نجح مهرجان "القاهرة" خلال السنوات الأخيرة في استرداد
الكثير من مكانته التي اهتزت، ومن حضوره الذي بهت، ومن شعبيته التي انكمشت
، حيث اجتذب جمهورا جديدا من الشباب المثقف من عشاق السينما والفن، واستعاد
ثقة الكثيرين من مريديه الأكبر سنا.
لكن المهرجان لم يزل ينظر لنفسه في مرآة سنة 2010، مثل شخص
ينمو جسمه بينما يصر على استخدام ملابسه القديمة الصغيرة، فعدد القاعات
كما هو منذ عام 2014، المسرحين الكبير والصغيربدار الأوبرا وقاعة الهناجر،
بجانب قاعة أخرى أو قاعتين صغيرتين، ودار عرض عام واحدة هي أوديون هذا
العام. ومع أزمة "كوفيد 19 المستجد" وشروط السلامة الصحية المفروضة على
قاعات السينما، والتي تقضي بتشغيل نصف القاعة فقط أو أقل، فهذا يعني أن
أماكن عروض المهرجان تقلصت إلى النصف، في الوقت الذي يتزايد فيه عدد
المشاهدين سنويا.
هذا الوضع يخلق مشكلة بديهية، ظهرت أعراضها خلال السنوات
الماضية مع إصرار إدارة المهرجان على تكديس حاملي البطاقات من نقاد وصحفيين
وسينمائيين وضيوف مع مشتري التذاكر داخل قاعة واحدة، وهو ما يتسبب في زحام
شديد أحيانا، وفي عدم استيعاب القاعات لعدد الراغبين في مشاهدة معظم
الأفلام، بالإضافة إلى الوقت الذي يضيع في طوابير لا لزوم لها.
المشكلة البديهية لها حل بديهي لا يريد أحد أن يفكر فيه،
وهو التخلي عن فكرة حشر أصحاب البطاقات مع حاملي التذاكر في قاعة واحدة،
ومهرجانات "كان" و"برلين" و"فينيسيا" التي يحب مهرجان القاهرة أن يقارن
نفسه بهم لديهم عروض مخصصة للصحافة وصاحبي البطاقات تختلف عن عروض الجمهور.
ومهرجان القاهرة كان يفعل المثل طوال عمره، قبل أن تخطر على بال منظميه
فكرة التذاكر العجيبة، المقتبسة من مهرجانات الخليج!
وإذا كان المهرجان رغم ضخامة ميزانيته وكثرة رعاته لا
يستطيع استئجار قاعات تكفي جمهوره، فليستعن بوزارة الثقافة وشركة السينما
لاستعارة دار عرض أو اثنتين من التي تملكها الوزارة.
منى زكي..تكريم لنصف الموهبة فقط!
كرم المهرجان هذا العام النجمة منى زكي بمنحها جائزة التميز
التي تحمل اسم فاتن حمامة، وهي تستحقها بالتأكيد، رغم أنها في اعتقادي لم
تقدم أعمالا تكفي وتوفي موهبتها الكبيرة التي كانت واضحة منذ بداياتها
المسرحية والتليفزيونية في بداية التسعينيات منذ أن ظهرت في مسرحية "وجهة
نظر" مع محمد صبحي ومسلسلات "العائلة" و"خالتي صفية والدير" و"أهالينا"
وغيرها.
ولكن لسوء الحظ ظهرت منى زكي في زمن انحسرت فيه المساحات
السينمائية التي كانت تحتلها النساء في السبعينيات والثمانينيات، ولم يعد
للممثلات سوى أدوار "سنيدة" نجوم الكوميديا والأكشن، وهي في الغالب أدوار
سطحية نمطية لفتيات جميلات يتفرجن على الاستعراضات التي يؤديها البطل.
في الأعمال القليلة التي أتيحت لها الفرصة لتقديم أدوار
نسائية ممتلئة، مثل دور جيهان السادات الشابة في فيلم "أيام السادات"،
2001، أو "سهر الليالي"، 2003، أو "دم الغزال"، 2004، أو "ولاد العم"،
2008، أو "احكي يا شهرزاد"، 2009، أثبتت منى زكي موهبتها وتمكنها الحرفي،
وأيضا حضورها وجاذبيتها على الشاشة، ولكن في النهاية هذه الأدوار كانت
محدودة العدد والمساحة. وقد صدمت شخصيا عندما فتحت قائمة الأعمال التي
شاركت فيها على مدار ما يزيد عن ربع قرن، فاكتشفت أنها أقل بكثير من حجم
نجوميتها وموهبتها، مقارنة مثلا بأعمال واحدة مثل هند صبري أو حنان ترك
التي اعتزلت مبكرا.
لو كانت منى زكي جاءت في أي زمن آخر، من الأربعينيات
للسبعينيات، لحصلت في الغالب على أضعاف الفرص، وللعبت عشرات الشخصيات
المختلفة في عشرات الأفلام، ولكنها وصلت إلى السينما في وقت ساد فيه شعار
"السينما النظيفة" وتغلغلت فيه أفكار تحريم التمثيل ووصم الممثلات بالعار،
فاختارت أن تسير مع التيار أملا في أن تحصل على مزيد من الفرص وأن تنال
"احترام" جمهور يقيس اعجابه بفنانة ما بطول قماش الملابس التي تغطي جسدها،
ولكن حتى هذا لم يشفع لها في صناعة، وقاعات عرض، وشوارع، باتت ذكورية بشكل
مرعب.
