بصرف النظر عن كيفية حصول مهرجان القاهرة على فيلم
«الآيرلندي» لعرضه في افتتاح الدورة الحادية والأربعين يوم أمس الأربعاء،
إلّا أنّ تقديمه لجمهور متعطش لمشاهدة هذا الفيلم كان خير بداية ممكنة
لمهرجان دولي ينطلق من إحدى العواصم العربية.
منذ أشهر والطبول تقرع حول فيلم مارتن سكوسيزي الجديد وخلال
تلك الشهور لم يشاهده أحد من الجمهور المصري والعربي عموماً حتى للمشتركين
في خدمة الشركة المنتجة «نتفلكس» بسبب حقيقة بسيطة: عدا افتتاحه مهرجان
لندن وختامه مهرجان نيويورك وتوزيع محدود في نيويورك ولوس أنجليس لم يتسن
لأحد مشاهدته لأنّ «نتفلكس» تود الاحتفاظ بجمهور الفيلم العريض حين تقدم
على بثه على الشاشات المنزلية هذا الشهر.
وبما أنّ موعد البث المقرر سيتم في الثالث والعشرين من
الشهر الحالي، فإنّ الفيلم ما يزال في صدفته المحروسة جيداً بانتظار ذلك
التاريخ باستثناء أنّ شركة نتفلكس والمخرج مارتن سكورسيزي وافقا عندما
تقدّم رئيس مهرجان القاهرة محمد حفظي إليهما بطلب عرض الفيلم في هذا
المهرجان.
إنّه اختيار جيد ليس لأنّه يلبي حاجة الجمهور الكبير الذي
شاهده يوم أمس (وسيشاهده اليوم في إعادة) فقط، بل لأنّه موقع باسم مخرج من
وزن مارتن سكورسيزي.
-
نقد وتساؤل
لا يمكن نفي إنجازات سكورسيزي البديعة من حسبان هواة
ومحترفي السينما على حد سواء. على عكس عمالقة الفن السابع الكبار مثل
كوروساوا وفيلليني أو تاركوفسكي أو كوبولا، أفلام سكورسيزي سهلة الوصول إلى
مختلف المشاهدين وفئاتهم غالبها - محاك جيداً كحرفة وصنعة. لا خطأ يكمن في
مشاهدة أي من أفلامه كونها جميعاً تثير حكايات مثيرة ومعالجة جيداً وتضم
براعات في العمل وأسلوباً في التنفيذ والعرض قليلي الحضور هذه الأيام.
«الآيرلندي»،
وقد كتبنا عنه مطوّلاً من قبل، لا يخرج من هذه التركيبة السهلة والمعقدة
معاً. ينسل من الذكريات ملفات تجمع بين الواقع والخيال ومضامين بعيدة الأثر
حول ذلك الجزء من الزمن الذي وقعت فيه الأحداث الفعلية (علاقة رئيس اتحاد
عمّالي بالمافيا التي تنقلب عليه لتصفيته). تحت يدي المخرج الخبير الذي سبق
وأن ودّع أفلام غانغسترز أكثر من مرّة، يوعز سكورسيزي بنهاية مرحلة مزدوجة:
وداع لتاريخ ووداع لسينما. في الأول يكمن البحث داخل مقوّمات المجتمع
الأميركي وحياة الجريمة المقرونة بالحياة السياسية، وفي الثاني وداع لأفلام
أحب سكورسيزي دائما لونها، الذي منحه القدرة على تحليل شخصياتها وأحداثها
من موقع فنان يريد الكشف عن العنف المجسّد في كيان الشّارع الأميركي بأكثر
من وسيلة.
التاريخ منتشر في أرجاء ما يعرضه مهرجان القاهرة من أفلام
هذا العام. بعضه يكمن في أفلام عربية تنظر إلى الماضي بعيون ناقدة أو بعيون
متسائلة. لكنّ الفيلم الأمثل الذي يجمع بين النقد والتساؤل (حول ما الذي
حدث آنذك وكيف يؤثر علينا اليوم) هو فيلم المخرج سمير جمال الدين (يكتفي
بتوقيع اسمه الأول سمير) «بغداد في خيالي».
إنه حول تبعات نظام صدام حسين حتى من بعد رحيله وتداخل
المواقف في حياة شخصيات عراقية تعيش في لندن. بعض الشخصيات يعيش في الحاضر
متطلعاً إلى مستقبل أفضل، وبعضها الآخر ما يزال مشدوداً إلى الماضي. بعضها
ينتمي إلى الحياة الجديدة في مدينة المهجر (لندن) وبعضها إلى شخصيات آتية
من الأمس لتمارس ما كانت تمارسه سابقاً.
الفيلم هو دراما اجتماعية عن عراقيين يعيشون في لندن منذ
أجيال. كلّهم هربوا من النظام الأسبق محمّلين بتبعات مختلفة. يفتح الفيلم
على توفيق (هيثم عبد الرزاق) وهو يتعرض للتحقيق في بغداد بتهمة انتمائه
للحزب الشيوعي. لا للتحقيق فحسب بل للتعذيب. في لندن، نراه يتّجه، بعد
سنوات، إلى مبنى البوليس في بادينغتون (لندن)، حيث يتطوّع لتسليم نفسه
بعدما قتل عراقياً آخر تسلّل من تبعات ذلك النظام إلى لندن بأجندة انتقامية
تشمل زوجته السابقة أمل (زهراء غندور) والتجسّس على الجالية العراقية
المحيطة بها.
