هل يُمكن كتابة عن ٢٠١٩، ما كتبته عن ٢٠١٨: عام آخر شعاره
الثراء والتنوّع والجرأة؟ ربما. ولكن العام الذي مضى تجاوز التوقّعات كافة،
حدّ الاضطرار إلى رفع عدد الأفلام من ٢٠ إلى ٣٠.
٢٠١٩
كان عاماً كبيراً للسينما، وهذا يعرفه جيداً جميع الذين تابعوا وبحثوا ولم
يكتفوا بما قُدِّم لهم على طبق من ذهب، مع التذكير أنّ عدد الأفلام التي
هتفت لها قلوبنا يتجاوز بكثير العدد الذي في هذا المقال. أفلام كبيرة وصلت
إلى الشاشة وغادرتها، لكنها ستصمد في الذاكرة لأطول وقت ممكن. غيرها، أقل
أهمية وجمالاً وعظمة، سيسقط كورقة خريف مع حلول الموسم الجديد.
خلف هذا الإلهام السينمائيّ، أزمات تحيط بنا على مستوى
العالم كلّه، وهي أزمات سياسية واجتماعية وأخلاقية وبيئية. الأزمات تلهم
سينمائيين ألمعيين لهم قدرة على التقاط اللحظة وتوثيقها بلغة الشاشة.
السينما، جامعة الفنون، لا تزال تمدّنا عاماً بعد عام، بتحف سينمائية.
بقدرتها على بلورة الخطاب الإنساني وإشهار الأسئلة وصناعة الترفيه، لا تزال
في صدارة الفنون الحيّة والجماهيرية.
على مدار ٢٠١٩، همست لنا الشاشة حكاياتها الأبهى وأسرارها
الأجمل. "موتها" المؤجّل والمبرمج له من مواقع التحميل الالكترونية ومنصّات
المشاهدة الفردية لم يحن آوانه بعد، وإن تعدّدت أساليب المشاهدة.
في الآتي، ٣٠ فيلماً (بلا أي ترتيب) تُعدّ خلاصة عام كامل
من المشاهدة في المهرجانات الدولية والصالات التجارية، من كانّ إلى برلين
والبندقية، فعدد لا يقلّ على ٢٥ موعداً سينمائياً أُتيح لي حضورها لالتقاط
كلّ مستجد ومثير.
تضم اللائحة الآتية أفلاماً جميلة من أنحاء العالم كافة
وثّقت واقعنا بيأس وغبطة، وأمل وغضب، وتخبّط واصرار على قول شيء مختلف عن
السائد. خاطبت العالم بلغة الصورة التي تقفز فوق اللغات المنطوقة. بعضها
نال ما يستحق من تحيّة وبعضها الآخر يحتاج إلى دعم، وإن على هذه الصفحات،
كي يصل إلى التقدير الذي نجدها أهلاً له.
رغبة السينمائيين في أن يكونوا شهوداً على زمنهم، حبستنا في
الصالات المظلمة لفترة لا تقل على ٨٠٠ ساعة طوال عام كامل؛ هناك حيث النور
الممتدّ في الفراغ يتحوّل دموعاً وأحلاماً وخيبات ونهايات سعيدة. فلذلك،
يحقّ لنا ربمّا أن نطلب من القراء بعض الوقت لقراءة هذا المقال الطويل أو
الاكتفاء بالاطلاع على لائحة الأفلام المختارة.
ملتقانا في مطلع ٢٠٢١، مع التمنيات بعام سينمائي على مستوى
التوقّعات.
"بينبول"
لكنتمير بالاغوف
الروسي كنتمير بالاغوف سينمائي كبير، على رغم عمره الصغير،
بالسنوات الثماني والعشرين التي عاشها حتى الآن وأنجز خلالها فيلمين. هو
كبير في قدراته على التقاط لحظة حاسمة، تفصيل جانبي، بهجة مفقودة. فيلمه
هذا يدنو من التحفة مرارا كثيرة، ويبتعد منها مرات. لكن، فيه ما يكفي من
الروعة للتأكيد اننا حيال عملٍ، كلّ زاوية منه تشعّ بالجمال. هذا النصّ
الموحي أكثر منه المباشر، الذي استوحاه بالاغوف من ذكريات نساء سوفياتيات
خلال الحرب العالمية الثانية، يترجّح بين الملحمة التاريخية والشؤون
الحميمية التي تفضي إلى رسم بورتريهاتنسائية. اذا كانت المشاعر ما يشغل
المخرج في الأساس، فالخلفية هي شأن آخر لا يقلّ أهمية، اذ ان الحوادث تجري
في شتاء لينينغراد خلال الفترة التي تلت النصر على النازية، حينما كانت
روسيا في حال يُرثى لها جراء الاجتياح والقصف والمجاعة… وستالين! بالاغوف
يقرر ان يوثّق هذه الأوضاع المزرية من خلال ممرضة طويلة القامة، وظيفتها
العلاج، الا انها أكثر مَن تحتاج إلى علاج، كونها تعاني من نوبات تكززية.
هناك كمية من الرقّة والرأفة في نظرة كنتمير إلى الأشياء التي يصوّرها،
بالرغم من بلد مزنّر بعنف يجعل الشخصيات تتخبّط، في لحظة لملمة جراح الحرب
والعودة إلى الحياة تدريجاً.
"ثم،
رقصنا" لليفان أكين
لم ينل الفيلم ما يستحقّه من انتشار وتقدير، بالرغم من عرضه
في مهرجان كانّ ("أسبوعا المخرجين"). عمل من جورجيا عن المثلية؟ فهذه ليست
من الأشياء التي تحصل كلّ يوم (حاربه اليمين الأقصى)، مع التذكير بأن أكين
ابن الثقافة الغربية، الأسوجية تحديداً، ذلك انه ولد ودرس واشتغل في أسوج.
والفيلم يرزح بوضوح تحت ثقل هذه الثقافة المزدوجة التي لدى المخرج. البعض
رأى في الفيلم "استحواذاً ثقافياً"، والبعض الآخر وجده "هوليوودياً". قد
تكون الجهتان على خطأ أو على صواب، إلاّ أني أعتقد ان أهمية الفيلم لا
تُقاس على هذا النحو، بل عبر رد الاعتبار إلى تدرجات الأحاسيس، من أكثرها
مرحاً إلى أشدّها ألماً، التي تُبث في دواخلنا، لتبقى أطول فترة ممكنة.
الحكاية تعرفنا إلى مراب، الشاب الذي يرقص منذ صغره مع ماري في الفريق
الوطني الجورجي. وصول الشاب الكاريزماتي إرياكلي سيقلب حياته كلياً، ويفتح
الأبواب المغلقة التي يراهن الفيلم على فتحها: تتفجّر الرغبات المكبوتة
والميول الجنسية، الخ. المجتمع الجورجي شديد المحافظة يتقيد بالتقاليد
والموروث الديني. الفيلم ينقب في هذا المطرح ويخلق صراعاً بين الفرد
ومحيطه، هذا كله من خلال فنٍّأداته الجسد (الرقص) والتمرد الذي يتّجه بخطى
بطيئة ولكن واثقة إلى روح الشخصيات، وصولاً إلى لحظة التحرر التي تحمل
الفيلم إلى ذروته. عمل بديع على المستويات كافة، كتابةً وتمثيلاً وإخراجاً
وتصويراً، وإن كان مجرى أحداثه متوقّعاً في بعض الأحيان.
"المنارة"
لروبرت إيغرز
فيلمٌ طموحه الأول حبس الأنفاس ما دام المُشاهد جالساًفي
كرسيه ونظره لا يشيح عن الشاشة. هذا ما يحدث في الحقيقة، ونحن نتابع ما
يجري في فيلم إيغرز البديع الذي لا يقدّم حوادث أو حكاية بالمعنى المتّفق
عليه. "المنارة" قطعة سينمائية "ملبوسة"، تتسبب بسكرة وابتعاد من الذات.
