يومنا هذا.
أما دانييل كالويا، فقد نال مؤخراً ترشيحين لجوائز
الـ»غولدن غلوب» ونقابة الممثلين لأفضل أداء عن تجسيده دور هامتون، ويتوقع
أن يرشح أيضا للأوسكار. |