الحضور المصري دائمٌ في مهرجانات سينمائية عربيّة مختلفة،
داخل مصر وخارجها. مخرجون ونجوم مدعوون إلى دورات سنوية، فهم الضيوف الأكثر
طلبًا، والمصريون خارج بلدهم يتوقون إلى ملاقاتهم عبر أفلامهم، أو مباشرة.
إعلاميون وصحافيون مصريون يهتمّون بهم، وغالبًا من دون أدنى اكتراثٍ
بسينمائيين آخرين، وبأفلامٍ أخرى. الغالبية الساحقة من إعلاميي مصر
وصحافييها، المتواجدين في مهرجانات سينمائية عربية وغير عربية، معنيّة
أولاً وأساسًا بالوفد المصري. غالبية تُلاحق نجوم الوفد للقاءات إعلامية
وصحافية، تخلو من كلّ سجال أو نقد أو حوار فعّال. لقاءات يُمكن أن تُجرى في
أي وقت وفي أية مناسبة وفي أي مكان. الصورة، بالنسبة إلى الغالبية، أهمّ.
المهرجانات العربيّة خارج العالم العربي وداخله معقودة على مصريين،
والآخرون تفاصيل غير مهمّة غالبًا بالنسبة إلى الوفد المصري.
نادرون همّ صحافيّو مصر ونقّادها الذين يُشاهدون أفلامًا
غير مصرية، ويتابعون أحوال السينما في العالم، ويهتمّون بسينمات عربيّة
تتفوّق، يومًا تلو آخر، على السينما المصرية. نادرون هم هؤلاء الذين يسألون
ويناقشون ويشاهدون.
"مهرجان مالمو للسينما العربية" ليس
استثناءً. الحضور المصري فيه محاولة لتقليص المسافة بين عربٍ (مصريين
تحديدًا) مقيمين في مالمو السويدية وأفلام عربيّة (مصرية تحديدًا)، بينما
ينجذب المصريون إلى أفلام بلدهم ونجوم بلدهم، تمامًا كغالبية العرب
المهاجرين، فالمغربيّ معنيّ بأفلام بلده ونجومها، كما التونسي أو اللبناني
مثلاً. لكنّ هذا لن يكون تعميمًا، فالاستثناءات متوفّرة غالبًا، وهي
الأهمّ.
في الدورة الـ9 (4 ـ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) للمهرجان
العربيّ الأبرز في القارة العجوز، هناك 3 أفلام روائية طويلة مصرية، مُنتجة
حديثًا: اثنان مشاركان في المسابقة الرسمية، التي تضم لجنةُ تحكيمها
الممثلة ليلى علوي، هما "ليل/ خارجي" (2018) لأحمد عبدالله السيّد (أفضل
فيلم، 20 ألف كرون سويدي، ما يعادل ألفي دولار أميركي)، و"الضيف" (2019)
لهادي الباجوري (جائزة الجمهور)، و"يوم وليلة" (2019) لأيمن مكرم، المعروض
في حفلة الختام. بالإضافة إلى فيلمين وثائقيين: "الشغلة" (2019) لرامز يوسف
و"الكيلو 64" لأمير الشناوي. أما مسابقة الأفلام القصيرة، التي يُشارك
الناقد وليد سيف في لجنة تحكيمها، فتضمّ "شوكة وسكينة" (2018) لآدم عبد
الغفّار، و"ما تعلاش عن الحاجب" (2018) لتامر عشري، و"إكسترا سايف" (2019)
لنوران شريف.
في برنامج "عروض خاصّة"، هناك "الفارس والأميرة" (فيلم
تحريك، 2019) لبشير الديك وإبراهيم موسى مصطفى، و"يوم الدين" (2018) لأبي
بكر شوقي، وفي برنامج "ليال عربيّة"، هناك "تراب الماس" (2018) لمروان
حامد.
هذا عاديّ. لكن، رغم أنّ مصر سبّاقة في الإنتاج السينمائي
العربي، إلاّ أنّ نتاجاتها في الأعوام الفائتة غير متمكّنة من تحصين
أفلامها كلّها من خلل أو ارتباك أو ضعف أو تسطيح. في الروائي الطويل،
يتفرّد "ليل/ خارجي" بامتلاكه مفردات قول سينمائي أنضج وأعمق وأسلس. في
الروائي القصير، يبقى "شوكة وسكينة" أهمّ وأجمل. أما "يوم الدين"، فيحتلّ
مكانة بارزة في صناعة السينما المصرية الراهنة.
جديد هذه السينما، "يوم وليلة". تفاصيل عديدة يرويها،
مستلّة من وقائع العيش في بلدٍ يعاني ثقلاً في جوانب مختلفة من حياته، في
السياسة والأمن والاجتماع والعلاقات. فساد السلطة، المتمثّلة بأمين شرطة
يُدعى منصور الذهبي (خالد النبوي)، أحد تلك الجوانب. التواطؤ بينه وبين
"زعران الشوارع" جانب آخر، والتواطؤ حاصلٌ برعاية مسؤول أمنيّ كبير. سرقة
سيارات، وشراء أسلحة، ورشاوى وحاجات شبيهة بهذا، ميزة التواطؤ. علاقات
مشبوهة، وتفعيل يومي للسلطة الأمنية، مقابل بساطة أمين الشرطة وطيبته مع
ابنته المُصابة بالمرض المنغولي، ومع جيرانه وأبناء الحيّ. التابع للبلطجي
يريد أمانًا يحصل عليه بسطوة مستمدّة من الزعيم نفسه، لكنّه مغرم بالممرضة،
التي تعاني الأمرّين في ترتيب أمور عيشها اليومي، فالزوج غير مهتمّ، وهي
التي تتكفّل بمصاريف المنزل والابن، ونزاعات يومية مع عائلة صغيرة لها
تُقيم وإياها في منزل يتداعى.