بنت منى زكي شعبيتها الكبيرة في أوساط الطبقة الوسطى
المحافظة من خلال أدوار الفتاة المهذبة الطيبة قوية الشخصية، وهي الصورة
التي قدمت بها نفسها لجمهورها، مما جعلها ترفض أعمالا كثيرة اعتقدت أنها
يمكن أن تهز هذه الصورة.
مع ذلك ففي المرات القليلة التي تشجعت فيها منى زكي على
كسرالصورة "المثالية" للفتاة المهذبة، وقررت أن تخوض أدوارا مختلفة في
أعمال مختلفة عن التيار التجاري السائد، وعن صورتها في أذهان معجبيها،
أثبتت منى زكي نجاحا كبيرا، كما فعلت في فيلم "احكي ياشهرزاد" ومسلسل
"أفراح القبة".
العمر يمضي سريعا، وقد وصلت منى زكي الآن إلى سن ومكانة
يتطلبان منها عمل طفرة ونقلة في نوعية الأدوار والأعمال التي تظهر فيها،
فهي لم تعد طالبة الجامعة أو ابنة الجيران أو الزوجة الطيبة، وعليها أن
تفكر فقط في اطلاق سراح الممثلة الكامنة داخلها، وأن تساعدها على تحطيم
الأغلال الخارجية والداخلية التي تكبلها.
سوكوروف...الشخصية الأكثر أهمية في المهرجان
هو الشخصية الأهم في مهرجان القاهرة هذا العام، ورئيس لجنة
التحكيم في لجنة مختلفة الأذواق والمفاهيم بشكل بين، لا أعرف كيف سيتوصلون
إلى قرارات مشتركة.
ألكسندر سوكوروف مخرج روسي شديد التميز، حاصل على عدد من
الجوائز الكبرى يكفي أي منها ليجعل صاحبها "عالميا"، والأهم حتى من الجوائز
هو نوع السينما التي يصنعها، ولا تشبه أي سينما أخرى.
الفلك الروسي
من أشهر أعمال سكوروف مثلا فيلم "الفلك الروسي"، 2002،
المعروض في المهرجان، وهو عبارة عن لقطة واحدة بدون قطع مدتها ساعة ونصف
الساعة تم تصويره في متحف "الأرميتاج"، أشهر وأكبر المتاحف الروسية، يستعرض
فيه سوكوروف تاريخ روسيا من خلال قصة خيالية تظهر فيها شخصيات تاريخية من
حقب مختلفة، يتحدثون عن الثقافة الروسية مقارنة بالثقافة الأوربية، وهو أحد
الموضوعات التي تشغل بال سوكورف في الكثير من أعماله، مثل فيلمه الأخير
"فرانكوفونيا" الذي تم تصويره داخل متحف اللوفر بباريس، وهو تأمل فلسفي
وشعري لتاريخ الانسان والأعمال الفنية المعروضة في اللوفر.
فاوست
من الموضوعات التي تشغل بال سوكوروف أيضا مسألة "السلطة"
وتأثيرها على من يملكها. وقد تناول هذه الفكرة في ثلاثية شهيرة حول ثلاثة
من أشهر طغاة القرن العشرين: هتلر في "مولوخ"، 2009، ولينين في "تاورس"،
2001، وإمبراطور اليابان هيروهيتو في "الشمس"، 2005، والأخير يعرض في
مهرجان "القاهرة"، ويتتبع فيه وقائع اليوم الأخير في حكم هيروهيتو قبل أن
يحتل الأمريكان اليابان ويفرضون عليه اعلان تنازله عن الألوهية، حيث كان
اليابانيون حتى نهاية الحرب العالمية الثانية يعتبرون امبراطورهم "إلها" من
السماء وصنوا للشمس مثل ملوك الفراعنة!
من أعمال سوكوروف الأكثر فنية "فاوست"، المأخوذ عن مسرحية
الأديب الألماني جوتة، حول العالم الذي بيع روحه للشيطان، والتي تم تحويلها
لعشرات المسرحيات والأفلام بكل اللغات، ولكن "فاوست" سوكوروف واحد من
أكثرها ابداعا وغرابة وازعاجا أيضا.
الشمس
وسوكوروف يصنع أفلامه بلغات عديدة حيث يحرص على أن تنطق
الشخصيات بلغتها الأصلية، فـ"الشمس" مثلا ناطق باليابانية، و"فرانكوفونيا"
بالفرنسية و"فاوست" بالألمانية.
سوكوروف واحد من ألمع مثقفي العصر، ومع إنه لا يهتم كثيرا
باستعراض فنون التصوير، حيث تتسم سينماه بالتقشف البصري والتركيز على
المضمون قبل الاسلوب والتكنيك، لكنه قادر أيضا على استخدام أي تكنيك أو
حيلة فنية لتوصيل هذا المضمون بأكثر الطرق تأثيرا، حتى لو لم تكن أكثرها
امتاعا. |