ملفات خاصة

 
 

فريد رمضان.. خلود الصورة*

بقلم: فهد توفيق الهندال

عن رحيل عراب الهوية

فريد رمضان

   
 
 
 
 
 
 

في كتابه (سرد المدن في الرواية والسينما) يذكر الناقد السعودي سعد البازعي أن فن الرواية لم يكن ممكنا ظهوره دون أن تتطور الحياة المدنية ، والسينما فن آخر لم يكن ممكنا ظهوره دون أن تتطور الحياة المدنية والرواية معا. معللا ذلك إلى أن كلا الفنين احتاج بطبيعة الحال إلى عناصر أخرى غير هذه لكي يتطور، لكن من المشروع بل والمفيد – كما يرى البازعي – أن ننظر إلى كليهما من الزاوية المقترحة، لأنها تفتح امكانات أوسع لتفسير ظهور الفنين وتطورهما على النحو الذي شهدته ثقافات العالم. الأمر الذي أوجد علاقة بين الرواية والمدينة من جهة، وعلاقة بين المدينة والسينما من جهة أخرى، لتجتمع كل العلاقات المرتبطة بين الفنون جميعا مشكلة/ مستدلة  لاتجاهات وطبيعة المجتمع الحاضن لها.

والسينما بوصفها ضربا من الابداع الرمزي، كان لابد من للتنظير السينمائي من أن يلتقي بالتنظير الرمزي الأم، وهو الخاص باللغة. ولهذا كان للسينما لغتها الخاصة التي لا تعتمد على النص المجرد، بقدر ما تتشكل على حركة الصورة، والايماءات مع مصادر الفعل والحوار المحرك للحدث، إضافة لعاملي الزمان والمكان والشخصيات الدرامية، وهي جميعا تقوم على استكمال الصورة في كتابة أي سيناريو، خاصة السينمائي.

بعد عدة أعمال روائية وقصصية ونصوص مشتركة، يقدم فريد رمضان عدة تجارب في كتابة السيناريو السينمائي، موازيا في ذلك هاجسه السردي لا سيما الروائي ونفسه اللغوي مع عينه الراصدة / المتحركة مع الزمن في مختلف تقلبات المكان. على اعتبار أن الصورة هي علامة سيميائية، تعتمد على الرمزية المعينة المختصرة والحية في حركتها.

يأتي فيلم (البشارة The Good Omen) لرمضان إضافة لعلمين آخرين (حكاية بحرينية، سكون) في محاولة استنطاق واقع ما ربما صمت اليوم.

يبدأ العمل في تركيزه على شخصين في الستينات من عمرهما في رحلة صيد السمك أسفل جسر يربط بين جزيرتين، يدخلان في صمت، ينصت فيه كل منهما لمونولوج داخلي يحاكي همه اليوم، يشتركان في رؤية المكان الذي انقض عليه الزمان الحالي في زحف العمران باسم المدنية على ملامح المكان وغيّره، كما هو حال ملامح وعوالم من فيه. ليشتركا في صمتهما/ انصاتهما لمونولوج داخلي لكل منهما في المشهد الأول:

(حسين: كلهم هدوا الجزيرة وراحوا اسكنوا في البر، في مدينة جديدة.. عليّ أنا عاد.. قلت لهم باتزوج وبظل في البيت اللي موعاجبكم..

جاسم: شيفيد ليبس البحر.. وطمروا الماي بالتراب.. كاهي المواتر تمشي على راسنا، احس ابها مثل المطارق تضرب في راسي.)

وبرغم اشتراكهما في الشكوى العامة، إلا أن لكل منهما محركه الخاص لعالمه:

(حسين: ماسمعوا كلامي.. خلوني وراحوا.. عيال هالزمن!

جاسم: غافلتني وراحت.. ما انتظرت ييتي من الشغل.. الله يهداها.)

ليتضح أن الأول حسين، يتحدث عن أولاده الذين يركوه وحيدا في بيته القديم، والثاني جاسم عن زوجته الراحلة، والرابط المشترك بينهما المكان/ الزمان.