نغدو شهوداً على مواجهة شرسة عبثية دموية حيوانية بين رجلين أحدهما مخضرم
والثاني عوده لا يزال طرياً. الرجلان متروكان لنفسيهما وغرائزهما ومصيريهما
في جزيرة لا يقطنها أحد غيرهما. عند هذين مهمّة محدّدة: حراسة المنارة لوقت
معين قبل المغادرة. ولكن، كلّ ما يحوط بهما، بدءاً من الوحدة إلى العاصفة
الآتية، يحضّهما على الخصام والعراك. تدور القصّة التي تستلهم أساطير رجال
البحر، في أواخر القرن التاسع عشر. يشتغل المخرج في المقام الأول على اشاعة
جو مغناطيسي، وللمكان الموحش تأثيره وسطوته في سلوكيات الشخصيات التي لا
يحرص الفيلم على تبريرها وعقلنتها. نحن إزاء عمل يولي الشكلانية المستمدة
من الغوطية، الأهمية القصوى، فتكاد تكون خطاباً، ولكنه خطاب غير منفصل عن
باقي الفيلم الذي يلوح بلا توقّف بالخطر ونهاية كلّ شيء. فكلّ لقطة، زاوية،
حجم كادر، يقول شيئاً، يضيف معلومة، يبني احساساً. التوتر يبدأ من نقطة
الصفر ليتصاعد تدريجاً قبل بلوغ أقصى الجنون. يصعب القول ان "المنارة" درسٌ
في المتعة السينمائية، بل ان هذا تأكيد لفشله، ولكن مهرجان الجنون الذي
يقدّمه يدغدغ أعمق مكان في سينيفيليتنا. يجب ألا ننسى أيضاً انه لولا
الأداء الساحر للثنائي ويلَم دافو وروبرت باتينسون، لما بلغ الفيلم هذه
المرتبة من الروعة، أو بكلام أدق، لما نزل، ونحن معه، إلى قعر الجحيم.
"المنتقمون:
نهاية اللعبة" لأنتوني وجو روسّو
فصل المعركة ضد تانوس الذي يمتد لأكثر من نصف ساعة وحده
كفيل لتأهيل الفيلم (مارفل) إلى هذه اللائحة وجعله يحلّق عالياً في فضاء
السينما. لنعترف قليلاً ان مصنع الأحلام الهوليوودية يعيدنا أطفالاً مهما
كابرنا. هذا الحضن هو السينما التي تمدّنا بأجنحة للتحليق بعيداً في عالم
الخيال. "المنتقمون" بخاتمته هذه، يسمو بالسينما الترفيهية ذات الموازنة
العالية. انه عمل قائم في ذاته، له فلسفته، لغته، مقاربته البصرية،
مخلوقاته التي تتصارع لأغراض لا نفهم كلّ شيء منها اذا تجاوزنا سنّاً معينة
ولم نمتلك كلّ التفاصيل التي أوصلت السلسلة منذ نشأتها قبل ١١ عاماً مع
"الرجل الحديد" إلى نقطة انطلاق جديدة. المهم ان نتذكّر ان الأشياء هنا
تتمحور على الانقاذ والانتقام والإيمان بقدرات الذات الخارقة. لهذا نحتاج
إلى مخطط فمعارك وحروب. لا داعي للتذكير بأن مكان المشاهدة الوحيد لملحمة
كهذه هو الصالة السينمائية التي تضمن انغماساً كاملاً، صوتاً وصورةً. فيضان
بصري سيجرفك كما وحدها هوليوود تجيده.
"الأطفال"
لداغ يوهان هوغرد
١٥٧
دقيقة تمر بلمحة بصر في هذه الرائعة السينمائية. رحلة إنسانية تكاد تكون
بيداغوجية وأخلاقية أيضاً، لكنها قبل كلّ شيء سينمائية، سنتعقّب خلالها خطى
المخرج، من دون ان نعلم أين سنحطّ في النهاية. ينطلق "الأطفال"من حادثة
يتعرض لها صبي في الثالثة عشرة، خلال معركة مع رفيقته جايمي، فيُنقَل على
أثرها إلى المستشفى حيث يفارق الحياة. الحادثة ستشكّل صدمة كبيرة جداً
للمحيط كله، على جميع المستويات، الحياتية والمهنية والنفسية، فهي وقعت في
ملعب المدرسة وتترتب بالتالي مسؤولية على الأساتذة والادارة. سيشهد الفيلم
بعد ذلك حلقات طويلة من المحادثات (الهادئة في أغلبها) لاستقصاء الظروف
ومعرفة خلفيات هذا الموت الصادم. هل هذه الوفاة هي قتلٌ متعمّدُ أم إنها
حادثة؟ السؤال اللغز بقدر ما يبدو قضائياً، هو أخلاقي في المقام الأول.
سنشهد تشابكاً معقّداً بين الطفلة المتّهمة وأهلها وادارة المدرسة ووالد
الصبي، تتداخل فيه السياسة والعلاقات العاطفية والواجب الإنساني. الا ان
هوغرد يخلّصه من تعقيداته ليصبح شفّافاً، فيبقي الجوهر، بضمير وإنسانية
وحسّ رفيع لا مثيل له. يعرّي الفيلم منظومة كاملة، من خلال ما يُمكن
اعتباره حادثاً عرضياً. البحث عن الحقيقة مهما كلّف الثمن، المغفرة،
المصالحة مع الذات، هذا بعض ممّا نكتشفه في هذا العمل الذي لا يصوّر أي
تفصيل سوى للارتقاء به والاشارة من خلاله إلى أمراض المجتمع. "الأطفال"
يجعلك تتمنّى لو ولدتَ في النروج وسط أناس يعلمون ان الوصول إلى الحقيقة
أشبه بعبور الصحراء. انه تحدٍّ لإنسانيتهم وامتحان لقدرتهم على ان يكونوا
مسؤولين. المسؤولية، هذه الكلمة العجيبة التي نسمع عنها كثيراً ولا نراها
البتّة، الا في أحايين قليلة، الفيلم يوفّر احدى فرصها.
"مونوس"
لأليخاندرو لانديس
هذه مرافعة مذهلة ضد العسكرة والعنف. في أعلى قمّة جبلية،
يشهد الفيلم الثاني للكولومبي أليخاندرو لانديس افتتاحيته العظيمة. ثمانية
مراهقين بلا أسماء، مسلّحون، تدرّبهم منظّمة غامضة على العنف، في مكان بعيد
من التحضّر، ولديهم تحت الحراسة بقرة وطبيبة وقعت في أسرهم ويجب عدم السماح
لها بالفرار. يتواصل المراهقون مع "رسول" يمثّل المنظّمة عبر الراديو. لكن
الأشياء ستتفكّك سريعاً… يستمد الفيلم بعضاً من قوّته من بيئته الطبيعية
الحاضنة، شبه الصوفية. كلّ شيء فيه يرتدي زي الاستعارة، لا حرفية في قراءة
الحوادث، فهو يأخذ من اللامكان مكاناً له ليجعل اطروحته كونية. منذ
البداية، هناك شيء أبعد وأعمق ممّا نراه على الشاشة. إخراج لانديس يشعّ
جمالاً، بتكويناته الهائلة وحسّيته الطاغية وشعور البارانويا الفريد الذي
ينتشر كنار في الهشيم، بمساعدة موسيقى ميكا ليفي. هذا فيلم يدخل في مسامات
الجلد، بارد وعلى قدر من القسوة في آنٍ واحد. نشهد النحو الذي يتم فيه
تدريب شباب على طقوس سامة، ممارسات شنيعة تقترب من البربرية. يحتمل الفيلم
قراءات عدة، من شدّة الأسئلة التي تبقى عالقة، لكنه يعرف كيف يحاصر
المُشاهد داخل عنف متصاعد يجد نفسه قاصراً في مخالبه، ولا فكاك منها.
"أبيض
على أبيض" لثيو كورت
الابهار الذي يصنعه هذا الفيلم يكفي لأفلام عدّة. المخرج
التشيلياني صنع إحدى أهم لقيات ٢٠١٩. هذا واحد من النصوص الذي من الممكن ان
لا تفهم منه شيئاً، ومع ذلك تذوب فيه عشقاً. يقع الفيلم خارج أي تصنيف، الا
ان بعض الاجتهاد قد يزجّ به في إطار الوسترن. بدرو هو الشخصية الأساسية.