-
القفز بين الأزمنة
ذلك العراقي، واسمه ياسين (فريد الوردي)، بعثي يعلن عن أنّه
«الملحق الثقافي العراقي»، لكن منصبه قد يكون مزوّراً كمبادئه التي تعلن عن
نفسها مع استمرار الفيلم. لجانب التجسّس على الجالية، التي تضم زبائن مقهى
باسم «أبو نوّاس» وصاحبته والعاملين فيه، التقرّب من شيخ (يتحدث لهجة غير
عراقية(
لحثه على قتل أمل المرتبطة الآن بعلاقة عاطفية مع شاب اسمه مارتن (أندرو
بيوكان). كذلك قتل عامل المقهى ذاته (حيث تعمل أمل أيضاً).
يدور الفيلم إذن، مع هذه المجموعة من العراقيين وما يجاورها
من بيئتين متناقضتين: عراقية محمّلة بتبعات نظمها وبريطانية منفتحة لا
تستطيع أن تفهم كنه الثقافة التي حملها العراقيون معهم إلى البلاد ولا
يستطيعون التخلي عنها. ينتقل المخرج ما بين التحقيقات التي تدور مع توفيق
لقيامه بقتل ياسين، إلى خطوط سرد أخرى تقفز أحياناً بين الأزمنة لتستعرض
علاقات ما قبل الهجرة. مثل هذا السرد يتطلب بذلاً كبيراً في الكتابة وفي
التنفيذ والمخرج لا يبخل على ذلك، لكنّه أيضاً مطب لاذع إذا كانت الحبكة
الماثلة تخلو من التشويق. يملأ المخرج المشاهد التي تقع في تحقيق البوليس
البريطاني مع توفيق بلقطات قريبة للعيون وبأقل كم ممكن من الحوارات، قبل أن
يكمل ما كان بدأ بعرضه. ما يفوته هو أن التشويق، الذي هو أحد مرادات المخرج
هنا، لا يتوفر ما يجعل المرء يتمنى لو أنّ الفيلم اتبع سرداً مختلفاً ولو
إلى حد.
هناك مشاهد خطابية ووعظية يتبادلها كل الممثلين حسب
شخصياتهم. الحوار ليس من ذلك الذي يشي بين الأسطر. ومن بين كل الأداءات
يبرز أداء هيثم عبد الرزاق المحمّل بالهم. غير مؤكد تماماً إذا ما كان
الممثل اكتفى بتعليمات المخرج أو أنّه كان يملك شحنة أعلى من الأداء مارس
ما أتيح له منها.
المسألة الأهم بين مسائل الفيلم تبقى ملتصقة بشخصية توفيق
وكم يتمنّى المرء لو أنّ الفيلم التزم بها وشرح من خلالها المواقف الأخرى،
عوض أن يوزع تلك المواقف بطريقة ذات حس سرد تلفزيوني (طريقة كارناشن ستريت).
-
حكاية نمساوية
بينما يُعرض فيلم «بغداد في حياتي» بمسابقة «آفاق السينما
العربية»، يعرض فيلم ترنس مالك «حياة مخفية» كواحد من الأفلام العديدة
المعروضة خارج المسابقة (إنّما في الإطار الرسمي للمهرجان).
«حياة
خفية» هو أيضاً فيلم يمارس التاريخ ولديه كذلك قضية يعرضها. فيه ينأى
المخرج الأميركي ترنس مالك قليلاً عن معالجاته الفنية وكيفية تذويب الممثل
داخل الفيلم، كما لو كان صورة داخل ألبوم مغلق، وينطلق ليسرد فعلياً قصة
حياة واقعية يحتل فيها التمثيل المباشر والحكاية بوضعها التقليدي مكانة
أولى.
حكايته مغزولة من خيوط قصّة واقعية حدثت خلال الحرب
العالمية الثانية. فلاح نمساوي اسمه فرانز (أوغوست ديل) متزوّج ولديه أولاد
ويعيش في بقعة من الطبيعة الساحرة بعيداً عن خطوط الحرب الدائرة. لكن الحرب
لا تريد لأحد أن يبقى بعيداً عنها. ينضم لفترة إلى الجيش النمساوي الملتحق
بالجانب النازي ثم يعود إلى عائلته غير راغب في حمل السلاح والقتال.
هذا موقف لا يمكن للسلطة النمساوية المتعاونة جيداً مع
الغاستابو أن ترضى به. تتوجه إليه طالبة منه الانضمام مجدداً للجهد الحربي
بطريقة أو بأخرى، لكنّه يرفض حتى في حدود جمع التبرعات المالية لشؤون
الحرب. هذا ما يؤدي به إلى الاعتقال بغية حمله على القبول. لكنّ فرانز لا
يستطيع أن يسمح لنفسه بالتنازل حتى وإن كان الثمن إطلاق حريته مقابل توقيع
على ورقة تأييد.
الطبيعة (جبال خضراء، سهوب، مياه الأنهر الصافية، السماء في
أطوارها وألوانها)، كلها ما زالت موجودة في هذا الفيلم كما كانت دائماً
موجودة في أفلام ترنس مالك السابقة. العلاقة أكثر من مجرد أن الأحداث في
أفلام مالك عادة ما تدور خارج المنازل وبالتأكيد خارج المدن الكبيرة. هي
علاقة روحية بين المخرج وبين الطبيعة وما يثير العجب هنا هو ذلك التناغم
البديع بين جمال الطبيعة ووحشة القضية التي يسردها الفيلم. فالفيلم ليس
كئيباً تأييداً لفرانز وما يواجهه من مأزق كبير، بل يعرف كيف يصيغ جماليات
الحياة في مقابل صعوبة ما يواجه الإنسان من ظروف بسبب عقيدته الصلبة التي
لا يريد التخلي عنها. |