 

اعتمدت الصورة على عدة نقاط نجدها جديرة في الملاحظة والرصد من باب الانطباع وليس التخصص النقدي السينمائي على الآتي:

الزمان/ المكان:

حيث ركزت على مفارقة الملامح بين الحي الشعبي والمباني العمرانية الجديدة المتمثلة في حضور ناطحات السحاب مقابل المقهى الشعبي الوحيد الساكن على الضفة القديمة من البحر بما يعادل الانكسار/ التوحد الروحي الداخلي لشخصيتي العمل (جاسم وحسين).

وهو ما حرص عليه رمضان في دقة رسم الصورة بوصف المشاهد في السيناريو من خلال تقسيمه المشهد ما بين المكان/ الزمان، وتحديد موقع التصوير داخلي/ خارجي. كما في وصفه البيت القديم في المشهد العاشر:

(بيت قديم نظيف ومرتب، كأن ساكنيه لم يغادرو المكان. يتحسس الجدران وعلى وجهه إبتسامة ورضاء. يتجه نحو جلسة شعبية مرتبة في الليوان أو جزء من الحوش. وضعت فيها مراتب ومساند، وركن قربها صندوق مبيت قديم.)

الواقع: اعتمد على الشكل الاجتماعي في علاقة الماضي مع الحاضر والعكس، مما يرسم ابعادا أخرى تتشكل في الجوانب الاقتصادية/ التاريخية/ السياسية/ النفسية/ الثقافية، كما يظهر في المقابلة بين ملابس الأب والأبن، ومدى تقبل الجيل القديم للعصرية وتطورها، وعدم  استساغة طعمها المختلف عن القديم كما هو في طعم الشاي/ القهوة/ ملة التمر والبخور. كما في المشهد رقم العاشر يقارن بين طعمي شاي:

(يجلس جاسم ويصب له فنجان شاي من صينية موضوع فيها دلتان وفناجين وإستكانات شاي، وصحن مغطى به تمر. يصب له له إستكانة شاي ويضعه أمامه ويتأمل الدخان المتصاعد منه. ثمة صمت، وسكون، وحوار داخلي لجاسم، قريب من الحزن والحسرة، مثل من يتحدث مع امرأته:

جاسم: هذي الشاي العدل، تسلمين لي يا أم محمد، ولدك بخلي الشغالة تسوي لي شاي. أنا زين اشرب من شاي القهوة لان حسين عودني عليه.)

إضافة لذلك، العلاقة المبتورة بين الأحفاد والأجداد، كما هو المشهد رقم 15 الجامع بين جاسم (الجد) وحفيده الذي أدار له ظهره، ولاهي عنه بحديث عبر الماسنجر بواسطة جهاز اللابتوب، بينما الجد  يسرد قصة اعتقاله من قبل الانجليز في فترة ما من تاريخ البلد:

(جاسم: كانت الحياة صعبة يابوك.. لكن اللي كان مهون عليّ يوم اعتقلوني الإنجلينز، ان طيفها كان يزورني كل يوم في السجن، تقعد تسولف لي عن أخبار الفريج والديرة، ويوم طلعت من السجن..  

في هذه الأثناء يدخل محمد المنزل، يجلس قرب والده، وكأنه معتادا على سماع هذه الحكاية، يبدو عليه ضيق ظاهر. جاسم يواصل حديثه لحفيده المشغول بجهاز الكمبيوتر.

جاسم: فاجأتني جدتك يوم علقت ثوب النشل، ثوب البشارة، وقالت لي، خل أهل الفريج كلهم يعرفون انك رجل شهم وماتخاف من الخطر.. الله يابوك، والله يوم اللي تهل عليّ بطلتها لاعلق بشارتها ثوب النشل.

في هذه الأثناء، يغلق الحفيد جهاز الكمبيوتر، ويتجه نحو السلم صاعدا، تاركا جده مع والده محمد.. الذي يطالع والده بنظرة تشوبها الحزن المقموع، مثل تخرج كلمات مضطربة منه تجاه والده.)

