"النقاد".. تكريس للاختلاف في "القاهرة السينمائي"
بقلم: أسامة عبد الفتاح
** التجديد والابتكار والجرأة في التجريب وتحطيم الثوابت
والمسلّمات من أجل سرد متحرر من كل القيود
تسعى مسابقة أسبوع النقاد الدولي بدورة يوسف شريف رزق الله
من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والتي تحمل رقم 41 وتنطلق غدا
الأربعاء، لتكريس مفهوم "الاختلاف عن السائد" الذي يقع في القلب من فكرة
إقامة المهرجانات السينمائية أصلا، وفي هذا الإطار حرصت – كمدير لها – على
الوفاء بمعايير يجب – من وجهة نظري بالطبع، وقد أكون مخطئا – أن تتوافر في
الأفلام المشاركة في هذه المسابقة تحديدا، وأهمها: التجديد، والابتكار،
والميل – بل الجرأة – في التجريب، وتحطيم الثوابت والمسلّمات من أجل سرد
متحرر من كل القيود.
حاولت أن يُعلي هذا البرنامج القيم والمعايير الفنية على
حساب أي توازنات أو شروط أو حسابات يجب أو يمكن إجراؤها ومراعاتها في أقسام
ومسابقات ومهرجانات أخرى، وأن تميل الاختيارات إلى السينما البحتة كما
نراها وكما نحلم بها.. وتم إطلاق حرية الاختيار في كافة الموضوعات والقضايا
والاتجاهات لتكون معادلة وموازية لحرية السينمائيين في صناعة أفلامهم، مع
بقاء الإنسان وهمومه - في كل مكان وزمان - كقضية "عليا" نلتزم بها، ويعمل
عليها صناع السينما "الحقيقية" حول العالم.
ويشارك في المسابقة الفيلم التونسي "قبل ما يفوت الفوت" في
عرضه الدولي الأول، وهو من إخراج مجدي الأخضر، ويتميز بأنه يجمع بين روح
التجريب والتجديد، خاصة في حركة الكاميرا وعلاقتها بتكنيك أداء الممثلين،
وبين الرصد الواقعي والحميم للحياة اليومية لأسرة تونسية عادية تكافح من
أجل حياة كريمة ولا تزيدها الأزمات سوى تماسكا. كما يتميز بوجود أكثر من
مستوى للتلقي، وفتح الباب أمام مختلف التفسيرات للدراما التي يقدمها
ولأسلوب تقديمها.
كما تشارك أربعة أفلام في عرضها الأول بالشرق الأوسط وشمال
أفريقيا، أولها "رجل يموت مليون مرة"، الإنتاج المشترك بين الولايات
المتحدة وروسيا، من إخراج: جيسيكا أوريك، وهو تجربة سينمائية فريدة يصعب
تصنيفها تحت الفئات الموجودة والمعروفة لنوعيات الأفلام، حيث يمزج صناعه
بمهارة بين أسلوبي السينما الروائية والتسجيلية فيما يشبه قصيدة الشعر
الرقيقة التي تدفعك للتفكير والتأمل، ومن الصعب فعلا أن يكون السينمائي
شاعريا إذا كانت القضية التي يطرحها بخطورة القضية التي يتناولها الفيلم.
وهناك الفيلم الصيني "صيف تشانجشا"، الذي أخرجه "فنج زو"،
وأحدث ضجة كبيرة لدى اشتراكه في مسابقة "نظرة ما" الرسمية بمهرجان "كان"
الأخير، حيث اعتذر صناعه عن السفر إلى فرنسا في اللحظات الأخيرة، ليُعرض في
غيابهم.. وفيما أصدروا بيانا أعلنوا فيه أن "أسبابا تقنية" حالت دون
حضورهم، أرجع العديد من المراقبين والمحللين عدم مصاحبتهم لفيلمهم إلى
أسباب سياسية ومنعهم من قبل السلطات الصينية، علما بأن العمل لا يتناول أي
قضايا سياسية، بل يدور ببساطة حول خطايا البشر ومن يرتكبونها ويظلون طوال
أعمارهم يدفعون ثمن ذلك، على الأقل من تأنيب ضمائرهم لهم.
ومن خطايا إلى خطايا في ثالث الأفلام التي حصلنا على حق
عرضها الأول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الروماني "اعتقال"، الذي شارك
في مسابقة شرق الغرب بمهرجان كارلوفي فاري هذا العام من إخراج أندريه كون،
والذي يثير في رأيي قضية جديرة بالمشاهدة والمناقشة في أسبوع سينمائي يحمل
اسم النقاد، فهو تعرية قاسية للنفس البشرية وما يمكن أن ترتكبه من عنف
وفظائع وما يمكن أن تكون عليه من وحشية.. وهذه النوعية من السينما تطرح
أسئلة مهمة مثل: هل نحن مستعدون لتدريب أنفسنا على طريقة تلقي أخرى غير تلك
التي اعتدناها على مدى قرن من الزمان؟ هل نقبل بوجود ذوق سينمائي آخر غير
السائد في أسواقنا ونفسح له مكانا يستحقه تحت الشمس؟
أما الفيلم الرابع فهو الإسباني ذو الطابع التجريبي "وظيفة
وفيلم" للمخرج خافيير مارتينيز سولير، وهو تجسيد ممتع لما يمكن أن يصل إليه
الخيال السينمائي الجامح، ويذكرك بلعبة العرائس الروسية الشهيرة، التي كلما
فتحت إحداها وجدت أخرى، لكن هنا اللعبة لا تتعلق بالعرائس، بل بالأفلام،
حيث أن فيلمنا بداخله آخر، والآخر مثله وهكذا.. عمل يعيد الاعتبار للسينما
كفن بصري يعتمد على الصورة ويعبر بها أولا قبل أي شيء.
كما يتنافس على جائزتي أسبوع النقاد الدولي بمهرجان القاهرة
فيلمان شاركا في أسبوع النقاد بمهرجان "كان" هذا العام، الأول الفيلم
الجزائري "أبو ليلى"، للمخرج أمين سيدي بومدين، في عرضه الأول بالشرق
الأوسط، وهو – بحق – مختلف تماما في بنائه وأسلوب سرده، ليس فقط عن الأفلام
الجزائرية الأخرى، ولكن أيضا عن معظم التيارات السائدة في السينما العربية.
عودة إلى جزائر التسعينيات، لكن ليس بالطريقة التقليدية التي تتابع
التفجيرات الإرهابية وترصد آثارها على المواطنين وتدين مرتكبيها، بل بأسلوب
يهتم أكثر بـ"تفجيرات" النفس البشرية وما يعتمل بها من صراعات وما تقوم
عليه من تعقيدات وتركيبات مثيرة تم التعبير عنها بطريقة سينمائية مثيرة
بدورها يتلاشى فيها الفرق بين الحقيقة والخيال.
أما الثاني، فهو "أرض الرماد" في عرضه الأول بشمال أفريقيا،
وهو إنتاج مشترك بين كوستاريكا وتشيلي والأرجنتين من إخراج صوفيا كيروس
أوبيدا، ويُعد قصيدة شعر سينمائية أخرى نسعد بتقديمها في إطار هذه
المسابقة، ولها خصوصية تتعلق بسحر أمريكا الجنوبية الشهير.. لكن هذا السحر
لا يكمن هنا، فقط، في الطبيعة الخلابة ولا في اللغة السينمائية وحدهما، بل
في الحياة اليومية للبسطاء، وكيف يقودهم تفكيرهم، وخيالهم أيضا، إلى سحر
حقيقي، وهذا هو سر تفرد الفيلم وتميزه. |