مصوّر فوتوغرافي يلجأ إقطاعيٌّ إلى خدماته (تجري الحوادث في مطلع القرن
الماضي). يسافر الرجل لتصوير السيدة التي سيتزوجها الثري، فيكتشف انها
طفلة. نتيجة تطوّرات درامية، يضطر بدرو إلى الفرار، فيقع عمله التشكيلي في
يد مرتكبي مجزرة سلكنام (السكّان الأصليون). ينطلق الفيلم من موضوع كلاسيكي
هو علاقة الفنّان بموضوعه ورغبته وهواجسه وطموحه لبلوغ ذروة الجمال عبر
المادة التي يشتغل عليها. نحن هنا حيال تجربة بصرية، تخاطب الحواس. ولعل
أحد أسرار الروعة التي تبلغها، كامن في وحدة الحال بين المخرج والمصوّر
والحوار الضمني الذي ينشأ بينهما. كلاهما يبحث عن الأمر نفسه. يبلور الفيلم
خطاباً مهمّاً عن النحو الذي يمكن ان يصبح فيه الفنّ "منحرفاً" متى وقع في
يد الكائن الحي. هذا ما يصلنا من الفصل الثاني عندما ينتقل بدرو من تصوير
الجمال إلى تصوير البشاعة. بدرو يجد نفسه وقد استُدرِج إلى هذا الفخّ
القاتل، في حين يعيش المُشاهد لحظات من النشوة.
"حياة
خفيّة" لترنس ماليك
فلاح نمسوي يرفض رفضاً قاطعاً الالتحاق بالجيش النازي خلال
الحرب العالمية الثانية. لا عقيدته ولا مبادئه الإنسانية تسمحان لهذا
الممانع، بخدمة الشر واعلان الولاء غير المشروط لهتلر. عصيانه هذا سيزج به
في السجن، ويضعه هو وعائلته في مواجهة أهل قريته الذين سيعتبرونه خائناً.
من خلال الرسائل التي يتبادلها مع زوجته، يروي ترنس ماليك بأسلوبه
الأوبرالي الذي ينطوي على التكرار والتجزئة والقفزات المونتاجية، سيرة صحوة
ضمير. رجل وحيد يواجه بشاعة العالم، يتقبّل مصيره بلا أي مقاومة أو احتجاج.
على رغم تعرضه للمهانة، والاستبعاد، والتعذيب، لن تثور روحه، لأن الثورة
تكمن في موقفه المعلن الذي يذعن لعقاب الشرّ، وإن دفع حياته ثمناً له. في
كلّ مرة وجد فيها ماليك نفسه أمام قضية، حكاية كلاسيكية، لحظة من التاريخ،
وصل بها إلى ذروة سينماه، وذورة التلاقي والانصهار بين الشكل والمضمون.
"حياة خفيّة" قصيدة سينمائية، صلاة، تمسك من عنق المُشاهد طوال نحو ثلاث
ساعات ولا تتركه سوى مع صعود جنريك النهاية، مانحاً إياه الاحساس بأن
المخرج السبعيني يكتب مع هذا العمل الكبير وصيته السينمائية.
"بورتريه
فتاة تحترق" لسيلين سيامّا
الفنّ والغرام والأحاسيس المكبوتة، هذا كله على مائدة فيلم
يحملنا إلى القرن الثامن عشر، لسرد قصّة تتمحور على رسّامة شابة تطلب اليها
سيدة أريستوقراطية رسم بورتريه ابنتها الخارجة للتو من الدير وفي طريقها
إلى بيت رجل من ميلانو تطمح أمها في تزويجها منه. الا ان الابنة غير مرتاحة
لهذا الخيار، فترفض ان يتم رسمها. عندئذ، لا يبقى أمام الرسّامة سوى ان
ترسمها من دون علمها. ولكن، عليها أولاً ان تألفها وتألف تفاصيلها والنحو
الذي تتحرك فيه. جزيرة بروتانية هي مسرح الأحداث واللقاءات والمشاهد
الحميمية، مع ما يقدّمه هذا المكان من مناظر رومنطيقية خلاّبة تُدرج فيها
الشخصيات لتصبح بسرعة كالسمكة في مياهها. هذا الديكور سيشهد نشوء علاقة
غرامية جميلة بين الفتاتين، الرسّامة وموديلها، علاقة تقوم على ايحاءات
ومشاركة تفاصيل جميلة كأنها من عالم الأدب. يوثّق الفيلم لحظة ولادة الشهوة
الجنسية والرغبة العاطفية بين كائنتين، على نحو جد حسيّ، خطوة خطوة
وبالكثير من الامعان في التفاصيل الدالة. "بورتريه فتاة تحترق" عمل
استيتيكي كبير يقارب المرأة وجسدها والوصاية المفروضة عليه أحياناً،
اجتماعياً وأخلاقياً وفنيّاً، من وجهة نظر مخرجة، صاحبة موهبة خارقة.
"بارازيت"
لبونغ جون هو
يضع المخرج الكوري كاميراه في سيول المعاصرة من أجل فيلم
يغلب عليه الطابع الاجتماعي المقنّع. يروي صعوبة العيش والصراع الطبقي بلا
كلام مباشر عنهما، ولكن مواربةً، حيث ان الفقراء لا يملكون سوى سرقة
الأثرياء. ولكن من الظلم اختزال الفيلم بهذا، اذ انه يضعنا أمام مواقف عدة
يمتحن فيها أخلاقية الجمهور قبل ان يدين هذا أو ذاك. لا يبلغ في أي لحظة من
اللحظات مستوى الدرس الممل والديداكتية، بل يبقى على طول الخط "كوميديا
اجتماعية سوداء"، اذا صح اعتباره كذلك. الا ان خطابه، في الختام، يصل إلى
المشاهد بلا أي فلترة. أفراد العائلة التي نتعرّف اليها، عيونهم على حياة
الرفاهية ويحاولون عيشها بالاستعانة. لكن الفيلم يتخطاها من أجل تفكيك شامل
للمجتمع الكوري المعاصر. في يد مخرج آخر، كان الفيلم لينزلق سريعاً نحو
رواية أخرى عن الصراع الطبقي (صوَّره في فيلمين سابقين له)، الا ان لدى
بونغ جون هوعاداته في الارتقاء بالمضمون، خصوصاً في النحو الذي يعالج فيه
نبرة الفيلم، والتطورات المتلاحقة التي قد تتيح للمُشاعد العبور السريع
جداً من حالة نفسية إلى اخرى. خلط الجانرات السينمائية في "بارازيت"
يُدرَّس: قفزات بارعة جداً من الدراما الأسرية إلى الهجاء السياسي
فالثريللر والكوميديا السوداء ففيلم الكارثة. هذا كله يوفّره سيناريو محبوك
بشكل شديد الابتكار يفتح أمام الفيلم أفقاً واسعاً. الا ان المعالجة
السينمائية تبقى دائماً في خدمة المضمون ولا تتحوّل في أي لحظة من اللحظات
عبئاً واستعراضاً، بل تساند أيضاً خطاب المخرج عن الهرمية الاجتماعية. مع
ذلك، ليست هذه حدود المخرج، اذ ان هناك دائماً جداراً يحاول هدمه واسقاطه،
لنجد أنفسنا في فضاء جديد. نظرة التعاطف الملقاة على الناس ليست شرطاً من
شروط سينما بونغ جون هو، وإن لم يكن الفيلم ضدهم بالمطلق. يوثّق الفيلم
الطفيلية بشيء من الخضوع للأمر الواقع ويالكثير من الغضب المنضبط. يطلق
صفارة الانذار. يعلم جيداً ان الوقت لم يحن بعد للخوف والهروب، لكنه يحذّر
ناسه من ان المجرور إن طاف فسيغرق الجميع في الخراء، أولهم الفقراء.
