ملفات خاصة

 
 

فريد رمضان للسكلر:

مرحبًا بك وارحل سريعًا

كتبت: هناء مرهون

عن رحيل عراب الهوية

فريد رمضان

   
 
 
 
 
 
 

في تلك الظلمة الحالكة، تلك الأقدام السريعة والشعر الأسود المتطاير الذي تأخذ حلكة السماء منه حلكة إضافية، الأنفاس السريعة العين التي تنظر للأمام، الذراعان الملتفان حوله بعناية ألمه الشديد الذي لا يتوقف طعنات متواصلة من مجهول لا يُرى والأم التي تجري بسرعة لا تقف ولا تهدأ إلا بعد تصل إلى مستوصف المحرق هناك فقط تلقي بشيء من ثقل ألمها على أقرب سرير ليأتي الطبيب للمعاينة...

مرارا وتكرارا كان المشهد نفسه مرة بعد أخرى عاما بعد عام، يكبر الألم ويكبر فريد، تكبر الأم  ولا يصغر ألم فريد.

طفولة البحر والألم والموت

صاحب الصورة المعروف باسم الكاتب والأديب والسيناريست  فريد رمضان  ذو البشرة الصفراء الشاحبة الأسنان المتراصة والعيون المتسامحة مع النفس والآخرين وتلك النظارة التي تتكدس في طبقاتها العديد من الصور والكلمات والنجاحات والدموع أيضا، هو طفلٌ صغير ولد في عائلة شبه أمية، في المحرق في الرابع من نوفمبر من العام 1961 ولد في منزل بسيط لأسرة بسيطة كان هو خامس أبنائها.

يقول فريد أنه ولد في بيئة مليئة بالمصادفات وقد أخذته الصدفة أيضاً إلى الكتابة والقراءة، حيث وجد ميله الكبير إلى الأدب ولكل ما يمت للأدب بصلة، فكتب القصص والأشعار العامية والروايات والأفلام.

الأحلام الكبيرة في هبوط اضطراري

يروي فريد وعبر مرايا شفافة ومتداخلة صورا من حياته  ونشأته، فيقول أنه ولد في منزل صغير (كبير جدا بالنسبة له)، منزل يقع على ساحل البحر، حيث الاتساع لا حد له ولا نهاية، وأمام كل ذلك كان يرى والده وهو يذهب ويعود في فترات متباعدة منه، فقد عمل والده غواصاً لحين ظهور النفط وانتقاله للعمل في شركة للنفط.

مثل كل الأطفال في ذلك الزمان درس فريد في المدارس الابتدائية والإعدادية وبفضل ميله الأدبي اختار التخصص في المجال الأدبي في المرحلة الثانوية، وكان حلمه الكبير هو أن يعزز ذلك الميل بدراسة الأدب وعلم النفس في الجامعة وبسبب الظروف المعيشية للأسرة آنذاك لم يتمكن من دراسة ما يحلو له، وكان الخيار الوحيد آنذاك هو الدراسة في الخارج والتخصص في مجال الطيران. الحقيقة أن فريد لم يكن معجبا بالتخصص بقدر ما كان مفتونا بفكرة الطيران خارجا وبعيدا عن أسر الجماعات والتكتلات والعيش كمراقب وقائد جوي، إلا أن ذلك الحلم أيضا لم يكتب له النجاح، فغالباً ماكان السكلر مباغتا ومهاجما شرسا في فترة الدراسة في الخارج، حيث واجه فريد المرض عدة مرات، وهو يتدثر بدثار الدعاء فقط في مستشفيات ومراكز لا تجيد التعامل مع المرض كما يتم التعامل معه في أرض الوطن. كانت العودة مخيبة للآمال البعيدة والكبيرة، حيث الفتنة والطيران والتحليق بعيدا والنظر للعالم من شرفة بعيدة وبعد العودة درس فريد الدراسات المصرفية وعمل في أحد بنوك البحرين ثم انتقل للعمل في وزارة المالية والاقتصاد الوطني وعلى الرغم من العمل في القطاع المصرفي وعلى الرغم من مباغتات السكلر وظروف الحياة والعمل والزواج، إلا أن فريد كان ينمي موهبته الأدبية في الساعات المتبقية من النهار، حيث يعود وتعود الكلمات على شرفة المساء تراقبه بحب وانتظار شديدين.

