فيلم عميق وذو مغزى بصورته القوية وشخصياته الغامضة والعنيفة أحيانًا.
من السهل جدا العثور على أفلام جيدة، ولكن من الصعب العثور على مخرج جيد
يجعلك تؤمن بعمق روحه، لذا فإن الفيلم بالنسبة لي هو مجرد باب لاكتشاف ذلك
الشخص.
المخرج الأذربيجاني هلال بايداروف يعرف ما يريده جيدا في فيلمه "احتضار" Between Dying،
وهو أن لحظة واحدة فى الحياة قد تساوى العمر كله، وهى بالتأكيد لحظة حب،
فالحب هو العائلة الحقيقية للإنسان.
يقدم الفيلم الذى عرض على شاشة مهرجان الجونة السينمائي وفاز بنجمته
البرونزية قصة داود، الشاب الذي يعيش مع والدته المريضة، يحاول العثور على
عائلته الحقيقيّة، ويعيش دورة حياته في يوم واحد وعندما يجد مبتغاه، يكون
الأوان قد فات.
سيطر المخرج بقوة على الحالة المزاجية للقطاته وصورته وشخصياته وحواره
وأيضا على المشاهد أمام الشاشة، الفيلم ملئ بعناصر التشويق منذ البداية
الغامضة، حيث نسمع داود (أورخان إسكندرلي) في تعليق صوتي يتحدث عن بحثه
المتواصل عن امرأة ستكون حب حياته، بينما تتحدث امرأة عن رفضه التحرك ليعثر
عليها كحبه الحقيقي، وفيما بعد نراهما بالقرب من بعضهما دون أن يرى كل
منهما الآخر.
يتنقل الفيلم بين عدد من الصور الشاعرية لتلقى بجمالها وظلالها على
الشخصيات مازجة بين ضبابية السماء وخضرة الأرض، وخاصة فى رحلة بطلنا داود
التى يشهد خلالها على مدار يوم واحد سلسلة من الحوادث الغريبة يفضى بعضها
إلى موت بشر، وأخرى تكشف عن سرديات غامضة، حيث يلتقى مع مجموعة من النساء
المقهورات تواجه كل منهن خطر ما، وتسعي للتحرر، سواء من الزوج العنيف أو
الأخ المستبد، أو من ألم الجسد أو الروح.. التحرر الذي يصل في الموعد
المحدد بالموت.
فها هو أولا مع امرأة شابة تقول إنها مصابة بداء الكلب، ثم مع امرأة تخبره
عن زوجها الوحشي ثم مع شابة ترتدي فستان زفاف، هاربة من زواج مرتب رغما
عنها، يؤدى فى النهاية إلى الموت على طول الطريق الممتد والملئ بالمناظر
الطبيعية القاتمة.
"الصبر
هو أعظم هدية على طريق الكمال"، هذا ما قيل لنا على الشاشة، ستحتاج إلى
كثير منه عندما يتعلق الأمر بالمؤامرة، هنا تبدو لقاءات داود بالنساء
مجازية في البداية - كنوع من المحاكمات الذاتية للضحايا - وهو غالبًا ما
يصطحبهن على دراجته النارية معه طوال الوقت، هاربًا من مجموعة من الرجال،
الذين يظهرون مثل جوقة من وقت لآخر لمراقبة الموت االذي يتركه لكل حالات
النساء.
إنها تجربة تشبه الحلم، وحالة صوفية للمخرج الاذربيجانى تثير الإعجاب أكثر
من كونها قصة يسهل الوصول إليها، فداود الذى يبحث عن معنى في حياته يحيطه
الموت من جانب، وكأنه يثبت لنا بأنه عندما يفتقد الجميع للحب يحتضر ويكون
بين أحضان النهاية عن طيب خاطر.
الأداء المرتجل لبطلنا فى مشواره الغامض كان ملهما يشعرنا بالتأثر الكبير
بأندريه تاركوفسكى، يبحث عن الحب والذي يشعر أنه الهدف الوحيد في الحياة،
حيث تكمن الفرصة الفعلية للحب في المرأة التي كانت تنتظر هناك ولن يشعر بها
ولم ير وجهها أبدا، هى دائمًا في لقطة طويلة مع ظهرها للكاميرا.
بالطبع، فات الأوان بالنسبة لداود، من المفترض أن ندرك ذلك، لأن أفعاله في
العالم كانت لها عواقب، ومع ذلك هناك خلاص لكنه مشؤوم حيث ألحقته رحلته
بالعديد من النساء البائسات على طول الطريق، والذي يربطهم جميعًا بشكل
موضوعي كقطعة واحدة من القماش، كما لو كانت لاعبات من مأساة يونانية.