"ليتيغانته"
لفرنكو لولّي
من أرق أفلام ٢٠١٩ وأنعمها. عندما أستخدم "من"، لا يوجد سبب
سوى أنني لم أشاهد كلّ أفلام ٢٠١٩، وأفترض ان هناك ربما فيلماً ما يتساوى
معه على مستوى الرقة. الا انه، أيضاً من باب التوضيح، يجب علي التأكيد اني
لم أصادف أكثر من هذا العمل رقةً طوال الأشهر الـ١٢ الماضية. السينما
الآتية من أميركا اللاتينية تتميز مرة أخرى، في هذا العمل الثاني لمخرجه
الكولومبي فرنكو لولّي (درس في فرنسا) عن سيدة تحتضر وكلها أمل ان ترحل بلا
الكثير من العذابات. هي لم تعد تأبه اذا عاشت أو ماتت، كلّ ما تودّه هو ألا
تقع في فخ عذابات جسدها المسرطَن. ابنتها سيلفيا تقوم بالواجب الأخلاقي
تجاه أمّها، رغم ما يترتب على هذا الاهتمام المتواصل من ضغط نفسي كبير
جداً، وخصوصاً ان طباع الأم سيئ وهي شديدة العصبية. الفيلم يدخلنا في
متاهات العائلة المؤلفة من نساء على وجه الخصوص. نشهد على حكاياتها
الصغيرة، الشاردة والواردة، نتعلق ثم فجأةً، لحظة الحسم! هناك شيء صادم في
الكيفية التي يلد فيها هذا التعلّق عند لولّي. ففي اللحظة التي تنهال فيها
دنيا الفيلم على رؤوسنا، نكتشف كم كنّا أمام عمل كبير، تشكّل ثم راح يتشكّل
فيتشكّل (بلا فيض مشاعر وبلا ابتزاز عاطفي)، فنبدأ باسترجاع الشريط، لنعي
ما الذي حصل، ما الذي شاهدناه لتوّنا، كيف دخلنا في عمق الفيلم بزمن قياسي،
ومن أين انبثق هذا الحنان كله في عالم تغلب عليه القسوة. قسوة لا توفّر حتى
الأم، فما بالك بالعالم الذي يعيش خارج جدران المنزل البورجوازي للعائلة.
بعد تفكير، نجدها: سرّ الفيلم في سيلفيا، لا في الأمّ. نلمس الألم الصامت
وتراكم الخيبات وقد تحوّلت قوة وعزما واصراراعلى وجهها، وعلى وجوه غيرها من
الأحياء. الأم حكاية من الماضي، الباقون على هذه الأرض هم المستقبل.
"الخائن"
لماركو بيللوكيو
يعود بيللوكيو إلى بيللوكيو، إلى ذروة فنّه، بعد أفلام
متواضعة عدة، مقترحاً عملاً شديد الاتقان على مستوى السيناريو والتمثيل
والاخراج والاستيتيك. عودة إلى ثمانينات القرن الماضي، الفترة التي شهدت
حرباً ضروساً بين فصائل المافيا الصقلية المختلفة (الكورليونيون ضد
الباليرميين). صراع دموي لُقِّب وقتها بـ"حرب المافيا الثانية" وخلّف مئات
القتلى. تنطلق القصّة من قرار توماسو بوسيتّا، العضو السابق في الـ"كوزا
نوسترا". يخل بوسيتّا بـ"عرف الصمت" المعروف بالـ"أوميرتا" في أدبيات
المافيا، كاشفاً الأساليب الاجرامية التي تنتهجها لتحقيق الأهداف. الفيلم
يدور بشكل أساسي على هذا المثلّث: الجريمة، العدالة، التوبة. بالرغم من طول
مَشاهد المحاكمة البارعة في تناولها للشهادات وتشريحها، فلا ملل يتسرب إلى
نصّ بيللوكيو ذي الإيقاع السريع والأحداث المتلاحقة، مبتعداً قدر المستطاع
عن كلّ ما يصنع مجد هذه الأفلام عادةً، فينبذ كلّ شيء من شأنه أن يجعل
شخصياته رومنطيقية، مغرية، وتثير تعاطف المُشاهد. تماماً مثل نبذه للحدث
بمعناه البدائي، اذ انه أكثر اهتماماً بردّ الفعل الذي يولّده في نفوس
الآخرين، وصولاً إلى كيفية تحولهم إلى وحوش. من الكنيسة إلى الفاشية عبوراً
بالمافيا، يمكن القول ان هناك ما شغل بيللوكيو طوال حياته وألهمه لإنجاز ما
أنجزه. الضمير والفنّ اللذان يجتمعان في شخص واحد!
"مكتوب،
حبّي: أنترمزّو" لعبد اللطيف كشيش
قد يعتبر بعضهم ضمّ هذا الفيلم إلى لائحتي السنوية
استفزازاً صارخاً، وهو ليس كذلك بالطبع، بل خيار منبثق من إيمان بأننا أمام
فتح سينمائي، ليس "انترمزّو" سوى جزئه الثاني، يأتي كاستراحة بين لحظتين
(الجزء الأول والثالث). على الصعيد الشخصي، قد لا ينوجد فيلم سأنتظره في
السنوات المقبلة أكثر من الجزء الثالث لهذا العمل - الذي أعتبره المقابل
السينمائي لـ"البحث عن الزمن المفقود" لبروست -، كي يغلق كشيش الدائرة. مع
ذلك، ينبغي الاعتراف بأن عرضه في مهرجان كانّ الأخير بالنحو الذي عُرض فيه،
وبالردود التي كانت له والتي تفضح تقصيراً وكسلاً كبيرين عند بعض الصحافيين
والنقّاد، كان خطأ جسيماً. يواصل كشيش هنا مشروعه الراديكالي (الذي يزداد
راديكاليةً)، في اقتناص لحظات من زمن ضاع، زمن لا نملك كلّ صوره وكلّ
أحاسيسه في المخيلة الجمعية. الزمن المقصود هنا، هو منتصف التسعينات. زمن
اللامبالاة والخفّة. يعود الفيلم بنا إلى مدينة سيت الساحلية الباهرة، حيث
تلك الشلّة من الفتيان والبنات الرائعي الجمال، الذين تعرفنا إليهم في
"مكتوب". كشيش يلتقط هذه العفوية في سلوكهم اليومي، المجال الذي لا يوجد له
منافس. يتابع النحت في أجسادهم، وخصوصاً أجساد البنات. طوال ثلاث ساعات، لن
يكف الفيلم عن التجوّل في بضعة أمتار مربعة داخل ملهى ليلي. يشق طريقه بين
أحاديث الشخصيات الجانبية وأجسادهم المتمايلة على إيقاع الموسيقى الصاخبة
وتحت الفلاشات الملونة. يصوّرهم، يلحّ عليهم ذهاباً وإياباً، حتى الهلاك،
حتى الأنفاس الأخيرة أو ما قبلها بقليل، عائداً، في كمية لا تُحصى من
المرات، إلى المواقع التي شكّلت نقطة انطلاقة كلّ حركة كاميرا. هذا التكرار
بصفته إصراراً، تعنّتاً، تراكماً، أشبه بضربات متتالية على وتر واحد، يهدف
منها كشيش إلى خلق صدى في نفوسنا كأننا في حالة مغناطيسية. هذا فيلم عن
الرغبة. رغبة تجد التجسيد الغرائزي الأبهى لها في الليل وحفيف الأجساد
المعرقة بعضها على بعض وفي جنس فموي صريح داخل الحمّام. تتأخر كاميرا مدير
التصوير ماركو غرازيابلينا على أجساد الشخصيات النسائية صعوداً وهبوطاً،
مراراً وتكراراً، لمئات المرات، وخصوصاً لإلتقاط أرداف الفتيات الجميلة
وأشكالهن المكوّرة. كشيش سينمائي الجسد والرغبة والزمن. وخصوصاً، سينمائي
الزمن وكيفية استعادته وتجميده. وما محاولة إطالته للزمن سوى رغبة في
البقاء فيه أطول فترة ممكنة. كأنه يمسك بالليل ولا يريده أن يمضي.