الكتابة التي لا تنام

يحمل فريد معه الكتاب في العمل ويقرأ متى ما سنحت له الفرصة بذلك، كما أنه يكتب أيضا متى ما سمحت له الظروف بذلك، لدى فريد كتابات أدبية على أرصدة البنك وكتابات أخرى على أوراق الوزارة المستهلكة، كانت الكتابة تجيء دائما وفي كل مكان وكانت القصص تباغته كما يباغته مرض السكلر دائما.  مع الوقت أصبح وضع فريد الصحي لا يسمح له بالنهوض مبكرا والذهاب للعمل بشكل منتظم بسبب الأدوية التي كان يأخذها في مكافحته المستمرة مع المرض، لحين أن اتخذ فريد قرارا مع زوجته أن يترك العمل والتفرغ للكتابة بشكل كامل، وكانت زوجته الداعم والمساند له في حياته والتكفل بكل ما ينقص الأسرة والأبناء، وكان هذا أكبر دعم لفريد للتفرغ فيه لكتابة الكتب والأفلام والروايات بمختلف أصنافها.

الكتابة العشيقة السرية

يقول فريد: “علمتني والدتي أن أكون لامعا وبراقا كتحفة فنية جميلة، لم أجد نفسي إلا هكذا رأيت ذلك، في عين أمي في كل صور الطفولة، فكبرت وأنا مهتما بالتفاصيل جدا، وكنت أبالغ في أناقتي عندما أكون في موعد مع الكتابة أو القراءة، حيث أصبح وكأنني في موعد مع عشيقتي التي أذهب لملاقاتها بأبهى صورة وأحرص على أن أكون في أهبة وافرة من الأناقة إلا أنني تخليت عن ربطة العنق بسبب تركي لعملي منذ سنوات بسبب مرضي الذي كان يداهمني دائما. ويضيف فريد: أحب أن يكون المكتب مرتبا جدا؛ لأتمكن من إنجاز الأعمال التي أرغب في إنجازها، ولأنني كنت أصر على إنجازها جميعا، فإنني أكتبها منذ المساء، فالكتابة جزء يشبعني روحيا ويعالجني صحيا وأكسب منه رزقي.

النوبة الأولى

الحديث عن السكلر منذ الطفولة حديث لا يرتبط بألم فريد فحسب، لكنه يرتبط أكثر بألم الآخرين من حوله، وعندما يتذكر فريد ذلك ترى في عينه لوحة سوريالية عميقة تسحبك معها إلى تلك الليالي التي يأتي فيها السكلر حاملا منجلا بين يديه ويكرر طعناته في كل مكان، فيصبح فريد عاجزا عن إمساك يده أو رجله أو بطنه ويكون كتلة مشعة بالألم في تلك اللحظة تلتف ذراعان من حوله ولا يدرك حينها إلا صوت الأ نفاس المتساعة لامرأة عظيمة تركض في الظلام سريعا بحثا عن باب المستوصف الذي يبعد عن منزلها مسافة تبلغ 25 كيلومترا، إلا أن الأم في تلك اللحظة تركض حاملة فريد بين ذراعيها غير آبهة بعواء الكلاب أو بسكون الليل المخيف، إنها ترى الباب فقط ولا شيء غيره وعندما تصل تبدأ في الدخول بنوبة أخرى من القلق والخوف على حياة ولدها الغالي.

العلاج

قالت امرأة عـابرة لأم فريد أن علاج فريد من هذا المرض هو تناول السركا.

قال رجل لأب فريد إن علاج المرض هو أخذ فريد إلى “التتان” وكي بطنه (الجواي) ليخرج منه هذا المرض.

قالت أخت فريد التي تسكن في منطقة البسيتين بجوار ذلك البحر الجميل الهادئ وتلك المزارع التي لا تنتهي أن العلاج هو في شرب ثلاث شربات من ماء البحر النقي لتعقيم أحشائه وجسمه.

وقال الطبيب الهندي المعالج أن علاج فريد يكمن في شرب (البيرة) أو شراب الكحول. إلا أن السكلر كان يواصل هجماته رغم كل ذلك، ورغم كل النصائح العلاجية والميتافيزيقية والاجتماعية، السكلر يكمن في الداخل في العميق، حيث لا يصل ماء البحر ولا ماء الشعير ولا السيركا ولا يصل دخان التتان، السكلر يقول لفريد: سأزورك مع كل ذلك ومن غير ذلك!