 

الحوار:

اعتمد رمضان على الحوارات القصيرة، لنوعية الفيلم من فئة الأفلام القصيرة. وبرغم اعتماده اللهجة البحرينية، إلا أنه قابل لأن يشمل كل مجتمع إنساني يعاني مثل هذا الشرخ بين جيلين أو عدة أجيال نتيجة مرور الزمن وتغير المكان، دون أن تعيق اللهجة أو اللغة  حدود العمل.  

والملاحظ أن الكاتب بدأ العمل وأنهاه بموال شعبي للشاعر البحريني حسين بو رقبة وأداء منفرد للفنان البحريني الراحل علي بحر يقول فيه:

نيران قدر الدهر توقد في قلبي بحر

وعليّ سِلَّتْ سيوف الماضيات وبحر

الناس في ظلهم وربعي بشمس وبحر

من حيث أهل الوفا ما عاد فيهم وصل

وانقص حبل الرجا منهم فلا له وصل

لو كان بالسِّيفْ قطعت الاعادي وصل

لا شك في جزيرة حايطٍ عليّ بحــر

والموال من الفنون الشعبية التي اندثرت تقريبا من المنطقة، بسبب طغيان الثقافة الجديدة، وما كان من رمضان أن يبدأ الفيلم وينهيه به إلا دلالة على تلاشي تلك الروح القائمة سابقا بين الإنسان والبحر، حيث تحالف القدر والبشر وأيضا البحر في علاقته الماضية مع الإنسان في ذلك المكان.

 

الشخصيات الدرامية:

اعتمد رمضان على شخصية جاسم (الفنان عبدالله ملك) في إدارة السرد حولها، إضافة لشخصية حسين (الفنان أحمد عيسى) كدور مساند وكلاهما يمثلان وجهة نظر الماضي، في حين جاء الإبن  محمد (الفنان جمال الغيلان) مقابلا لهم في التناقض حيث التطور والتقدم والواقع المعاش الآن. أما شخصية الأم الراحلـة (الفنانة مريم زيمان)  فكان لها دور أساسي في استنطاق البيت القديم مكانيا/ تاريخيا/ اجتماعيا. واعتمد رمضان على مخيلة جاسم في استحضارها والحوار معها. واللافت أنه بعد وفاته، ليترك مهمة حضورها في مخيلة صديقه حسين الذي أدار حوار معها:

(حسين: تأخرتي عليه وايد يا أم محمد.

تترك راس زوجها وتنهض وتسير كروح ملائكية.

أم محمد: باخليه في رعايتك يا بوعلي.. أنت تدري شقد يحبك.

تدخل أم محمد غرفتها. حسين يرفع رأسه نحو ثوب النشل المعلق على السطح. وإضاءة شفافة تضرب فيه من أسفل الصارية.

حسين: قالي بيعلق ثوب البشارة لين رجعتي، ما هقيته بيعلق بشارة رحيله.)

وهو ما جعله يصر على رؤيته لها أمام ولده محمد لاحقا بعد خبر وفاة والده.

ولعل رمضان أراد ارسال رسالة معينة أن أبناء الجيل الواحد يملكون ذات البصيرة حول ماضيهم وواقهم.

 

وجهة نظر الفيلم:

جاءت منحازة للجيل القديم في بصيرته وكفاحه لبناء المدينة التي جحدت بحداثتها كل علاقة معه، والكفاح هنا لم يقتصر على لقمة العيش عبر مهن البحر القديمة، وإنما مقاومة المستعمر للحفاظ على استقلال الأرض، وهو ما عبر عنه جاسم في رمزية البشارة (ثوب النشل) عندما رفعته زوجته الراحلة وقتما خرج من سجن المستعمر، ليرفعه بدوره عندما شعر بوقت رحيله إليها.

وبهذا تحقق الصورة خلود السرد والقص عند فريد رمضان.

 

كانت هذه قراءة عابرة لفيلم البشارة للروائي والسيناريست فريد رمضان. أتمنى أن تكون هذه القراءة بمنزلة مشاركة بسيطة لتخليد ذكراك يا فريد في عام رحيلك الأول.

فهد توفيق الهندال

 

مجلة العربي الكويتية في

01.11.2014

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004