"حكاية
الشقيقات الثلاث" لأمين ألبر
هذا ليس فيلماً تدخله وتنتهي "حكايتك" معه عند الخروج من
الصالة! انه انزال حقيقي في عمق العلاقات الآدمية والحكايات التي تتسم
بالقسوة والضغينة والاحباط والمرض والموت. انه ترجمة بصرية لمقولة سارتر
"الجحيم هي الآخرون". هذه الدراما التشيكوفية من النوع الذي يعرف الأتراك
كيف يروونه ويحرصون على "تتريكه". من يلماز غونيه إلى نوري بيلغي جيلان،
تجدهم يمسحون وجه بلادهم. من منطقة الأناضول وجبالها الكلوستروفوبية والطرق
المتعرجة التي تفضي إلى سهول وغابات، يأخذ الفيلم مسرحاً له. ثلاث شقيقات
تتراوح أعمارهن بين الـ ١٣ والـ٢٠، هنّ محور الحكاية التي تعطي الفيلم
عنوانه. هناك ريحان ونورهان وهافا. ثلاثتهن يعشن مع والدهن، وهو رجل متسلط
ولكن غير شرير. في فيلم ألبر السابق، "بعد التل"، كان الأعداء يأتون من خلف
التل. هنا العدو في داخل كلّ واحد، وفي داخل الآخرين كذلك. أما الخوف
فمصدره أقرب الناس. ألبر ينجز فيلماً أكثر راديكالية من كلّ ما سبق،
محافظاً على ما يشكّل جمال سينماه: الاستعارة.
"إن
شئتَ كما في السماء" لإيليا سليمان
في هذا الفيلم يبحث سليمان عن وطن سينمائي يحضنه. يترك
مسقطه الناصرة ذات يوم، ليحط في باريس. انها عين الغريب الحكيم (يعيش فيها
منذ سنوات عدة). لا يختلف تصويره لها عن تصويره لأزقة مدينته المحتلة. مع
الفرق انها الجنّة في المنظور الفلسطيني العربي الهارب من الجحيم. فلا نعرف
في أي لحظة ومن أي مكان سينبعث الخطر. يبلغ سليمان هنا ذروة فنّ التكثيف
والاختزال. منذ الافتتاحية الساخرة حتى الخاتمة الميلانكولية في مرقص ليلي
على أنغام "عربيٌ أنا"، كلّ مشهد يقول شيئاً ما، وأحياناً لا يحتاج إلى
أكثر من دقيقة لقوله. ببضع لوحات، يسدد حسابه مع الناصرة: شيخ يروي حكايات
سوريالية، شرطيان إسرائيليان يطاردان سكّيراً، شباب يركضون في الشارع
حاملين العصي في أياديهم. لا ينطوي الفيلم على رسالة أو قضية سياسية
بالمعنى المستهلك، تكفيه قضية الفرد، ضياعه، تسكّعه، هذا الذي يجبر على حمل
الذكرى المرتبطة بالوطن أينما حل، وهويته الممزّقة، ونظرة الآخرين اليه. لا
قضية أكبر من هذه. وسليمان يعلم شيئاً عنها.
"روكتمان"
لدكستر فلاتشر
فيلم باروكي غنائي مشبع بالألوان والأشكال المثيرة، لم يأخذ
حقّه كما يجب. فيلم يستوفي كلّ شروط السينما الجماهيرية الكبيرة. سرد
متدفّق ومقاربة تصنع كمية هائلة من الغبطة. "روكتمان" من هذه الأعمال التي
تغازل الجمهور ولكن من دون ابتزاز عواطف. الفيلم سيرة مغنّي الروك
البريطاني ألتون جون، منذ طفولته المعذّبة إلى ذورة المجد التي بلغها في
سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، وصولاً إلى صيرورته احدى أيقونات الغناء،
بعد بيعه ما يفوق الـ٣٠٠ مليون ألبوم. على رغم هذا، كان يعاني من نقص عاطفي
كبير. يحاول الفيلم تعرية الواقع خلف "الجنس والمخدرات والروك"، ليقول ما
نعرفه ربما: اذا كانت الموهبة والشهرة لا تنقذان الإنسان، فإنهما تخفّفان
عنه وتختصران الطريق إلى ملاقاة الذات بعد صراع طويل معها. نقطة مهمّة يجب
التنويه بها: الفيلم لا يقتبس، لا يجسّد، ولا يحاول ان ينسخ شخصية ألتون
جون، بل يقدّم تأويلاً لها. لعل خيار اسناد مهمة الغناء إلى تارون اغرتون،
بدلاً من جعله يدبلج أغاني جون، خيارٌ صائب. هذا يحرر الفيلم ولا يقيّده.
نادراً ما حمل عملٌ ميوزيكالي هذا القدر من المواضيع الاشكالية في داخله،
مواضيع تبدأ بأزمة الهوية ولا تنتهي بالمصالحة مع الذات بعيداً من المصير
الذي يقرره المجتمع سلفاً.
"حريّة"
لألبرت سيرّا
عمل يمتلك كلّ مقوّمات صناعة الدهشة عند مَن يعرف تذوّق
سينما تخرج عن الدروب المطروقة. مرةً أخرى، نتّجه زمنياً مع ألبرت سيرا إلى
القرن الثامن عشر الأحب إلى قلبه. حفنة من الأريستوقراطيين المطرودين من
جنّة الملك لويس السادس عشر حيث تسود الفضيلة، يسلّمون ذواتهم إلى الملذّات
الجنسية والاشباع الجسدي. بدعم دوق ألماني متحرر، يحاول هؤلاء نقل تجربة
الـ"ليبرتيناج" إلى ألمانيا، الفلسفة الفرنسية القائمة على تحدي السلطة
والأخلاقيات المتعارف عليها. بمشهديته العريضة وحسّيته المفرطة، "حريّة"
ردٌّ، وإن غير مقصود، على الزمن الطهراني الذي انزلقنا اليه. اكتشافه
ضرورة، مشاهدته تضمن بالتأكيد رحلة إلى أقاصي الليل حيث كلّ الأجساد تصبح
قابلة للاستبدال. "ما عاد هناك علاقة عرض وطلب، أو علاقة رأسمالية بين
الأجساد، كلّ الرغبات تساوت"، كما قال سيرّا في مقابلة أجرتها معه "النهار".
"مرادفات"
لناداف لابيد
فيلم صاحب كاراكتير (طباع) غاية في القوة، لا يخجل ممّا هو
عليه، وكأنه يلتزم مقولة جان كوكتو: "طوِّرْ ما تُلام عليه، فهذا أنت". ثم
هناك الموهبة، موهبة المخرج، ويبدو ان لابيد يملك يمّاً وفيراً منها. فيلمه
أشبه برقصة، مُقطَّع إيقاعياً لينتقل من النقطة أ إلى نقطة ب من دون خطوة
ناقصة. استلهم لابيد حياته الشخصية: من خدمته العسكرية في جيش العدو
الإسرائيلي التي تعود في سلسلة لقطات على شكل فلاشباك، إلى بعض الأوساط في
باريس التي وصل إلى مطارها شارل ديغول قبل عشرين عاماً، وهو لا يملك أي شيء
ولا يعرف أحداً. أراد التنصّل من إسرائيل، ومن كلّ ما بات حملاً ثقيلاً، من
هويّة وطنية وقومية والتزامات "اخلاقية" تجاهها. أدار ظهره إلى ماضيه، شطب
جزءاً من تاريخه، في محاولة للانطلاق "من الصفر". رفض التحدّث بالعبرية
مجدداً، محاولاً إيجاد مرادفات بالفرنسية لكلماته العبرية. نحن ازاء فيلم
الانتقال الكبير من شخص إلى آخر. صناعة إنسان "جديد" من حطام إنسان "قديم".
ولكن في الحين نفسه، نحن إزاء فيلم لا يخفي علاقة الحبّ - الكراهية التي
تبلورت لدى جيل من الإسرائيليين تجاه هوية مركّبة تورطوا فيها، ذلك انها
بدت كفخّ استُدرجوا إليه. لابيد لا يعادي إسرائيل، انه يحاسبها فحسب، لا بل
يقاصصها لأنه وُلد فيها، من خلال صيغة سينمائية شديدة الذكاء والوعي، كونها
تنطلق من الذات وتعود إليها كلعبة بومرانغ، على نحو نرجسي، وكأنه مركز
الكون، أو كأن كلّ شيء يدور من حوله.
"إني
أتّهم" لرومان بولانسكي
فيلمٌ، كلّ مشهد فيه مرسوم بعناية تبلغ حدّ الهوس أحياناً.
