أفلام "النفس الهادي" في القاهرة السينمائي
أسماء إبراهيم في
سينما وتلفزيون
الأفلام كالبشر.. هناك أفلام عذبة لطيفة أقرب للشخص خفيف
الحضور.. لا يزعجك بلقائه ولا يمر بثِقل على النفس. تسترجعه في الذاكرة بعد
رحيله، وتستبقيه في بالك.. هكذا تحدّث وهكذا ضحك وهكذا كانت مشيته. لا
يختلف سلوكنا مع الأفلام عن هذا التصرف. ثمة أفلام تعبرك بهدوء وتتسلل إلى
روحك بلا صخب أو ضوضاء. تصاحبك لفترة بعد انقضاء وقتكما معا، والأجمل.. هو
اكتشاف روعتها دون سابق إنذار. فتحسبه مكافأة على رهانك عليها.
أمسك كتالوج الأفلام الصغير أول أيام مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي في دورته 42 أمام شباك التذاكر صف طويل من محبي وصناع
السينما وأهل الإعلام والصحافة، كلٌ يقوم بإعداد قائمة أفلامه المفضلة التي
سيشاهدها في المهرجان. أقرأ ملخصات الأعمال وأحدسُ أي الأفلام سيكون لامعا
ممتعا، وأيهم سأتجنبه كي لا أوتِّـر نفسي بالزائد عن حاجتها أو توقعاتها.
أتابع صفحات الأصدقاء النقاد وأعتبر لترشيحاتهم. أخطط ُ تحت كل فيلم مراد
أو أضع دائرة حول اسمه في الجدول. أحضر من أفلامه ما أحضر، وأفقد منه ما
أفقد. لكن لذة مختلسة تصاحبني وأن أفكر في فيلم لطيف مرّ بي.
فيلم "دروس اللغة الألمانية".. أو كيف تحترف النجاة (جائزة
أفضل ممثل)
ربما يصيبك بعض الملل وأنت تتابع لهاث "نيكولا" بطل الفيلم
وهو يجوب مربعه السكني بحثا عن كلب أبيه الذي أضاعه بعد أن عهد إليه
برعايته أثناء غيابه.. ثمة احساس بالتقصير يجتاح السائق البلغاري الذي خرج
من السجن ويحاول التأقلم والتكيّف مع واقعه الجديد بلا زوجته أو أبنائه
الذي توترت علاقته بهم. يجعل البحث عن الكلب المفقود هو كل همه وشاغله خاصة
بعد أن يجده مقتولا على الطريق وقد دهسته إحدى السيارات فيخشى على حزن
أبيه. يذهب لملجأ الحيوانات ليبحث عن كلب شبيه من نفس الفصيلة، فلا يجد.
يبحث بين مربيي الكلاب فتفشل صفقته في آخر لحظة. يحاول أن يرى أبناءه وأن
يعتذر من زوجته وأن يوطد علاقته أكثر بشريكته الجديدة التي تشجعه على السفر.
يحاول أن يغيِّـر الصورة السيئة عنه لكونه رجلا يخذل من
يهتمون لأمره، في سبيله ليبدأ من جديد يختار ألمانيا ليرحل إليها فيبدأ في
تعلم اللغة الألمانية؛ لذا فهو يواصل الاستماع في سيارته إلى دروس اللغة
الألمانية والتي تتناول أيام الأسبوع مترجمةً في تكرار مستمر لا يتوقف طوال
تجواله بسيارته في المدينة، يحاول إعادة التواصل مع أبويه المسنيين ويحاول
أن يكون أكثر نفعا لهما وأكثر لطفا. وفي حين يسوق له القدر كلب شبيه بكلب
أبيه الضائع يسرقه ويهديه إلى أبيه على أنه كلبه الأصلي.. يكتشف الأب فورا
إدعاء ابنه ويقوم بتوجيه الكلب الجديد إلى أماكن أكله وشرابه ونومه في
شقته. يشفق الأب على ابنه ويتأكد من محاولته استرضاؤه، فيتوجه لإبنه ويحتضن
رأسه وقد ابتلعته ذراعه حتى صارا جسدا واحدا.
ربما كانت الكاميرا المتلصصة والمضطربة هي أنجح وسيلة لنقل
جهاد "نيكولا" النفسي في البحث عن الاتزان وإعادة التوجيه ومحاولته ضبط
حياة مبعثرة.
