بالكاد استطعتُ سرقة بعض الكلمات من فم آنا أوروشادزه،
الفائزة بالـ"نجمة الذهب" في #مهرجان_الجونة السينمائي
(٢٢ - ٢٩ أيلول) عن فيلمها البديع “أم مخيفة”. استدراجها وحضّها على الكلام
تحديان كبيران لمَن يجلس قبالتها منتظراً الكلمات. المخرجة الشابة - ٢٧ سنة
فقط لا غير - خجولة تخفي ارتباكها خلف ضحكة موتورة، ولكنها بصرية قبل أي
شيء آخر. أي أنّ خطابها على الشاشة لا على لسانها.
قبل حفل الختام وتوزيع الجوائز مساء الجمعة الماضي بساعات
قليلة، جلستُ مع هذه السينمائية الجورجية أحاول فهم خلفيات باكورة أفلامها
التي سحرت عدداً من المشاركين في التظاهرة المصرية الوليدة.
كانت هذه ثالث مرة يُعرض فيها “أم مخيفة”. انطلق الفيلم من
لوكارنو في آب الماضي (نال فيه جائزة العمل الأول)، ثم مرّ في ساراييفو
(فاز بالجائزة الكبرى)، قبل أن يحطّ في الجونة حيث كان ما كان. نحن إزاء
عمل بسيكولوجي يصوّر ربة منزل خمسينية تُدعى مانانا (أداء لافت لناتو
مورفانيدزه) تضع كتاباً يحرّك المياه الراكدة في حياتها ويثير حفيظة أهلها
ومحيطها ضمن مجتمع يمتلك بنوداً وسلوكيات خاصة به. يهيمن على الفيلم مناخ
القلق والريبة. تتطوّر الأحداث في جو من الضغط النفسي. هذا كلّه يشي بموهبة
أكيدة في صناعة #السينما والتعبير
من خلال لغة الصورة. “هناك مقالات إيجابية كُتبت عن الفيلم، ربما كتب أحدهم
نقداً سلبياً، ولكن لم أقرأه بعد”، تقول المخرجة وهي لا تعلم بعد أنّها
ستكون نجمة حفل الختام.
لا تأتي أوروشادزه من “العدم”. فوالدها المخرج الجورجي
المعروف زازا أوروشادزه، صاحب “تانجرينز” المرشح للـ”أوسكار” في فئة أفضل
فيلم أجنبي العام ٢٠١٥. مع ذلك، وجدتها لا ترتاح إلى فلسفة الأمور
وتحليلها، ولكنها ممتنة جداً للآخرين الذين يكتبون عن فيلمها تحليلاً
ونقداً واعجاباً. تشبّه المسألة بالطبخ، فمَن يطبخ لا يستمتع بالطعام الذي
طبخه. “أنجزتُ هذا الفيلم بغريزتي. أبتعد قدر المستطاع من النظريات
النقدية. ولكن بالتأكيد ثمة أشياء لا تأتي إلا بالتحليل، خصوصاً في فيلم
كهذا (…). أنجزتُ بعض الأفلام القصيرة قبل “أم مخيفة”. عندما تخرّجتُ،
باشرتُ كتابة السيناريوات. أول سيناريو كتبته لم يعجبني، فرميته. الثاني
رُفض. الثالث كان سيناريو فيلم قصير فرُفض هو الآخر، قررتُ أن أحوّله إلى
سيناريو فيلم طويل، وهكذا ولد “أم مخيفة”. تقدّمت به إلى المركز السينمائي
الجورجي، فقبلوه”.
أسألها: “هل نبشتِ في تجربتك الشخصية؟ يصيبها السؤال بشيء
من الهلع، كأنها تخشى ربط حياتها الشخصية بقصة مانانا، وبالتالي حمل الفيلم
إلى اتجاه آخر. “لا، اطلاقاً، اطلاقاً! صحيح أنّني أكتب على ذراعي كما
مانانا، ولكن أدون ملاحظات بسيطة، لا كما تفعل هي. التشابه بيني وبين
الفيلم يقتصر على تفاصيل صغيرة وعابرة. في المقابل، وضع الممثلون الكثير من
ذواتهم في الشخصيات التي اضطلعوا بها. أرسلتُ السكريبت إلى ناتو. ثم
ناقشنا. هي اقترحت بعض الأشياء، ما ولد المزيد من النقاش. تحقيق هذا الفيلم
كان عملية حية”.
ولكن، هل آنا أوروشادزه سينيفيلية؟ تقول إنّ أكثر شيء تندم
عليه في حياتها هو أنّها لم تستطع أن تشاهد الأفلام بقدر ما كانت تتمنى
لعدم توافر الوقت. الآن هي تحاول التعويض، فتشاهد على الأقل فيلماً واحداً
كلّ يوم، وتسعى إلى الحفاظ على هذا الإيقاع. وهل حبّ السينما هو الذي جاء
بها إلى الإخراج؟ “مممممم. أعتقد ذلك. لا أرى كيف يمكنك العمل في شيء
تكرهه. ولكنني أؤمن بأنه من الممكن إخراج فيلم من دون أن تشاهد الأفلام”.
أذكّرها بموريس بيالا الذي لا تعرفه. المخرج الفرنسي الكبير لم يكن مشاهداً
أكولاً. تعلمني أنّه من السهل جداً الإطلاع على الأفلام الأوروبية في
جورجيا. “لا أريد ان أعلن ذلك (ضحك)، ولكننا نشاهدها من طريق القرصنة
والتحميل”.
عن المراجع الاستيتيكية، تقول: “لم يكن في بالي أي مرجع.
