طرح مهموم لمرض الزهايمر لا تكلّف فيه
لمى طيارة
الممثلة اللبنانية رندة كعدي لم تكتف بخوض التجربة مع مخرج
شاب لم يلمع اسمه بعد في عالم السينما، بل قامت بالترويج لفيلم "ش و إ س م
ك" بشكل مباشر.
بعض الأفلام السينمائية لا تنتهي بمجرد انتهاء عرضها، ذلك
أن تأثيرها يبقى طاغيا لوقت طويل، ما يجعل متابعة فيلم آخر توازيا معه في
وقت قريب أمرا صعبا إن لم نقل مستحيلا. وفيلم “ش و إ س م ك” الروائي القصير
للمخرج اللبناني نور المجبر، واحد من تلك الأفلام التي ترسخ في الذاكرة
ويستحيل بسهولة نسيانها أو محوها منها.
ننجذب في أحيان كثيرة لإنتاجات مخرجين لمع اسمهم نتيجة
حصولهم على جوائز، وحضورهم في المحافل العالمية أو حتى العربية العريقة،
لكن المشاهدة لا تأتي بنفس النتيجة، فالبروباغندا الإعلامية ذكية ونشطة
وقادرة على فرض نفسها والسيطرة إلى حد ما، ولكنها قد تفشل بمجرد وقعت على
المحك.
لكن بعض الأفلام قد لا تلقى دعما إعلاميا كافيا يليق بها،
ولربما لا تلقى دعما نهائيا، لأن مواضيعها لا تدور حول التابوهات
والمحرمات ولا تكشف جانبا مظلما ورثا من مجتمعاتنا العربية، رغم أنها قد
تكون إنسانية وتطرح مواضيع يتشارك فيها معظم سكان الأرض ويهتم بأمرها.
إعلان محفّز
خلال جولة سريعة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، لفتني
تعليق جميل لدى الفنانة اللبنانية رندة كعدي، تقول فيه “فيلم قصير صار بارم
(تجوّل) 24 دولة، وآخذ 22 تنويه و7 جوائز، مراحل الزهايمر”.
أوقفني التعليق وكأنه إعلان عظيم عن فيلم روائي قصير، ليس
فقط لأن نهايته تشير إلى مرض الزهايمر، المرض الذي بات قريبا منا وملامسا
جدا لحياتنا، بل لأني ورغم كل متابعاتي الحثيثة والدقيقة حول الإنتاجات
السينمائية وخاصة العربية منها، لم أسمع به ولا حتى باسم مخرجه، وهكذا كانت
البداية.
وتدور أحداث الفيلم الروائي القصير المعنون “ش و إ س م ك”،
والذي لا تتجاوز مدته 15 دقيقة، حول شاب يقوم بتصوير والدته التي بدأت
خطواتها الأولى مع مرض الزهايمر، في محاولة منه لمساعدتها على العلاج
والتخلص من المرض، وهو مشروع تخرّج لنيل درجة الماستر للمخرج نور المجبر من
(الجامعة اللبنانية، معهد الفنون الجميلة والعمارة، قسم السنيما
والتلفزيون)، ومن بطولة الفنانة رندة كعدي إلى جانب نسيب السبعلي، وتحت
إشراف المخرج اللبناني بهيج حجيج، واختار المخرج كتابة عنوانه بتلك الطريقة
لتتشابه مع الطريقة التي ينطق بها الحروف مريض الزهايمر في مراحله المتقدمة.
نور المجبر لم يتكلف المبالغات لاستدرار عواطف الجمهور، بل
تعامل مع الفيلم بحساسية عالية
لا يتكلف المخرج عناء ولا مبالغات الابتذال لبلوغ استدرار
عاطفي جماهيري، بل يتعامل مع الفيلم فقط بحساسية عالية وتقشف كبير سواء في
الحوار أو حتى مواقع التصوير، وهو يتصرّف تماما كما يحلو لبطل الفيلم أن
يتصرّف، فيثبت كاميراته وإضاءته وإكسسواراته، وكل ما يفعله، إنه يضيء
كاميراته هكذا بكل بساطة.
كما أنه لا يحتاج لترف الانتقال من مكان إلى آخر، ويكتفي
بـ”لوكشن” مكان تصوير واحد، يختصر معه حياة هذه الأسرة على مدار سنوات من
معاناتها مع مرض الأم المصابة بالزهايمر.
وينهي فيلمه بإهدائه إلى مليحة ووالدتها، ومليحة كما يقول
نور، صديقة حاولت أن تخبره بعضا من التفاصيل الخاصة بوالدتها مريضة
الزهايمر، والعلاقة الحساسة التي تربطهما ببعض.
ولم تكتف رندة كعدي بخوض التجربة مع فنان شاب، الذي لم يلمع
اسمه بعد في عالم السينما، ولا يملك حتى ميزانية لإنتاج فيلمه على اعتباره
فيلما مستقلا، بل أيضا قامت بالترويج للفيلم بشكل مباشر، وهو أمر يدفع
للتساؤل، كيف يتمكن هؤلاء الشباب من إقناع نجومهم بخوض تلك التجربة، التي
لم تبدأ مع نور ولن تنتهي معه.