تم عرض الفيلم عرضا عالميا أول في مهرجان القاهرة السينمائي
الدولي في دورته الحالية.
فيلم "أرض البدو".. لزاما على البعض الرحيل
الرقم البريدي لإحدى المدن الأمريكية يتم إلغاؤه ويُحذف
رمزها البريدي. إجراء أقرب إلى الإعدام أو النفي من الوجود، والسبب هو توقف
مصانع الجبس التي كانت قوام اقتصاد هذه المدينة. لذا وجبَ على قاطنيها
الرحيل. ربما كان التهجير القسري هو ما دفع "فيرن" بطلتنا إلى أن تتخذ
الطريق موطنا وتصير كحيوان الحلزون أو كسلحفاة تحمل صدفتها الصلبة على
ظهرها كما تسكن هي شاحنتها . الصلادة البادية للقوقعة الخارجية تخفي رهافة
ووداعة روح داخلية، فترسم ملامح امرأة جادة تتدثر بصمتها وتحترف الترحال.
يخبرنا الفيلم عبر شخوصه عن عالم يسحق الاقتصاد فيه الكثير
من الناس، ويضطرهم للعمل الموسمي المؤقت أو غير الدائم، وهو ما تقوم به
بطلتنا وفق ما توّفر أمامها من أعمال بعد تركها لمدينتها. فمرة تعمل بمتاجر
أمازون وتارة أخرى في حصاد البطاطس وثالثة عاملة في مخيّم، بشكل يربك من
يراها من معارفها القدامى بالمصادفة. مثيرةً بحالها الجديد تساؤلاتهم حول
ما إذا كانت
Homeless
و
house less
وعلينا نحن ذوي الحساسية اللغوية أن ندرك الفرق بين الكلمتين. أيهما
نصدِّق؟ مشرّدة أم بلا مسكن؟؟ وأن نحدد أيهما أكثر موضوعية؟ وأيهما أشد
رأفة؟ خاصة حين تثير مع ضيوف أختها المستثمرين العقاريين -حين تذهب إليها
لطلب المال لإصلاح شاحنتها- قضية الرهن العقاري وكيف أفسد الاقتصاد
الأمريكي وحطم حياة كثيرين من الأسر الأمريكية.
وبحسٍ تسجيلي يجترح الفيلم وبوضوح تستعين المخرجة "كلوي
تشاو" بمشاركة لرحالة حقيقيّن كضيوف شرف يقومون بأدوارهم الحقيقية داخل
الفيلم، تقابلهم البطلة ويمثلون مرشديين روحيين وموجِّهين لها، ويشارك
بعضهم تسجيلاتهم على اليوتيوب حين تشاهدها "فيرن" عبر هاتفها المحمول.
تستمر الرحلة وتقابل من تقابل وتهجر من تهجر، لكن حينما يقابلها الحب من
جديد ويعرض عليها رجلا قلبه وسقف بيته تتركه وتعاود الهرب إلى الطريق وإلى
الطبيعة.
الفيلم الموقَّع بعدسة فنان التصوير "جوشا جيمس ريتشارد"
يأخذنا في رحلة جمالية لمناظر اللاند سكيب للغرب الأمريكي بجباله ووديانه
وغاباته الحجرية ومسطحاته المائية في فسحة وافرة من الجمال.
عُرض الفيلم عرضا أول في الشرق الأوسط بمهرجان القاهرة
السينمائي الدولي في دورته الحالية. وحصل على الأسد الذهبي بمهرجان فينسيا،
وجائزة الجمهور بمهرجان تورونتو في هذا العام.
فيلم "لا يوجد شر".. حين يقبض "مسرور" على سيفه وعلى زمام
السرد
منفذو أحكام الإعدام يقومون بسرد روايتهم حول الموت في
متتالية فيلمية منفصلة متصلة تحوي أربع لوحات سردية أو أفلام قصيرة يملك كل
منها الأصالة والجدة ليكون فيلما مستقلا بذاته.
في هذا الفيلم ينجح مدير التصوير "أشكان أشكاني" في رسم
لوحات تشكيلية تبرز جمال الغابات والصحاري والطبيعة الخلابة في الريف
الإيراني.
