*
دى نيرو تفوق على نفسه ووضع خبرة السنين ليقدم دور العمر.. وباتشينو يلهمنا
دائما
*
الفيلم يتناول العديد من المفاهيم المرتبطة بالعمر والخسارة والخطيئة وكيف
يمكن أن تشعر ككائن يحاصره التاريخ حتى لو لعبت دورًا فى تشكيله
تبقى تحفة سكورسيزى الجديدة «الايرلندى» ملحمة سينمائية بكل المقاييس،
كعادته اخذ المشاهد من الهدوء الذى بدأ به الفيلم بمشهد دى نيرو إلى حالة
من تقاطع الجريمة مع السياسة، استمتع بها جمهور مهرجان القاهرة السينمائى
فى ليلة افتتاح دورته الحالية، وأيضا فى العرض آخر تدافع الجمهور لحضوره فى
ثانى أيام المهرجان.
الفيلم الذى بلغته ميزانيته ١٧٥ مليون دولار واستخدم ما يقرب من ١١٥ موقعًا
لتصوير أكثر من ٣٠٠ مشهد، يتناول قصة حقيقية مقتبسة من كتاب «سمعت أنك تطلى
المنازل» لتشارلز براندت، تدور حول فرانك شيران «دى نيرو» الذى قتل أكثر من
٢٥ شخصًا بناء على أوامر من زعيم المافيا راسل بوفالينو «جو بيشى» وزعيم
نقابة سائقى الشاحنات جيمى هوفا «آل باتشينو».
فرانك الذى يجسد شخصيته «دى نيرو» يظهر فى اللقطة الافتتاحية عبر منزل
التقاعد، ويجلس بمفرده على كرسى متحرك يبدو من الخلف وكأنه ميت ثم تدور
الكاميرا حوله لتكشف عن وجهه الملىء بالشعر الأبيض وعينيه الغائمة؛ يبدأ فى
الكلام ويستمر كراوٍ لأحداث الفيلم الذى يتناول تاريخ المافيا وتاريخ
واشنطن، وقصة صعود كاسترو فى كوبا، ومحاولات وكالة المخابرات المركزية
الأمريكية للإطاحة به، واغتيال جون إف كينيدى، وحروب الغوغاء فى الستينيات
والسبعينيات من القرن الماضى.
الفيلم من داخله يتناول العديد من المفاهيم المرتبطة بالعمر، الخسارة،
الخطيئة، الأسف، وكيف يمكن أن تشعر ككائن سلبى يكتسحه التاريخ حتى لو لعبت
دورًا فى تشكيله.
تشعر أن دى نيرو وضع خبرة السنوات السابقة فى أدائه هذا الدور، وأيضا كل من
إل باتشينو وجو بيشى، حيث تلاحظ أنهم لم يتقدموا فى العمر، عندما يعود
المخرج فلاش باك من أجل استعادة الذكريات، وذلك بفضل التكنولوجيا والمكياج
الرائع، ما نلاحظه أيضا فى الشباب الذين يكبر بهم العمر، كل هذا بفضل إخراج
سكورسيزى، ويعتبر العمل عودة للتعاون بين الثنائى دى نيرو وسكورسيزى، الذى
اختلف فى هذا العمل عن أفلامه السابقة التى تناولت قصصا عن العصابات، حيث
استخدم فى «الأيرلندى» التحول بين العصور باستخدام الحوار والتعليق الصوتى
الذى جعل ذلك الانتقال سلسًا.
تفوق دى نيرو على نفسه فى «الأيرلندى»، وقدم شخصية فرانك المنغلق على نفسه
والذى تعتقد أنه شخصية مملة بعض الشىء، ولكن مع مرور الأحداث تكتشف أن لديه
حياة داخلية نادرًا ما يسمح لأى شخص أن يصل إليها، دى نيرو صاحب الـ٧٥
عامًا عندما قدم دوره مع سكورسيزى فى «الأيرلندى» يبدو وكأنها تجميعة
لمسيرة دى نيرو الطويلة، حيث تستمتع به فى دور أحد قدامى المحاربين فى
الحرب العالمية الثانية الذى أصبح قاتل مافيا ثم زعيما نقابيا، وكان لديه
صداقة طويلة مشحونة سياسيا فى بعض الأحيان مع جيمى هوفا زعيم Teamster «آل
باتشينو».
قدم دى نيرو شخصية فرانك الصامت الذى يتفاعل فى بعض الحالات، حيث كان
رائعًا فى الحديث عن مواقف معينة من خلال التظاهر بعدم فهم الأسئلة التى
طُرحت عليه. انه يأتى فى العديد من المهام والوظائف المحددة ببساطة بحكم
وجوده فى المكان المناسب أو مقابلة الأشخاص المناسبين فى الوقت المناسب.
بينما يصف مسيرته العنيدة عبر الزمن والحياة، فإنه يميز الخيارات التى
اتخذها بمحض إرادته (بما فى ذلك العديد من جرائم القتل) كما لو كانت أشياء
حدثت له للتو.
وأتذكر قول دى نيرو عن تلك الشخصية: «أنا سعيد بأن هذا يمكن ان يمد مسيرتى
المهنية ثلاثين سنة اخرى».
جيمى هوفا الذى قدمه آل باتشينو بذكاء وموهبة لا تقل روعة عن أداء دى نيرو،
وكان ينتقل بين الصخب والصراخ إلى التأنى والتريث بكل سلاسة تعكس فكر
سكورسيزى وموهبة باتشينو، ويعتبر «الأيرلندى» عودة للتعاون بين إل باتشينو
مع دى نيرو والأول له مع سكورسيزى، قدم باتشينو الذى يلهمنا دائما شخصية
الزعيم النقابى لسائقى الشاحنات والسياسى البارز الذى قتله فرانك وهو ما
اعترف به على فراش الموت. جيمى هوفا التى قدمها من قبل جاك نيكلسون فى فيلم
«هوفا»، ومن المعروف عن هوفا تورطه فى مقتل الرئيس الأمريكى جون كينيدى.
السيناريو الذى كتبه ستيفن زيليان كان مدهشا بتركيبته السهلة والمعقدة معا،
وبنقلاته الذكية وايقاعه اللاهث فى مناطق والمتأنى فى أخرى ليظهر لنا حكمة
المشهد وصورته، وخاصة فى المشاهد التى جمعت فرانك وهوفا، باستخدام الحوار
والتعبير الصوتى المميز لجعل الانتقال السريع سلسًا وكانت الموسيقى
المصاحبة التى ألفها روبى روبرتسون تشكل سيمفونية درامية مع طلقات الرصاص.
«الايرلندى»
كان مشروعا مؤجلا لسكورسيزى منذ 12 عاما، حيث واجه صعوبات مع المنتجين، الا
ان نتفليكس تحمست لإنتاجه وتحقيق حلمه الكبير الذى أبحر فيه إلى عالمه
الخاص، وغزل فيه من الذكريات ملفات تجمع بين الواقع والخيال ومضامين مؤثرة
حول ذلك الجزء من الزمن الذى وقعت فيه الأحداث الفعلية (علاقة رئيس اتحاد
عمّالى بالمافيا التى تنقلب عليه لتصفيته) مصورا مقوّمات المجتمع الأمريكى
وحياة الجريمة المقرونة بالحياة السياسية، وتحليل شخصياتها واحداثها والعنف
الكامن فى جسد الشارع الأمريكى وكذلك تصويره للاماكن التى شكلت مغزى كبيرا
برؤية تأملية وابداعية خاصة. |