تُعرَف أفلام السينمائيين الكبار من أشياء عدة، منها تشكيل الكادرات،
الايقاع، براعة السرد، البناء الدرامي، إدارة الممثّلين. هذا كله وأكثر
متأصل عند بولانسكي كـ"طبيعة ثانية". الفيلم يتناول قضية الضابط الفرنسي
اليهودي ألفرد درايفوس الذي يُتَّهم زوراً في العام ١٨٩٤ بالتجسس لمصلحة
الألمان وبيع أسرار عسكرية لهم فيُحاكَم بالخيانة العظمى. يتعامل بولانسكي
مع الموضوع ببرودة وجفاف ومسافة وطول أناة لطالما ميّزته عن كُثُرٍ من
أبناء جيله. نحن حيال فيلم معادٍ للعسكر، بكلّ تفاصيله المقروءة والخفية.
لا يبخل النصّ في هذا الصدد البتة: العفن الذي يتأكل أروقة المؤسسة
العسكرية ومكاتبها وكذلك عقول الجالسين على أقفيتهم فيها. درايفوس لا نكاد
نراه، فهو شخصية ثانوية جداً، يكاد يكون غير مهم، لأن بولانسكي يتحدّث عن
قضيّة انصاف وضمير وقائل حقيقة، مفضّلاً اعادة الاعتبار إلى البطولة لا إلى
التضحية والمهانة. "إني أتّهم" يُعدّ درساً في معانقة التاريخ من دون
الوقوع في فخاخها.
"جواهر
غير مصقولة" لجوشوا وبن سفدي
لو أُنجِز هذا الفيلم قبل ثلاثة عقود، لأُسنِدت بطولته إلى
آل باتشينو. فالدور الذي يضطلع به آدم ساندلر، شبيه باتشينو قلباً وقالباً،
خصوصاً اذا انصتنا إلى صوته وحركة جسمه المتواصلة، فالديناميكية والنظرة.
مدهش ساندلر في دور هاورد، جوهرجي يهودي من مانهاتن، هاوي قمار. لا تكاد
توجد لقطة واحدة من دون حضوره فيها. الفيلم يتشكّل من حوله في دوّامة من
العنف اللفظي والسلوكي والجسماني، ولا يتوقّف الا بعد مرور ساعتين وربع
ساعة تجعلنا نتسمّر إلى الشاشة، على الرغم من ان لا جديد على مستوى الخطاب.
ما يحدث خلال هذا الوقت كله ينتمي إلى فضاء يبرع فيه الأخوان منذ فيلمهما
السابق "غود تايم". انه عالم المجوهرات من منظور مخرجين يجيدان، كما لا أحد
في السينما الأميركية الحالية، اشاعة جو من القلق والحفاظ عليه طوال الوقت.
القلق هذا هو أبلغ تعبير عن الأزمة الوجودية التي يعيشها هاورد في مواجهة
غرائزه المدمّرة، التي لا يعرف عنها شيئاً لأننا في فيلم "فنتيج" نوعاً ما،
لا يكترث لعلم النفس، يبدأ في أثيوبيا كسينما السبعينات، لنواكب انتقال
حجارة كريمة من هناك إلى متجر هاورد. الكاميرا تتعقّب هذا الرجل الذي يبرع
في اغراق نفسه بالمتاعب، لا بل يمتلك موهبة صناعتها. نكتشف شلّة من
الشخصيات التي يقابلها في معرض شغله ومغامراته. ننزل في جحيم نيويورك، أما
الصعود فلن يكون سهلاً سواء لهارد أو للمشاهدين.
"جوكر"
لتود فيليبس
يحمل واكين فينيكس الفيلم على ظهره، ليس لأنه صاحب موهبة
بالفطرة وغريزة يعرف كيف يوظّفها فحسب، بل لأنه يستعين بالدهاء والوعي في
تشكيل الشخصية. لوهلة، تبدو شخصيته امتداداً لما جسّده في "لم تكن هنا
فعلاً" للين رامسي: ماضٍ صعب، عنف، تروما، خذلان، كلّ ما يصنع الأميركي
المضطرب الذي ينتهي اسمه في شريط اخباري. الا ان فينيكس سرعان ما يتجاوز
نفسه، ليبلغ ذروة أخرى، مجالاً ثانياً، بُعداً أعمق. جنونه يجعل سوداوية
الفيلم شيئاً قابلاً للتحمّل. آرثر/ جوكر يعمل مهرّجاً، ولكن له طموحات
أبعد من هذا بكثير. إنه شاب يعيش مع أمه المريضة ويعاني من اضطرابات نفسية
تجعله يطلق ضحكة مجلجلة من دون قدرة على إيقافها. هو نوع من نورمان بايتس
المدن الكبرى. يحلم بتقديم استعراضات ضاحكة، يحلو له إلهاء الناس، ولكن
غالباً هو الذي يغدو ملهاة. قوة "الجوكر" كامنة في المساحة المعطاة للشخصية
كي تعبّر عن نفسها بحريّة، تخلص بخلق أرض مشتركة بينها وبين المشاهد. فدرجة
التماهي عالية جداً، وإن قرر الجوكر أن يسلك طريقاً أخرى لا نتعقّبه فيها.
القوة الثانية لـ"الجوكر" هي الكيفية التي يتحوّل فيها إلى استعارة سياسية
متطرفة ضد السلطات على أشكالها، ومرافعة ضد صنّاع الرأي العام. العنف،
الظلم، غياب العدالة الاجتماعية، هذا كله في الفيلم. انه عالمنا اليوم بكلّ
تجلياته (رغم أن الأحداث تجري في الثمانينات) حيث العنف يجرّ العنف. عمل
جدير، يرضي المتعطشين إلى فيلم يحمل نفساً خاصاً من مزيج أنفاس. استعار
فيليبس الكثير من هنا وهناك، ولكن خلافاً لغيره، صاغ التأثيرات في قوالب
فنية جميلة. فيلمه لا علاقة له بغوطية تيم برتن ولا بمشهدية نولان، بل بعمق
الواقعية. بلا أي تنقيح.
"مجد
الدنيا" لروبير غيديغيان
أحد أكثر الأفلام عذوبةً. غيديغيان يعود مرة أخرى إلى شؤونه
الصغيرة في مرسيلياه الأشبه بخشبة مسرح: الكفاح البسيط والحقيقي والصادق
لشخصيات تنبثق من الواقع الاجتماعي في فرنسا، وتحديداً جنوبها الذي لطالما
كان رسّامه، كما كان على الدوام صوت مَن لا صوت لهم. انها حكاية تكاتف
أسري، لكنها أيضاً حكاية تفتت في الأزمنة الاقتصادية الصعبة والهشّة.
الصراعات عند غيديغيان مصدرها الحالة الاقتصادية والصمود الصعب في وجه
التحديات المعيشية، التي تنعكس سلباً على الروابط الأسرية والعلاقات
الاجتماعية. هذه الأحوال هي التي قد تستخرج المسخ الذي في داخل كلّ منّا.
يؤمن غيديغيان بالناس العاديين، المهمّشين، الذين لا يملكون شيئاً،
وبنضالهم اليومي. تصويره لهم شديد الإنسانية. باختصار، يحافظ على كرامتهم
المسلوبة، أو حتى يعيدها اليهم.
"الإيرلندي"
لمارتن سكورسيزي
لا يستقيم الفيلم من دون هذا الزمن الذي يتحدّث عنه
سكورسيزي. فالإبحار به فوق أمواج نصف قرن من الزمن، أي منذ الخمسينات حتى
مطلع القرن الحالي، يترك بصمات واضحة وأثراً غامضاً في حياة الشخصيات التي
نكتشفها تباعاً. كلّ شيء في "الإيرلندي" يدور على روبرت دنيرو. دنيرو يجسّد
شخصية فرانك شيران. انه رجل اليد، القاتل المحترف، منفّذ الأوامر، الذي
يتوجّه إلى الهدف برباطة جأش. انه الإيرلندي الذي يبدأ سائقاً للتاكسي ثم
تستدرجه المافيا الإيطالية التي يترأسها راسل بوفالينو (جو بيشي). من
المستحيل عرض أحداث الفيلم المتداخلة والمتشعبة جداً، المليئة بالتفاصيل.