بالتأكيد، ارتويتُ من ينابيع كثيرة خلال حياتي، ولكن قد لا يكون تأثيرها
ظاهراً في الشاشة بوضوح”. الموسيقى التي على قدر من الغرابة ألّفها جورجي
شاب يعيش في أمستردام (نيكا باسوري)، هذه أول مرة يعمل فيها على فيلم روائي
طويل... “عناصر كثيرة ساهمت في خلق مناخ الفيلم والتوتر الذي يرزح تحته،
منها الألوان الباردة والموسيقى. أعتقد أنّه خلط العناصر”.
النصّ قاتم وسلبي، على عكس ما تبدو عليه مخرجته في الحياة.
تخالفني الرأي، هي لا ترى الأمور من هذا المنظار!
نتحدّث عن الديكور الذي يعبّر عن انغلاق تام. الأفق بعيد
ضائع. انها تبليسي تحت ارث الهندسة السوفياتية. كيفما استدارت الكاميرا،
اقتحمتها المباني الشاهقة والكتل الاسمنتية. “هذا تعبير عن حال الشخصيات
النفسية. فالهندسة لها تأثيرها البالغ في الشخصيات، ووقع خياري عليها لهذا
السبب”. وعندما أصارحها عن شعوري بأنّ المساكن أشبه بسجون، وأحاول الانتقال
من هذا التفصيل لحالٍ أوسع يشكو منها البلاد، أجدها تضع حداً لهذا النقاش:
“هذا ما تشعر به الشخصيات، لا أنا”. فأوروشادزه ترفض أن ترى في ما تقدّمه
نقداً لجورجيا اليوم. تنبذ التعميم والاستنتاجات السريعة. كلّ ما أرادته
وفق تعبيرها هو سرد حكاية امرأة. البعض يرى فيها انعكاساً لجورجيا، ولكن هي
تصرّ أنّ الحال العامة ليست على هذا النحو. لا تحبّذ اعتبار مانانا استعارة
لجورحيا الحالية، خصوصاً أنّها سيدة تتمرّد على أوضاعها بعد سنوات أمضتها
تضحّي من أجل أسرتها. تقول: “انطلقتُ من قصة. مرةً أخرى، لا أنوي التعميم.
ولكن أعرف عيّنات اجتماعية عدّة: نساء لا يستطعن تحقيق أحلامهن. صوّرتُ
حكاية ربة منزل، زوجة تهتم بشؤون البيت. هناك لحظة في حياتها تقرّر فيها
القيام بشيء آخر. ولكن تفعلها على طريقتها الخاصة. هي تريد أن تكتب،
والكتابة تمنعها من التركيز على اهتماماتها العائلية، وهذا يحدث خللاً في
التوازن بين حياتها ككاتبة وحياتها كربة أسرة. فعليها أن تختار بين
الاثنين. لم أسعَ إلى تصنيف الأشخاص الذين يواجهونها بردّ فعل عنيف،
بالأشرار! ولكن الناس عادة ينظرون إلى الزوج كشخص عنيف وقاسٍ”.
تحضرني فكرة أنّ العنف تصاعدي في الفيلم، مبطن، يتغلغل
ببطء، لا يوجد فيه عنف جسدي. فتذكّرني بمشهد حرق الكتاب، وهي تضحك: “هذا
عنف جسدي جداً”. آه، صحيح، ولكن على مستوى آخر!
هناك شخصية محورية في الفيلم: صاحب المكتبة، جار مانانا،
المقتنع بعبقريتها.. يقدم لها كلّ الدعم المعنوي، إيماناً منه بأنّ الكتاب
الذي وضعته تحفة أدبية. أسألها: “هل تعرفين أحداً مثله في الحياة؟” تجيب:
“اطلاقاً. القصة هي التي فرضت وجوده. لم أستوحِ شخصياتي من ناس أعرفهم.
هؤلاء تشخّصوا فحسب”.
بالنسبة إلى المواقف الراديكالية التي يبلورها الفيلم، لا
تعرف مخرجتنا الواعدة بأيّ عين يجب أن تنظر إلى هذا الموضوع، “لأنني بدأتُ
للتو”. هي تجهل ماذا سيحصل في المرة المقبلة. بعد “أم مخيفة”، بدأت تكتب
سكريبتاً جديداً بأسرع ما يُمكن. “أحببتُ التصوير في ذاته. استمتعتُ بكلّ
لحظة. يمكنني القول إنّها كانت أجمل أيام حياتي. استغرق التصوير ٣٤ يوماً.
الموازنة كانت متواضعة، نحواً من ١٥٠ ألف دولار”.
قبل توقيف آلة التسجيل، أسألها: “أتعرفين لِمَ أجري هذه
المقابلة معك؟ لأنني متأكد أنّك ستصبحين في المستقبل سينمائية ذات أهمية،
وسأفتخر حينها أنّني حاورتك في بداياتك؟”. تضحك، ثم تعدني بأنها ستحاول، من
دون أن تقدّم لي أي ضمانة في هذا الصدد، فهي ليست متأكدة حتى من صحة
خياراتها. “عندما أشاهد “أم مخيفة”، أرى عيوباً أتمنى لو كنت قادرة على
تصحيحها. ولكنني إنسانة قدرية أؤمن بالحتمية، وبأن ما يحصل يجب أن يحصل.
أجد في هذا الشيء تناغم الفوضى".
"تناغم
الفوضى؟"، وجدتها! هذا عنوان لائق للمقال. أخبرها، فتصيح بكامل صوتها:
“إياك"! |