رأفت الميهي...عقل السينما المجنونة!
عصام زكريا
رحل مفكر السينما الأكبر.
لم يكن رأفت الميهي ( 25 سبتمبر1940- 24 يوليو 2015) مجرد واحد من
السينمائيين الذين تفرزهم صناعة السينما المصرية بالعشرات كل عام. بل واحدا
من مفكريها الكبار، أصحاب الرؤى الخاصة للفن والمجتمع والعالم.
بدأ حياته الفنية ككاتب سيناريو وقدم عددا من الأعمال التي تدرس في كيفية
كتابة الحبكة والصراع والتشويق والشخصيات السينمائية. انتقل إلى الإخراج
بداية من الثمانينيات، فأعاد صياغة السينما المصرية والصناعة والسوق بعدد
من الأفلام "المجنونة" كتابة وإخراجا وإنتاجا.
في سينما تخاصم التجريب والتجديد، لم يجد من يكتبون عن السينما المصطلحات
المناسبة لوصف ما يقدمه رأفت الميهي من أفلام.
"الفانتازيا"، السخرية، المسخرة، الكوميديا السوداء، العبث...من بين
الأوصاف التي أطلقت عليها للتعبير عما تحمله من اختلاف وقطيعة مع السينما
السائدة.
قدم رأفت الميهي ما يزيد قليلا عن عشرين فيلما، منها عشرة أفلام ككاتب
سيناريو فقط، قبل أن يتجه إلى إخراج وانتاج أعماله بنفسه. وهناك أكثر من
مدرسة وأسلوب في هذه الأعمال، كان آخرها ما أطلق عليه "الفانتازيا"، والتي
بدأت بفيلم "الأفوكاتو" عام 1984، ولكن سبقها محطات وتحولات عديدة.
كل هذه المحطات، والتحولات، تشكل عقل رأفت الميهي، مفكر السينما المصرية
وصاحب الرؤية الأكثر عمقا، وجرأة، وتجريبا، وتخريبا.
على هامش صناعة السينما المصرية عاش رأفت الميهي وقدم معظم أعماله. ولكن
هذا الهامش كان قويا لدرجة أنه أصبح مدرسة سينمائية متكاملة، تحسدها
الصناعة وتتعلم منها معنى أن تكون فنانا، وحرا، وناجحا.
حتى الموت الذي لا يقدر عليه أحد، خاض رأفت الميهي صراعا طويلا معه، قبل أن
يستسلم له مساء الجمعة الماضية، في ذكرى الثورة التي كتب عنها أفضل فيلم
تناولها على الإطلاق، وهو "غروب وشروق".
هكذا أحب أن أرى السنوات الأخيرة من حياة المخرج والسيناريست والمنتج
وأستاذ السينما الكبير، بالرغم من المعاناة والآلام الشديدة التي تعرض لها
طوال هذه الشهور والسنوات. الجسد كان قد استسلم بالفعل، ولكن الروح والعقل
كانا يواصلان المقاومة...ويسخران من الموت.
تصدى رأفت الميهي طوال حياته لعقبات ومشاكل ونظم
وقواعد قد تبدو للبعض أقوى من الموت. تحدى صناعة السينما المصرية السائدة،
فصنع أفلاما تغرد خارج السرب، اعتقد القائمون على الصناعة أنها لن تبقى في
دور العرض يوما واحدا، ولكنها حققت أعلى الايرادات في زمنها.
تحدى احتكار المنتجين فأصبح منتجا لنفسه، وتحدى أصحاب الاستديوهات فأصبح
مالكا، أو شبه مالك، لاستديو كامل يغنيه عن سؤال اللئيم.
خرج على المنظومة التعليمية التي تقدس المعهد العالي للسينما، وتمنع أي شخص
من العمل بالفنون إلا إذا تخرج أولا في أكاديمية الفنون، وأنشأ أكاديمية
خاصة تحمل اسمه، تخرج فيها العشرات.
انجازات كثيرة حققها رأفت الميهي. منذ البداية كان طموحه بلا حدود. لم يكتف
بأنه أصبح واحدا من أهم كتاب السيناريو في مصر قبل أن يكمل عامه الثلاثين.
في سن الخامسة والثلاثين كان قد كتب عشرة من أفضل سيناريوهات السينما
المصرية منها "غروب وشروق" 1970، "شىء في صدري"، 1971، "صور ممنوعة" 1972،
"غرباء"، 1973، و"على من نطلق الرصاص" 1975.
