نعيش فى عام فاصل بين القرن العشرين والقرن الواحد
والعشرين.. يمكننا القول إن القرن الواحد والعشرين قد بدأ بالفعل مع ٢٠٢٠،
وربما يكون «كوفيد- ١٩ المستجد» ما هو إلا علامة، وإشارة من الطبيعة، لهذا
الانتقال، مثلما كانت الإنفلونزا الإسبانية، التى قضت على ما يزيد على
خمسين مليون إنسان، علامة على دخول القرن العشرين.
فى مجال السينما يظهر هذا التحول جليًا، ومثلما كانت بداية
عشرينيات القرن الماضى بداية لصعود فن السينما، فها هى عشرينيات القرن
الجديد تشهد اضمحلال السينما كما عرفناها وصعود المنصات الرقمية.
السينما التى عرفناها تشترط وجود جمهور، وقاعة مظلمة، وشاشة
عملاقة تستحوذ على العين والأذن والحواس، ووله وعبادة للنجوم والنجمات
وطقوس تشبه طقوس الأعياد: «خروجة» مع الحبيب، مع الأصدقاء، مع العائلة،
وتناول أكلات ومشروبات مرتبطة بالسينما، و«دردشة» حول الأفلام.
انحسرت هذه الظاهرة طوال عام ٢٠٢٠، ولأول مرة بات خطر «موت
السينما» كما نعرفها احتمالًا وارد الحدوث.. ولكن ها هى المهرجانات
السينمائية تحاول أن تتمسك بما بقى من ظاهرة السينما، وتعلن أن الناس لا
يزالون يفضلون «التقارب الاجتماعى» (الملوث)، على تعقيم ونظافة التباعد،
ومن ثم ليس غريبًا بالمرة أن نشهد هذا الإقبال والتزاحم على عروض مهرجان
القاهرة، بل هو الشىء الطبيعى والمتوقع بعد شهور العزلة الطويلة، وكان من
المفترض أن يوضع ذلك فى الحسبان.
أوندينه.. مأساة عروس بحر بين الرجال
أهم ما تفعله المهرجانات السينمائية والتظاهرات الثقافية
المماثلة، ويصعب أن تحققه منصات الأفلام، هو «العصف الذهنى» بين الحاضرين
من خلال تبادل الآراء والمناقشات، وفكرة لجان التحكيم ما هى إلا تجسيد مكثف
لهذه الحالة من المناقشات والجدل «السقراطى»- نسبة لأبى الفلاسفة سقراط-
الذى يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة.
ولنأخذ أحد أفلام دورة مهرجان القاهرة كمثال، وهو الفيلم
الألمانى «أوندينه»
Undine،
الذى ترجم إلى «أوندين» فقط، بسبب عدم اعتماد اللغة الأصلية والنطق الأصلى
للحروف فى مطبوعات المهرجان، وهو واحد من أكثر أفلام العام احتياجًا لهذه
المناقشة؛ بسبب غموض معناه وفحواه الجمالى والالتباس الذى يمكن أن يثيره
لدى مشاهديه.
«أوندينه»
من تأليف وإخراج «فنان السينما»- كما اعتاد الناقد الراحل سمير فريد أن يصف
كبار المخرجين المؤلفين- كريستيان بيتزولد، وهو رأس حربة السينما الألمانية
حاليًا بالرغم من أنه مقل جدًا فى أعماله.
بيتزولد الذى يبلغ الستين من العمر لم يقدم سوى تسعة أفلام
فقط، أشهرها «باربارا» الذى حصل على «جائزة أفضل مخرج» من مهرجان برلين
٢٠١٢، و«ترانزيت» الذى حقق نجاحات عالمية كبيرة فى ٢٠١٨، ثم «أوندينه» الذى
حصل على «جائزة أفضل ممثلة» من مهرجان «برلين» فى دورته الأخيرة، قبل هجوم
«كورونا» على أوروبا وإغلاق المهرجانات والفعاليات الجماهيرية مباشرة.
«أوندينه»
فيلم غريب بالنسبة لمسيرة بيتزولد نفسه، فأفلامه السابقة تنقسم إلى نوعين:
تاريخية اجتماعية مثل «باربارا» و«ترانزيت»، و«ميتافيزيقية» تتناول عالم
الموتى والأشباح كما فى «يلا» ٢٠٠٧، و«شبح» ٢٠٠٨.