أسلوبياً، يؤكد سكورسيزي انه لا يزال سيد إيقاع واستاذ سرد وهو في السابعة
والسبعين. نجده يلعّب المَشاهد كعازف بيانو يضرب على المفاتيح بأصابعه.
تيماتيكياً، نحن في أرض نألفها جيداً. كلّ ما صنع سينما سكورسيزي عبر
التاريخ يسجّل عودة مريحة إلى المقدّمة: الجريمة والاحساس بالذنب، العائلة،
السلطة، الاخلاص، المغفرة، التوبة، الصداقة، الفساد، البخار المتصاعد إلى
الرؤوس. في نهاية الفيلم، يترك سكورسيزي الباب مفتوحاً كنافذة مطلة على
عالم جديد "يتسرب" من دون أن تكون لأبطال العالم القديم القدرة على
الانخراط فيه.
"الطير
المدهون" لفاتسلاف مارهول
عمل مختلف وصادم يحاول النبش في لحظة صعبة من تاريخ أوروبا،
بعد نحو سبعين سنة من سكوت المدافع فيها، ليحملنا (حرفياً) إلى جحيم
الاقتتال طوال ما يقارب الساعات الثلاث. يضخ الفيلم عنفاً بدرجات متفاوتة
تتراوح بين الضغط النفسي الهائل الممارَس على فتى مراهق ومَشاهد أخرى تجسّد
الوقائع بلا رتوش. سنرافق صبياً يهودياً لنشهد على تجربة تعذيب غير مسبوقة.
الفيلم ليس سوى تسلسل من مشاهد سادية موضوعها هذا الصبي الذي ليس له اسم،
ولا يُدعى الا "الصبي"، فهو بهذا المعنى خلاصة كلّ الفتيان الذين اختبروا
العذابات في أوروبا خلال حروبها. الفيلم يقارب الحرب والغرائز البشرية
والصراع من أجل البقاء من وجهة نظر بدائية. يتجنّب التعليق السياسي على
الحدث التاريخي ليقول أشياء عن الطبيعة البشرية في زمن الصراع للبقاء. كلّ
شيء متوحش في "الطير المدهون"، وهذه الوحشية هي التي تصنع بعضاً من روعته.
حتى ما يعتقده الصبي حبّاً، لا يتأخر في كشف وجهه الحقيقي، ليتبين انه
استغلال. بعد مشاهدة الفيلم في مهرجان البندقية الأخير، لم أتردد في طرح
سؤال ينبع من قلق. ترى، أي مصير ينتظر صبياً يغدو ضحية كلّ هذه التروما
التي عاشها؟ الجواب، يُقرأ بشيء من التلاشي، بين أسطر عالمنا الحالي.
"الطير المدهون" هو بالكاد فيلم عن الحرب. ينطلق مارهول من حجّة الحرب،
لكنه يشيح النظر عنها بسرعة لتوثيق الصراع بين النور والظلمة.
"ستموت
في العشرين" لأمجد أبو العلاء
انشودة سينمائية تؤكد ولادة مخرج يافع بأفكاره وأطروحته
ورؤيته لبلده. مخرجٌ له تصوراته الجمالية عن السودان. يحمل فيلمه براءة
الفيلم الأول وصفاءه وشقاوته (وبعض ارتباكاته؟) وإيمانه بأن السينما تستطيع
الكثير. خلال مراسم حفل مولده، يتنبأ شيخ صوفي بأن الطفل لن يعيش سوى عشرين
عاماً. الكلّ مقتنع بهذه النبوءة حدّ إطلاق اسم "ابن الموت" عليه. مزّمل
نفسه يمضي أيامه منتظراً تلك الآخرة. لا يفعل شيئاً يُذكر، عدا إدخال
الفيلم في متاهة الانتظار المرّ. مزّمل ليس بالضرورة شخصية كاريزماتية، ولا
شاباً نشعر تجاهه بالشفقة. يتفادى الفيلم هذا الفخّ. انه كائن حيّ محكوم
بالأمل. الموت يشغله أكثر من الحياة وهو في مقتبل العمر. أيفعل هذا خوفاً
أو إيماناً، هذا ما لن نعرفه. الفيلم يلغي مشاعرنا تجاهه، سواء السلبية أو
الإيجابية، ليترك لنا مساحة من الحرية. لنا أن نختار نوع التفاعل الذي
نودّه. الانتظار جزء مهم من الفيلم، كونه جزءاً من الحياة العربية
الإسلامية. ويأخذ معنى آخر عندما ينصهر في الإيقاع الافريقي، الأشبه بنهر
يبحث عن مصب، فيتّجه الفيلم إلى مشهدية ميثولوجية، كإبحار القوارب على
النيل. أبو العلاء أنجز فيلماً متصالحاً مع أفكاره، لا مرجعية سينمائية له
رغم ان العديد من المَشاهد تذكّر بهذا أو ذاك (أنغلوبولوس، تورناتوري،
شاهين، فوزي) من دون أي إحساس بـ"ديجا فو"، أصيل في رغبته في صناعة سينما،
بل أصيل وساحر كذلك في مقاربته لهذا الوجود الذي يتسرب من بين الأصابع.
"قصّة
زواج" لنوا بومباك
كتب ميلان كونديرا: الزواج السعيد هو أكبر تعاسة للرجل، اذ
يفقد أي أمل في الطلاق. ربما لم يسمع نوا بومباك بهذه المقولة في حياته
ولكن فيلمه يقول عكسها. فالمسرحي الشاب الذي يجد نفسه داخل اجراءت الطلاق
المهينة من زوجته الممثّلة، كان تمنّى لو أخذت علاقتهما منعطفا آخر، لكن
التفاصيل اليومية وموازين القوى والرغبات المتناقضة بينهما فرضت منطقها
الخاص وحالت دون تحقيق السعادة والوفاق. شيء ما تكسّر لا يمكن اصلاحه، لا
يمكن العودة إلى الخلف كما يفعل الفيلم لاقتحام مساحة زمنية سابقة في حياة
الثنائي. الا ان الحبّ، ذكراه الجميلة أقله، لا يزالان معششين هنا، في كلّ
زاوية، في متناول العين، في دمعة تتدحرج على خد سكارلت يوهانسون، وفي غصّة
آدم درايفر. كلّ هذه الأشياء التي يحاول الفيلم مساءلة مدى قدرتها على
انقاذ العلاقة. يوثّق "قصّة زواج" بلغة سينمائية وكادرات باهرة واخراج صارم
يسعى إلى الكمال، لحظة انفصال، لحظة خروج الحميمي إلى الحيز العام، مشيراً
إلى الأشياء التي تبقى عالقة إلى الأبد، بعد حصول الانفصال. الفيلم لا
يوفّر المنظومة القضائية التي تجهز على ما تبقّى من حبّ وود. منظومة تعزز
العداوة وتتيح المجال لمزيد من العنف بين الشريكين، بحيث ان الهدف (المال)
والحصول على الحضانة يبرران كلّ الوسائل المستخدمة من جانب المحامين. لا
يقع الفيلم في الميلودراما ولا يراهن على فيض المشاعر، بالرغم من قساوة
المضمون. الحكاية بسيطة، يصوغها بومباك بنبرات تقفز من القسوة إلى الرقّة
ثم تعود إلى حضنها. رغم البساطة، الاشتغال الجمالي يحمل قدراً من الابتكار،
سواء على مستوى الصورة أو الخيار السردي. مع ان الايقاع هادئ، تعبر الفيلم
لحظات توتّر عدة، ذروتها البوح الذي من شأنه تنفيس الاقتحان واقامة هدنة
بين الزوجين، قبل ان يسلك كلّ منهما طريقه. بومباك، على غرار رونوار، يعلم
جيداً ان "ما هو رهيب في هذا العالم هو ان للجميع أسبابه"، المقولة التي هي
من صميم "قصّة زواج".