فى الطريق يلتقى داود مع امرأة ترتدي الأسود، وبجوارها طفل وحصان أبيض
تسقيه الماء وتنظف ملابسه وتخبره بقصتها وهروبها من زوجها المدمن الذى يسئ
معاملتها وتقول له متنهدة وهى تحتضر "كل نفس تقربني إليك"، في إشارة إلى
الحب المجهول الذي تسعى إليه بشكل مخيف، ويبدو أن العروس المخصصة لداود
يمكن أن تكون الموت بالفعل.
بايداروف، يكشف فكره الفلسفي لنا كبشر، حيث تعمل شخصيته داود كوسيط بين
عالمين: عالم من المعاناة، والسجن، والقمع. عالم يثقل كاهل كل من مجبرين
على العيش فيه، ثم هناك عالم الحرية، والإفراج، وربما المغفرة، ويتفاوض
داود بين الاثنين ويساعد الناس على الانتقال من عالم إلى آخر.
يفعل ذلك دون وعي. إنه يحرك الأمور من خلال حضوره المطلق وكأنه كائن من
السماء يعيش بين الاحتضار هو أيضًا: إنه مطاردة لكن هل يحدث ذلك فى الحقيقة
في الخيال؟ لا زمان ولا مكان في فيلم بايداروف. إنه سرد حر وربما يكون
السبب الرئيسي لذلك هو تقسيم الفيلم إلى فصول، كل فصول يقدم شخصية امرأة
أخرى، يركز على معاناتها وتحررها من هذه المعاناة. ربما يكون أكثر ما يذهل
المشاهد هو أن النساء المختلفات تجسدهن نفس الممثلة، مما يمنع التوجه
الزمني والمكاني.
المناظر الطبيعية المغطاة بالضباب، والحالمة الجميلة تضيف إلى هذا الشعور
الغريب بأنك في مكان ما معروف وغير معروف في نفس الوقت. أثناء هروبه يجد
داود نفسه في ظروف مأساوية وغامضة. أينما ذهب، الموت ليس بعيدا وفي المشاعر
التي يستحضرها.
صور المخرج فى فيلمه الخيالي الثاني، بعد "تلال بدون أسماء " 2018 والعديد
من الأفلام الوثائقية،الموت فى صورة شاعرية وبسرد تضغى عليه السمة الخيالية
والتأملية فى علاقة البشر بالطبيعة المحيطة وأسلوب ملئ بالرمزية السينمائية
ويبدو أنه تأثر أيضا ككاتب سيناريو بالمخرج بيلجى سيلان وخاصة فى تصوير
الطبيعة ببطئ، وكان لمزيج الموسيقى مع الصوت المؤلم تأثير كبير فى رسوخ
المشهد من حيث الإيحاء بالفكرة.
بجانب التركيبات والإضاءة والتى غالبا ما كانتمظلمة تمامًا، وحتى الضباب
والسحاب وهي أمور كانت ملهمة في أسلوب المخرج لأنها تؤدي إلى وحدة الوجود،
وحدة الأرواح بينما جاء أداء أورخان إسكندرلي "داود" ورنا أسجاروفا
"العروس" عميقا وبليغا وخاصة فى التعبير الصامت بالجسد والنظرات التى
تجاوزت حدود تقليدية الأداء، إنه حقا فيلم رائع عميق جدا وذات مغزى،
بصورته القوية وشخصياته الغامضة والعنيفة أحيانًا.
إنه ليس مجرد "حدس شعري" تقليدي يتعلق في الغالب بالانسجام والتوازن، إنه
عن الجمال، ولا أنسى كلمات هلال بيداروف: "من فيلم إلى فيلم أدركت أنني لا
أحب السينما، أحب الحياة، إنها مجرد لحظة حياة، لحظة جمال أرغب دائمًا في
التقاطها".
قرأ بيداروف قصة بوذا عندما كان في المدرسة الثانوية. إنها قصة بسيطة عن
بوذا يعرفها الجميع - لقد كان ابن الملك ، ولم يرَ قط مرضى وكبار السن
وفقراء في القصر. ذات يوم غادر القصر عن طريق الخطأ والتقى بواقع الحياة
وقرر عدم العودة وكرس نفسه لفهم "الحياة".
وقال: "لا أرى الفيلم على أنه مشكلة يجب تحليلها. لا يوجد حل مشكلة ولا
أعتقد أن هناك نفق عميق أو شيء من هذا القبيل. السينما تدور حول نقطة واحدة
فقط أو السينما هي مجرد نقطة واحدة من بين 360 درجة من حولنا. والتصوير
يحاول إيجاد هذه النقطة". |