هذا جزءٌ من صورة عامة تنعكس في فيلمٍ غير معروض البتّة، لا
في مصر ولا في خارجها، قبل عرض الختام هذا. جزءٌ يُستشفّ منه قسوة عيشٍ
وتمكّن متسلّطين من استغلال ضعفاء وإخضاعهم لجبروتٍ يرونه في ممارسة تسلّط
وحشيّ عليهم. ورغم أنّ" يوم وليلة" غير متمكّن من معالجة درامية أعمق وأهمّ
ـ فالتبسيط سمته وإنْ يكن التبسيط، أحيانًا، مطلوبًا، من دون بلوغ مرتبة
الهشاشة الجمالية والدرامية والسرديّة ـ إلا أنّ المسائل المطروحة فيه تعكس
شيئًا خطرًا في اجتماعٍ يزداد اهتراءً وتفسّخًا وارتباكات وقلاقل. ولعلّ
المشهد الأخير يبقى الأوضح في قولٍ صريح، مع "تمرّد" منصور الذهبي على
أبناء الحيّ، وكشفه مدى وحشيته وسلطته ونزعته إلى إخضاعهم جميعًا تحت سطوته
الأمنيّة، إذْ يقول المشهد إنّ شيئًا جديدًا ومختلفًا لن يحصل، فالأمنيّ،
أي السلطة الأمنية ومعها السلطة العسكرية غير الظاهرة في "يوم وليلة"،
قابضٌ على البلد والاجتماع والناس، ولا خلاص للبلد والاجتماع والناس منه
وممّا يُمثِّل.
وإذْ يُمكن اعتبار المشهد رسالة أمن إلى بلد واجتماع وناس،
فإنّ تفسيرًا نقيضًا لهذا قابلٌ لأن يكون نواة النصّ. كأنّ الفيلم (تأليف
يحيي فكري) نقدٌ لحالة مرفوضة، لكن الرفض مجرّد تعبيرٍ عابرٍ، فالسلطة
الأمنية أقوى، والفيلم راغبٌ في تأكيد هذا، عبر سرد تبسيطي، يكاد يبلغ
التسطيح أحيانًا، لغليان يعتمل في اجتماع غارقٍ في فوضاه وفساده، كما في
القهر والفقر والتمزّقات، فكلّ صاحب سلطة، مهما تكن ضعيفة أو قوية،
يستغلّها لمآرب ذاتية بحتة، وبوسائل مختلفة. والمعالجة، إذْ ترتئي سلاسةً
في كشفِ مُتداولٍ، تُلحّ على تبيان المعروف بلغة غير خطابيّة، بقدر ما هي
عفوية، إلى درجة التبسيط السينمائي المملّ أحيانًا. والمتداول المعروف
يُصبح عيشًا، وهذا مطلوب من سلطة تبغي تحطيم كلّ إرادة ترنو إلى رفضٍ
ومواجهة وتحدٍّ، فإذا بـ"يوم وليلة" يكشف أنّ الإرادة ـ الفردية والجماعية
ـ عاجزة عن ترجمة انفعالاتها ورغباتها ومطالبها، فالتسلّط أقوى، والاهتراء
أعنف، وانسداد الأفق مصير كلّ فردٍ وجماعة.
يشير "يوم وليلة" ـ الذي يفتتح الدورة الثانية (18 ـ 25
أكتوبر/ تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان الدار البيضاء للفيلم العربي" ـ إلى
نيّة واضحة في البلد لإحكام القبضة السلطوية الحديدية على الجميع، ولتضييق
الخناق على الجميع. خصوصًا أنّ مسارات الشخصيات مصطدمة باستحالة أي تغيير
ممكن، ومصائرها معلّقة أو ملتبسة أو تائهة وسط استكمال الأمن سلطته، بإزالة
قناع البساطة والطيبة، وكشف حقيقته السلطوية العنيفة، مع أنّ رجل الأمن
نفسه غير سوي، إذْ يستفيد من أعمال "بلطجية" لمراقبة منفّذيها والاستفادة
منهم.
هناك أيضًا أقباط مصر ومعاناتهم اليومية، في ظلّ تنامي
التشدّد الديني والتزمّت الاجتماعي. العائلة مُكوّنة من أم مريضة تواجه
حتفها كل لحظة، وابنة متزوّجة لكنها تعيسة في زواجها وهي غير قادرة على
الطلاق، والأخ الأكبر مُدرِّس يتعرّض لشتّى أنواع الضغوط اللفظية
والمعنوية، والأخ الأصغر مرتبط بعلاقة زمالة وصداقة (وربما حبّ) بشابّة
محجّبة. الفساد في المستشفى المسيحي لن يقلّ هولاً عن أي فساد في البلد.
العنصرية والإقصاء والتضييق والرفض سمة اجتماعٍ ينبذ بعض ناسه بسبب انتماءٍ
ديني اجتماعي مختلف. تصوير هذا غير مدّع وغير متعالٍ وغير متصنّع. واقعيته
شديدة الحضور، وانتقاده المبطّن أحوال البلد والاجتماع حادّ ببساطته.
لكنّ هذا كلّه غير كافٍ لصُنع فيلم حيوي ومتين، رغم جودة
فقرات متنوّعة، تحتاج إلى ترابط أقوى يُلغي التسطيح، ويمنح النص مساحته
السينمائية المطلوبة. |