التناقض الهامس هو الركيزة الأساسُ لهذا العمل السينمائي البديع القادم من
أوروبا الشرقية.
التناقض بين شخصية المُدلك وعالم الأثرياء، بين الراحة على وجهه والسكينة
تفيض من أعماقه، وبين التوتر والضغوط تكشفها إيماءاتهم الجسدية وإشاراتهم
اللغوية.
المفارقة بين طبيعة وتفاصيل وفوضى المكان الفخم الذي يعيشون فيه وبين غرفته
العارية من الأثاث في العمارة النائية الفقيرة.
التناقض على مستوى مظاهر الثراء وتوافر كل أسباب الراحة، لكن السعادة
غائبة، الود والدفء الإنساني مفقودان، التقدير لا مكان له بين الكبير
والصغير؛ فالأطفال يُهينون أمهم، بينما المرأة لا تحب زوجها بكل تصرفاته،
ورغم أنها تضغط على نفسها، فهي غير قادرة على التواصل معه، ويظل نموذج
أبيها والحنين إليه يشغل مخيلتها.
وامرأة ثانية تؤنس وحدتها بكلابها. وثالثة كيَّفت أمورها، فصارت تخون
زوجها، فالوحدة مسيطرة على جميع الشخصيات؛ على الرغم من الجو الأسري ومظاهر
ادعاء السعادة، حتى ضابط الجيش بكل نفوذه سيعترف في لحظة ما بضعفه واحتياجه
لذلك المُدلك الغامض الذي صار رجال الشرطة يبحثون عنه.
لا ضرورة للمنطق
في أثناء مشاهدة «لن تُثلج مجددا»- الفيلم البولندي الألماني المشترك
للمخرجين مالجورزاتا شوموفسكا وميخال إنجليرت- لا ضرورة أبداً للبحث عن
المنطق أو المعقول.
الفيلم ذاته لن يترك لك فرصة لذلك؛ لأنه سيجعلك غارقاً في ثناياه، مستمتعاً
بالكوميديا السوداء المتفجرة من تفاعل البطل الشاب المهاجر مع المحيط الثري
البائس الذي تصوره الكاميرا- في انسحابها وابتعادها عنه- كأنه مقبرة قبيحة.
إن شخصية زينيا المدلك الغامض اللطيف والجذاب الذي يقوم بدوره الممثل
البارع أليك أوتجوف- ستُحرك السكون والرتابة في تلك الضاحية البولندية
الثرية، وكأنه بلمسات ساحرة من يديه القويتين الشافيتين سيُحرر كثيرا من
سكانها من أحزانهم وآلامهم، ليس فقط عبر التدليك، ولكن أيضاً لقدرته على
ممارسة التنويم المغناطيسي حتى من دون علم بعضهم، فيأخذنا في رحلة كاشفة
للأعماق بكل ما فيها من قهر ورغبات دفينة، أغلبها يتعلق بالجسد، والاشتياق
لإشباع رغباته، والأسباب الخفية وراء ذلك الحرمان، على الرغم من النزعة
الاستهلاكية المميزة لذاك المجتمع الراقي.
العنصر الفعال
تبدو شخصية زينيا أسطورية؛ يمتلك قوى خارقة، لكنه عطوف رقيق، لا تشغله
المادة، ولا الجنس، قادر على إرضاء أجساد وأرواح زبائنه، لأنه يشعر بهم
كإنسان. أحياناً يبدو ماضيه كالحلم، نراه بشكل متقطع، مرات عبر وميض
الذكريات المنمنمة المتدفقة برقة من صور والدته، أو من الأحلام التي تزوره،
وتخبرنا عن وفاة والدته متأثرة بكارثة تشيرنوبل، وهو لا يزال طفلاً، والتي
ربما منحته بعضاً من قوته الخارقة.
إن وجود زينيا في هذا المجتمع أشبه بالعنصر الفعال الضروري لكشف خبايا هذا
المحيط الحيوي غير المستقر. لذلك ليس مهماً أن نعرف هويته الحقيقية. ليس
ضرورياً أن نتساءل: هل كان زينيا هو ملاك الموت يتجول في الضاحية القبيحة
المغرمة بالمظاهر، أم أنه مجرد شخص خارق للطبيعة قادر على إحلال السلام لمن
يحتاجون إليه؟!