وقد سبق وأن شاهدت فيلما روائيا قصيرا للمخرج المصري الشاب
أحمد نادر بعنوان “ونس” قام ببطولته كل من الفنان المصري الشهير عبدالرحمن
أبوزهرة والفنانة رجاء حسين، وأكاد أجزم أن وجود النجمين كان السبب الرئيسي
في نجاح الفيلم، ليس بسبب السمعة الطيبة لكليهما، ولكن لقدرتهما على فهم
حساسية المخرج وإعادة تجسيد فكرته على الشاشة بشكل مطابق لما جاء في الورق.
عن ذلك يقول المجبر “قبل تصوير الفيلم بشهرين، كانت الفنانة
رندة كعدي قد حصلت على جائزة من مسابقة (الموريكس)، وعند تسلمها للجائزة،
وعبر كلمة ألقتها أبدت عدم رغبتها في إعادة لعب دور الأم، لذلك كنت متوترا
جدا وأنا في طريقي لأخبارها أنني أتمنى أن تؤدّي في فيلمي دور أم”.
ويتابع المجبر “ولكن وبمجرد أن أخبرتها بقصة الفيلم، وما أن
بدأت تقرأه، حتى بدأت بتقمص الشخصية، ووافقت عليه دون أي تعديل”، مؤكّدا
على أنها من الممثلات اللواتي يشجعن المخرجين الشبان، وأن العمل معها شي
جميل وممتع، ودقيق لكونها احترافية، وثقتها به بدأت منذ تلك اللحظة ولا
يعرف كيف حصل عليها.
ورندة كعدي الملقبة بـ”ميريل ستريب الشرق” ممثلة لبنانية
ولدت في قرية عين الرمانة، والدها كان كاتبا مسرحيا، حيث شاركت مع والدها
في اسكتش “دنيا الأطفال” مع “ماما جانيت” في التلفزيون، ولكن الحرب جعلتها
تنتقل من المدرسة، فقضت معظم أيامها في الملاجئ، وتوقفت عن العمل. ولكن كان
والدها دائما يشجعها على دراسة المسرح والتمثيل والفن بشكل عام، حيث كان
يأخذها دائما إلى المسرح لتشاهد المسرحيات التي كتبها، وقد عاشت طفولتها
وراء كواليس المسرح، كما عملت على الدراسة في معهد الفنون، ومن أهم أعمالها
الفنية: “قلبي يدق”، “الطاغية”، “مجنون ليلى”، “روبي”، “وجع الروح”،
“الشهباء”، “سنابل القمح” و”الجاحظ”. وهي التي اشتهرت بتجسيدها دور الأم في
أكثر من عمل تلفزيوني وسينمائي.
قصة مؤثّرة
صحيح أن الفيلم يدور حول أم قد تبدو تقليدية من خلال
علاقتها بابنها، لكنها في حقيقة الأمر لا تشبه أي أم أخرى، إنها امرأة وأم
تعاني مرضا بات واقعا في حياتها، وهو أمر تعيه ولا تنكره، وهي بذلك تمثل
عشرات من السيدات والأسر اللواتي عايشن نفس الظروف ونفس الأحاسيس، وهذا
الأمر في حد ذاته قد يكون دافعا ومشجعا لأي ممثل متمكن من أدواته لخوض
التحدي حتى لو كان مع مخرج شاب لم يتجاوز حينها من العمر 24 عاما.
ورغم أن الفيلم كما نوّهت سابقا لا يستدرجنا عاطفيا، بقدر
ما يثير أحاسيسنا وضمائرنا تجاه موضوع بات أمرا واقعا ومريرا لدى العديد
منا، إلاّ أنه في ذات الوقت مؤثر فعليا في الجمهور، يقول المجبر “كل ما
كان يخيفني مع نهاية كل عرض سينمائي في أي مهرجان، أن يخرج الناس من القاعة
متأثرين باكين، فغالبا اليوم لدى معظم الناس معارف أو أقارب مصابين
بالزهايمر”.
انتهى نور المجبر من تصوير الفيلم مع نهاية العام 2018،
ورغم أن بعض العمليات الفنية لإعداده، لم تكن قد انتهت فعليا، إلاّ أنه
شارك في مهرجان إيليا للأفلام القصيرة في فلسطين، بنسخة غير مكتملة وغير
ملونة، ومع ذلك حصلت بطلته رندة كعدي على جائزة أفضل ممثله عنه.
ولكن رحلته الفنية في المهرجانات كانت قد بدأت فعليا بعد أن
تم تلوينه، حيث عرض لأول مرة كفيلم مكتمل بدءا من مهرجان لبنان في منتصف
العام 2019، وحصلت بطلته أيضا على جائزة أفضل ممثلة، وحصل على جائزة أفضل
ممثلة وأفضل فيلم وأفضل سينماتوغرافيا في مهرجان لحظات للأفلام القصيرة
ببيروت في فبراير 2019.
كما سبق له أن شارك في العديد من المهرجانات العالمية في كل
من أريزونا الأميركية وفينيسيا الإيطالية والعاصمة الأذرية باكو، كما يشارك
حاليا في مهرجان بيروت الدولي للأفلام القصيرة الذي تنتهي فعالياته،
الأربعاء، وسيكون حاضرا في مهرجان بانوراما الفيلم القصير الدولي في دورته
السادسة من 2 إلى 4 فبراير 2021 في تونس.
كاتبة سورية |