يقولون إن على الإنسان أن يعرف عدوه حتى يهزمه، ويقول الشاعر علي الشرقاوي لفريد: “يا فريد صاحب السكلر كصديق قل له أهلا وسهلا بك خذ راحتك في البقاء وارحل ولا تطيل” .

وفعلا عندما بدأ فريد التعامل مع السكلر كصديق أصبح يعرفه جيدا ويعرف أسراره ويتوقع مناوراته في آخر المساء أو في منتصف النهار، تعلم فريد أن السكلر يأتي كثيرا بسبب وقليلا من غير سبب، لكنه بدأ يعرف ملامح هذا الشيء الضبابي الذي يطعن من غير توقف بمناجل من دخان.

السكلر .. حارس الليل الذي لا ينام

يقول فريد: كنت صغيرا حينما جاء والدي، وهو يدفع عربة بداخلها رملا واسمنتا وأداة حفر وحبر، طلب مني والدي أن أذهب معه وكان يدفع تلك العربة التي تترك آثارا مستقيمة ومنحرفة أحيانا بحسب وضع التربة التي تشقها، عندما كنت اتبعه لحين أن وصلنا إلى مكان طلب مني والدي فيه أن أكتب اسم أخي المتوفى من مرض السكلر على ذلك الشاهد، فكتبت المتوفى الشاب محمد رمضان ... كنت أحب أخي.

الشاهد الذي وثّق جريمة السكلر في أخ فريد. هكذا وجد فريد نفسه موثقا لألم لا ينسى، لكن فريد رأي أن ما حدث هو مواجهة أخرى للسكلر وتحدٍ مباشر له بالبقاء.

يقول فريد إنه لا يخشى السكلر أبدا، فهو مولود معه وقد اعتاد على زيارات السكلر (النوبات) التي تأخذ مداها وترحل ويعود فريد مجدداً لحياته بشكل طبيعي ومن التجارب بدأ فريد يرى السكلر كقرين له يحادثه وينبئه بموعد النوبة ووقتها.

مواجهة السكلر والانتصارات الكبيرة

الانتصار في أي حرب يتطلب إرادة وهدف ومقومات، والسكلر محارب شرس يأتي من عدة جبهات (ثغرات) ويسترجع فريد دفاتر ذاكرته البعيدة، ويقول: واجهت الأمراض ومضاعفات السكلر في أشكال عديدة منها ما تجلى في الخضوع لعملية إزالة الطحال العام 1983 الخطرة والتي اضطر الطلبيب آنذاك أن يجري عملية فتح بطن لإزالة الطحال المتليف على الرغم من الخطر الكبير المحدق من السكلر، ومرت العملية بمضاعفاتها وعدت للحياة مجددا منتصرا على السكلر. ثم خضع فريد لنكسة أشرس بالتهاب رئوي حاد، وبعد مواجهة حادة مع العدو الشرس انتصرت مجددا وعاد للحياة، وكانت أولى النتائج المبشرة من العودة للحياة هي اصدار المجموعة القصصية الأولى بعنوان (البياض).

قال فريد إنه استثمر نصين كتبهم في الغيبوبة أثناء مواجهته لألم النوبات، على الرغم من مواجهته صعوبة في فك وإعادة كتابة النص الذي يشبه الوحي.

غياب تام وظهور تام

إن اجتياز عام وبدء عام جديد في مفهوم فريد بمثابة تحدي للموت، وهو ما يستحق الاحتفال، فيقول: (لقد أنهيت 60 عاما من المرض والمواجهة وهذا رائع).

يقول ذلك وكأنه لا يصدق أن ذلك يحدث في قاموس المرض، يقوله أيضا وهو يعلم أن ذلك يحدث كثيرا، حيث يستطرد قائلا: (الحياة فيها من الأمراض الخطيرة والقاتلة والأكثر خطرا بكثير من السكلر) . - هل يبدو فريد مدافعاً هنا ؟ -

يقول فريد إن السكلر كان أفضل دافع للنجاح، إن السكلر وتجربة الموت والألم المتكررة خلقت لديه نوعا من المواجهة مع الحياة التي هي أشبه بتجربة ميتافيزيقية مع عدو يطعن بلا رحمة هذا العدو والصديق في آن كان يواجهه بالحب والكتابة والرفقة، ويقول له: أيها الرفيق مرحبا بك خذ وسعك من الزيارة، وارحل سريعا.

 

البلاد البحرينية في

27.06.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004