"ميدسومار"
لآري أستر
فهم آري أستر شيئاً مهمّاً قبل انجاز هذا الفيلم: الرعب
أقوى أحياناً في النهار وتحت أشعّة الشمس. مشهد كاري غرانت وهو ينتظر
الحافلة نهاراً في "شمالاً إلى الشمال الغربي" لألفرد هيتشكوك، هو درس
سينمائي في هذا المجال. ثم هناك البلاتو الطبيعي الذي لا حدود له، يحيطه
الخطر من كلّ مكان. هذا أيضاً يشتغلعليه أستر. اذاً، ينطلق من أرض قويّة
جداً، ليقدّم نصّاً مطعّماً بالباروكية والأنتروبولوجيا يختلف في تفاصيله
عن كلّ ما نراه عادةً في أفلام الرعب، وينطوي على عدد من المَشاهد التي
تثير الاضطراب في النفوس، وصولاً إلى ادخالنا في تجربة هلوسة. الحكاية:
داني وكريستيان أميركيان على وشك الانفصال عندما تراجيديا عائلية تضرب
داني. لا تمر فترة طويلة قبل ان يقرر هذا الثنائي التوجّه إلى مهرجان يُقام
في أسوج مرة كلّ ٩٠ عاماً، على أرض لا تغيب شمسها. لكن بدايات المهرجان
التي تجري في جو من الغبطة والسعادة لن تكون كالنهايات. هناك خلف مظاهر
البهجة، أفكار وممارسات روحانية مريبة تعتنقها طائفة تبرع في التلاعب
النفسي. الفيلم يفيض بالغرابة. يمكن ادراجه في مكان ما بين كوبريك ولارس
فون ترير. المكان عنصر أساسي. حداد داني سيتواصل ويزهر في تمظهرات جديدة.
انها الضحيّة المثالية لعبورها في مثل هذه الفترة من حياتها. يحلو لأستر ان
يقحم شخصياته في هذا الفردوس حيث الرعب في كلّ زواية، وفي الحين نفسه غائب
تماماً. مع هذا الفيلم، يفرض أستر نفسه منذ الآن سيد كادر وتكوين. لا يوجد
أدنى شكّ بأن أعماله المقبلة ستسيّل الكثير من الحبر.
“١٩١٧”
لسام مندس
لم أشاهد فيلماً حربياً حبكته بهذه الخطيّة المباشرة. كلّ
ما على جنديين فعله هو تنفيذ مهمّة سهلة، وبأسرع وقت. الا أننا على الجبهة
(الغربية)، في جحيم الحرب العالمية الأولى، وما أدراك ما الحرب العالمية
الأولى عندما تكون جندياً. لا شيء سوى موت، وتعقب الموت لك، ومحاولات
متعددة للتغلّب على الموت. سام مندس يصرّ على أفلمة تلك التفاصيل التي تجعل
من الجندي جندياً متروكاً لمصيره وسرعة تكيفه مع الخطر والخوف واليأس، خلال
الحرب، لا بل كلّ الحروب التي يحاول الفيلم اختزال شرورها وقسوتها
ووحشيتها. “١٩١٧” يعطي الاحساس بأنه صُوِّر لقطة واحدة، ولكن هذه من المرات
التي نجد فيها التقنية الحديثة وقد انصهرت بالكامل مع النصّ. لقطة بعد
لقطة، تتخلص التقنية من "تفوقها" وبراعتها، لتغدو انفعالاً، شفافية، علاقة
بالزمان والمكان، إلى درجة ننساها كلياً ولا يعود هناك غير الشخصيتين
ومهمّتهما. مندس يلغي كلّ شيء تقريباً، ليبقي العلاقة المرهقة التي يحاول
بناءها بين المُشاهد والجنديين اللذين سنراهما في أشكال مختلفة من الصراع،
للبقاء على قيد الحياة. يستمد الفيلم من الأرض والعناصر الطبيعية، خصائصه
السينمائية. تراب، خضرة، مياه، نار، عتمة، غبار. يعيد الجندي إلى ظرفه
الأول، الذي لم تعره الكثير من الأفلام الحربية أي اهتمام، أي احتكاكه بهذا
كله، أكثر من مواجهته أي عدو. الفيلم يكبت الأحاسيس أطول فترة ممكنة، فقط
لسبب واحد: كي تتجمّع وتتفجّر عظمةً بصريةً ودوياً أبوكاليبتياً وتصعيداً
مسرحياً في لحظتين باهرتين. عندما تذوب الشاشة إلى السواد ويصعد الجنريك،
يكون الهدوء قد عاد إلى الجبهة، والعابر قد عبر أرض المعركة من طرف إلى
طرف. حينها، وحينها فقط، نعي ان ما شاهدناه ليس سوى ساعتين في حياة عسكري.
"ريتشارد
جيويل” لكلينت إيستوود
خذ رجلاً مثل أي رجل آخر، كلّ شيء فيه عادي جداً، اعطه
دوراً حاسماً، صوّر عملية تسويقه بطلاً في الاعلام، ثم كيفية انتزاع
البطولة منه فسقوطه المدوي، تحصل على هذا الفيلم الكبير. ولكن، ثمّة شرط
أساسي: عليك ان تكون كلينت إيستوود، أي انك تعرف أميركا كما تعرف أصابعك
العشر. مجدداً، يسأل المخرج التسعيني الأسئلة نفسها التي شغله في السنوات
الأخيرة عن معنى البطولة ومفهومها، في المجتمع الأميركي وفي الوجدان
الأميركي وفي العقلية الأميركية، مصوّراً حادثة تفجير وقعت في العام ١٩٩٦
في ملعب سنتنيال الأولمبي في أتلانتا، ولاية جورجيا. اقتصر الضحايا يومذاك
على قتيلين ونحو من مئة جريح. مصير الموجودين هناك لحضور الحفل الموسيقي في
تلك الليلة، كان اختلف لولا رجل الأمن ريتشارد جيويل (بول واتر هاوزر) الذي
كان يتولى حراسة المكان، وانتبه للشنطة.
ما يقترحه إيستوود حكاية أميركية بكلّ تفاصيلها وتعقيداتها،
فيمدّها بأسلوبه المقتصد الباهر في تحريك الكاميرا ليمسح بها التراجيديا
اليومية بلقطات سريعة ومكثّفة. انها لغة الكلاسيكيين الأميركيين الكبار
التي تولي السرد الأهمية القصوى في لحظة قولها روايتها المفضّلة: شخص عادي
في ظرف استثنائي. عظمة فيلم إيستوود انه يعرّي منظومة التواطؤ الاعلامي
الأمني ضد مواطن عادي، من خلال شخص ليس خصماً بل أكثرهم ايماناً بالمنظومة
الأميركية نفسها. ريتشارد جيويل ينام على حلم فيستيقظ ليكتشف انه شاهد
كابوسه. أما إيستوود، ذئب السينما الأميركية، فطوى أحلامه منذ زمن بعيد.
"التحدّث
عن الأشجار" لصهيب قسم الباري
عمل وثائقي باهر يقتفي أثر مجموعة سينمائيين مغامرين كانوا
قبل سنوات من مؤسسي ما يُعرف بـ"نادي السينما السوداني". بعد سنوات، ها هم
يجتمعون مجدداً لتحقيق حلم قديم: تأهيل دار للعرض في هواء الخرطوم الطلق،
وافتتاحها، بعدما تحوّلت على مرّ الزمان إلى ما يشبه الأنقاض. السينمائيون
الأربعة هم متن الفيلم، الريشة التي يرسم بها قسم الباري لوحة مضيئة -
كئيبة لسودان معاصر حيث كل رغبة أو أمنية تصطدم بواقع أليم لا يتوقّف عن
تذكير الإنسان بحجمه ولا يكف عن تقليص طموحاته. لا صخب، لا استعراض، لا عرض
عضلات، لا ابتذال، لا توظيف لأشياء في غير مكانها. نصّ يمتاز بالكياسة،
بالتواضع، بالسخرية اللاذعة التي تدخل القلب بلا استئذان. إلى درجة ان روح
الشخصيات تتسلل داخلك ببطء. شخصيات فيها طرافة وعمق وثقافة، ولكن نتعلّق
بها لسبب بسيط: الصدق الذي يسردون فيه معاناتهم والصدق الذي يصوّر فيه
المخرج ذلك. |