تأتي اول لوحة سردية متابعةً ليوم وليلة في حياة أسرة
تقليدية إيرانية تتكون من زوج وزوجة وابنة وأما مريضة لنرى تفاصيل اليوم
بمشاقه. مهام متتالية تبدأ بإحضار الزوجة من عملها وحتى استلام راتب زوجها
ببطاقته، إلى اصطحاب الابنة من مدرستها، ثم الذهاب للتسوق قبل المرور على
الجدة ومراعاتها وتنظيف بيتها، وحتى الخروج للغذاء خارج المنزل في مطعم
البيتزا، ثم الرجوع للمنزل وصبغ شعر الزوجة، ثم النوم والاستيقاظ الثالثة
فجرا قبل أن يذهب لعمله الذي ما أن يصله حتى يحضر لنفسه كوبا من الشاي
ويقوم بغسل ثمرتي طماطم وخيار. ومن النظر إلى شباك صغير يتأكد أنه على وشك
أداء عمله.
ينظر مجددا في النافذة قبل أن يضغط زرا واحد كان كفيلا
بإعدام خمسة مُسجونين نرى أقدامهم فقط وقد تساقط بولهم عليها.
يأخذنا المخرج "محمد رسولوف" بطريقة سرده هذه ليورطنا في
شخصية بطله وعالمه. حيث يقدمه كرجل قياسي ينتمي للطبقة الوسطى، فثمة أسرة
له، ولديه قلب بداخله يرأف لحال أمه.. هو رجل شبيه بكثير من الرجال، لكن
وظيفته هي أن ينهي حياة الآخرين.
في اللوحة الثانية ثمة جندي شاب يرفض تنفيذ حكم الإعدام
أثناء تأدية الخدمة العسكرية، والتي إن لم يؤدي واجباتها فلا أوراق رسمية
مستقبلية له. وإذا رفض الطاعة فسيتحول لمحكمة عسكرية. لذا فعليه تنفيذ حكم
الإعدام على أحدهم.
يرفض وهو الفنان الموسيقي الذي يخطط للسفر لأمريكا مع
حبيبته أن يقوم بشيء ضد قناعاته.. "أي شيطان يقوم بقتل الآخرين؟!" يتساءل.
وينجح في الهروب من المعسكر لتقلّه حبيبته فيسعيان لحلمهما بالهرب.
لكن جندي آخر سيقوم بتنفيذ حكم الإعدام مقابل أجازة لمدة
ثلاثة أيام سيخطب فيها حبيبته. ومن هذه النقطة تنطلق القصة الثالثة. ليكتشف
أنه أعدم صديق عائلة خطيبته في الجنازة التي ترتبها أسرة حبيبته . حيث يرى
صورة ضحيته المناضل الثوري ذو الأفكار المختلفة. هنا يخسر حبيبته التي
تسأله عن كم أجازة مدتها ثلاثة أيام قد أخذها أثناء تأدية خدمته العسكرية.
وفي اللوحة الرابعة نرى طبيب في منطقة نائية يتخذ من تربية
النحل مشروعا له. يستقبل مع زوجته ابنة صديقه العشرينية لتقضي معهما
أجازتها في مزرعتهم البعيدة. لنكتشف أنه أباها وقد رفض تنفيذ حكم الإعدام
عندما كان جنديا. فلم يحصل على شهادة الخدمة العسكرية. وبالتالي لا رخصة
قيادة أو مزاولة مهنة أو أي مستخرج رسمي. مواطن منفي داخل وطنه. واضطر
لتسجيل ابنته بإسم خالها. وقد شارف على الموت الآن وأراد تقديم اعتراف قبل
رحيله. ويقلب اعترافه حال الفتاة التي تلومه على عدم القتل منذ عشرين عاما
بدلا من حياتها الكاذبة وهويتها المزيفة. لتنظر في النهاية نظرة رءوفة لذئب
متجول كان يأكل فراخ مزرعة أبيها.
نظرة رحيمة لقاتل آخر. فلا يوجد شر مطلق. وتحت جلد كل
عشماوي مشاعر وأحاسيس.
الفيلم الإيراني الذي يثير قضية الإعدام، وهل يعد عقوبة
مقبولة في وقتنا الراهن في ظل تراجع هذه العقوبة في العالم واستبدالها
بالسجن المشدد. كان قد حرم "رسولوف" من الخروج من إيران لإستلام جائزة الدب
الذهبي ببرلين 2020 عن فيلمه هذا. وعرضه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
أفلام لطيفة وحضورها آسر كشخص حلو المعشر. نثق أننا
سنتذكرها دوما. |