«أوندينه»
هو أول أعماله التى تدور فى الوقت الحالى، وهو يبدو، على السطح، كما لو كان
قصة حب رومانسية حول فتاة جميلة يهجرها حبيبها فى بداية الفيلم، وتفكر فى
قتله، لكن الحظ يرسل لها حبيبًا آخر أفضل، فتتعلق به، لكن الموت ينزعه
منها، فتنهار.
على العكس من ظاهره البسيط، فإن «أوندينه» أكثر أعمال
بيتزولد عمقًا، وهو يمزج فيه بين اهتمامه بالتاريخ الألمانى وقضية الحياة
والموت وكذلك انشغاله الدائم بالبطلات النساء، وهو أيضًا من أكثر أعماله
جمالًا سينمائيًا.
مبدئيًا، عنوان الفيلم يحمل اسم البطلة، ولكن هذا الاسم له
معنى، والألمان تحديدًا يهتمون للغاية بمعانى الأسماء لدرجة أن هناك
قانونًا فى ألمانيا يمنع تسمية أى مولود حديث باسم ليس له معنى.
«أوندينه»
يعنى «عروس البحر» فى ثقافتنا العربية، وهو كلمة لاتينية انتقلت لمعظم
اللغات الأوروبية بمعنى حورية أو عروس أو جنيّة البحر، وهناك فيلم للمخرج
الأيرلندى الشهير نيل جوردان، من إنتاج ٢٠٠٩ وبطولة كولين فاريل وأليثيا
باخليدا كورش، يحمل الاسم نفسه يظهر فيه بوضوح معنى الاسم.
لا يهتم بيتزولد بشرح المعنى الأسطورى للاسم، ولا بتأكيد أن
الفتاة هى فى الأصل «عروس بحر»، ولا بأن الأسطورة الأصلية تقول إن عروس
البحر يمكن أن تتحول إلى إنسان فى حالة وجود رجل يحبها بإخلاص، ولكن هذا
الرجل يجب أن يموت إذا فكر فى خيانتها أو توقف عن حبها، وعليها فى هذه
الحالة أن تعود إلى عالم البحر منكسرة كما يقتضى العقاب الذى فرضته عليها
الآلهة عندما تركت البحر.
ما بين قصة الحب التى تشغل فيها المياه ومخلوقاتها
وأساطيرها حيزًا كبيرًا من الفيلم، وتاريخ ألمانيا التى انقسمت لنصفين عقب
الحرب العالمية الثانية وعودتها للالتئام مجددًا عقب سقوط سور برلين فى
١٩٨٩، حيث تعمل «أوندينه» كمرشدة سياحية فى متحف عن تاريخ العمارة فى
برلين، يتهادى الفيلم كحلم بحرى حزين وشجى.
ليالى الرعب.. لماذا؟
من برامج مهرجان القاهرة المميزة، التى لا توجد فى مهرجان
مصرى آخر، لكنها بالطبع موجودة فى، ومنقولة عن، مهرجانات عالمية أخرى، هو
برنامج «عروض منتصف الليل» التى تضم عددًا من نوعية أفلام الرعب حديثة
الإنتاج.. يضم برنامج هذا العام سبعة أفلام، من بينها الفيلم المصرى «عمار»
من إخراج محمود كامل.
خلال العقد الأخير ازدهرت هذه النوعية بشدة، وأصبحت حاليًا أكثر النوعيات
نجاحًا جماهيريًا، ومسلسل «ما وراء الطبيعة» مثلًا ليس إلا مسايرة لهذه
«الموضة» التى تجذب جمهور الشباب والمراهقين فى العالم ومصر أيضًا.
من الجيد جدًا أن يوجد هذا البرنامج فى «مهرجان القاهرة»،
حتى لو كان هدفه الأصلى فى المهرجانات العالمية هو بيع مزيد من التذاكر،
ولكن حتى تكتمل الفائدة ويصبح هناك معنى لعرض أفلام رعب فى مهرجان ثقافى
أقترح أن يدعم هذا المهرجان بدراسات عن هذه الظاهرة تحلل أفلامها وأسباب
نجاحها، والتأثير النفسى والاجتماعى، الإيجابى والسلبى، الذى يمكن أن تحدثه
فى نفوس مريديها. |