الأهم أن المخرجيْن نجحا في توظيفه ليكون نافذتنا للعبور إلى كل هذه الأسر
والبيوت في تلك الضاحية، ليس فقط من أجل الهجاء الاجتماعي لتلك العزلة
للبرجوازية المتعجرفة، ولكن أيضاً لنتعرف على خبايا مشاكلهم، وآلامهم،
وأحلامهم ومخاوفهم، كاشفاً منابع القهر والقمع والكذب والبرود العاطفي في
كل شخصية، من دون أن يُصدر أحكاماً عليهم، ولكن ربما يدفعنا إلى أن ننقب في
أعماقنا ونحن نتأملهم.
التصوير- إلى جانب السيناريو والأداء- يحمل على عاتقه تحقيق الرؤية البصرية
بالتنقل بين الألوان الرمادية الضبابية والخضراء المشبعة، لتحقيق التوازن
اللوني الصعب البديع للفيلم الذي يجمع بين الواقعية القاتمة والعبثية
المرعبة عبر تفاصيل المكان، الكلاب بأنينها، والوجوه المنعكسة في النوافذ،
والأضواء تومض وتطفئ، والموسيقى الراقصة المعبرة عن تحرر الجسد.
الجوائز المحبطة
أعترف أنه في ختام مهرجان الجونة السينمائي
الرابع أصابني الإحباط؛ لأنه لم يُعجبني توزيع الجوائز بين الأفلام.
صحيح هناك توجهات وأذواق واختيارات لجان التحكيم، لكن من حقي أيضاً التعبير
عن رأيي؛ فالأفلام الفائزة لم تكن أبداً هي الأجمل بالمهرجان.
والحقيقة أن أغلب الأفلام الفائزة أعمال قاتمة، أغلبها فاز بالجائزة-
أصلاً- لأسباب إيديولوجية بحتة، للمضمون الذي تتناوله، على الرغم من أنها
سينمائياً (فنياً وفكرياً) ليست عظيمة.
وكانت هناك أفلامٌ أكثر منها روعة، كما حدث مثلاً مع فيلم «عايدة، إلى أين
ذهبين؟»، فهذا الفيلم أقصى ما كان يستحقه هو جائزة أفضل ممثلة وفقط.
كذلك فيلم «أيام آكلة لحوم البشر»، صحيح أن الأخير عمل مهم، لكن الفيلم
الساحر «صائدو الكمأ» أكثر سينمائية وفنية وأجمل منه، بل أكثر بهجة، ويُعيد
الثقة لجمهور السينما في الفن السابع، مثلما يعد نموذجا للمقدرة على الجمع
بين تناول القضايا الإنسانية المهمة والقدرة على جذب الجمهور، فهو عمل بالغ
الأهمية في أعماقه وفي نصه التحتي، على الرغم من أنه قد يبدو للبعض مجرد
فيلم عن اصطياد فطر يتم تناوله أو وجبة للأثرياء.
هذا عمل إبداعي كاشف للرأسمالية في أقبح وجوهها، وللتبدلات الواقعة في هذا
المجتمع، ولسلوك البشر العدواني، وعدم الإنسانية في التعامل مع الإنسان
الذي يمتلك المعرفة عندما يصير هرماً.
أعرف تماماً أن الفيلم نال الجائزة البرونزية، لكنه في تقديري الشخصي كان
يستحق الجائزة الذهبية، كان يستحق أن يتقدم على «أيام آكلة لحوم البشر».
أخيراً، برأيي أن هناك أفلامًا أخرى، خسرتها الجوائز في ختام مهرجان الجونة السينمائي
الرابع، ومنها الفيلم الإيطالي «الروابط»، وكذلك «لن تُثلج مجددا»، إنهما
فيلمان جريئان، رائعان، مشحونان بمشاعر مكثفة، مصنوعان بعمق، ويشيان بعالم
يرتجف على الحدود بين الكابوس والمأساة، وإن كان الأول قد تخلى عن روح
الكوميديا، بينما احتفظ الثاني بها بشكل لافت بديع تتعانق فيه الرؤية
الموسيقية مع نظيرتها البصرية. |