قرر أن يتحول إلى مخرج، بعد أن شعر أن أفكاره لا تخرج بالشكل الذي يتصوره
على يد المخرجين الآخرين. ثم قرر أن ينتج أفلامه حتى لا يتحكم فيها شروط
المنتجين.
خلال أربعين عاما من عمله كمخرج ومنتج لم يقدم سوى 12 فيلما كلها مميزة،
ومعظمها علامات في السينما المصرية، كان أولها "عيون لا تنام"، 1981،
وآخرها "شرم برم" الذي تعرض لمشاكل لا حصر لها، ولم يستطع فيه الميهي أن
يتغلب كعادته على فقر الانتاج وشروط السوق، لدرجة أن الفيلم لم يوزع ولم
ينزل إلى دور العرض ولو لأسبوع واحد.
وبعد النجاحات الكبيرة التي حققها رأفت الميهي والتي توجت بفوزه بالجائزة
الأولى من المهرجان القومي للسينما المصرية عن فيلمه " قليل من الحب، كثير
من العنف" عام 1995، والهرم الذهبي من مهرجان القاهرة السينمائي عن فيلمه
"تفاحة عام 1997، والاقبال الذي شهده استديو جلال، والنفوذ والسمعة الطيبة
التي اكتسبتها الأكاديمية التي تحمل اسمه، راح كل شىء يتراجع فجأة، وتغيرت
الدنيا من حوله بسرعة هائلة، فجاء التوتر، فالمرض، فمزيد من التراجع
والتوتر.. والمرض.
البداية...واقعية
مثل كثير من كتاب وفناني الستينيات بدأ رأفت الميهي حياته ممتلئا بالسياسة
والمعارك السياسية، وبالأفكار الاشتراكية السائدة، ومدرسة "الواقعية
الاشتراكية" أو "الواقعية الاجتماعية" التي تم الترويج لها آنذاك باعتبارها
أرقى ما وصل إليه الفن.
"جفت الأمطار" الفيلم الأول الذي حمل اسم رأفت الميهي ككاتب سيناريو، مأخوذ
عن رواية للأديب عبد الله الطوخي وأخرجه سيد عيسى، وهو ينتمي بوضوح لمدرسة
"الواقعية الاجتماعية" ويشبه في بناءه وفكرته كثير من الأفلام السوفيتية
التي تتحدث عن نضال الفلاحين وانتصارهم على الطبيعة في مجتمع اشتراكي
تعاوني.
مثل كثير من كتاب وفناني الستينيات أيضا انقصم ظهر رأفت الميهي بفعل هزيمة
يونيو 1967، بالرغم من أن آثار هذه الصدمة لم تظهر على الفور، ولكنها تأجلت
في كثير من الحالات عدة سنوات.
من الواقعية المتفائلة بقوة الدولة الاشتراكية إلى النقد السياسي الحاد،
غير المباشر، والمباشر، سرعان ما انتقل إلى العمل مع المخرج "الليبرالى"
كمال الشيخ في فيلمين متتاليين هما "غروب وشروق" 1970، و"شىء في صدري"
1971، ثم عمله في الفيلم القصير "صور ممنوعة- القصة الثالثة" المأخوذة عن
نجيب محفوظ وأخرجها مدكور ثابت، 1972، وهو فيلم جرىء ومختلف في فكرته
ومضمونه عن السينما التجارية الرائجة آنذاك.
من الجرأة السياسية إلى الجرأة الجنسية ينتقل رأفت الميهي في فيلمه التالي
كسيناريست "الحب الذي كان" مع المخرج علي بدرخان. وينتقل مع المخرج سعد
عرفة إلى مناقشة العلاقة بين السياسة والجنس باعتبارهما نتاج للثقافة
والعكس، من خلال فيلمه "غرباء" 1973، الذي يروي حيرة فتاة- بلد ضائعة بين
التحرر والتزمت. وهي الفكرة التي يطرحها بطريقة أخرى في فيلمه التالي
كسيناريست "أين عقلي" إخراج عاطف سالم
1974.
باستثناء سيناريو فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي"، إخراج حسام الدين
مصطفى 1974، والذي يعد نوعا من الدعاية الاحتفالية الطبيعية بانتصار أكتوبر
1973، والذي يحمل مع ذلك نقدا مبطنا للمسئولين عن الهزيمة...يواصل الميهي
نقده السياسي اللاذع في فيلميه التاليين "الهارب"، و"على من نطلق الرصاص"،
وكلاهما من إخراج كمال الشيخ، 1974، و1975.
بالنسبة لرأفت الميهي سوف نجد دائما أن النقد "الجنسي" جزء من نقده
السياسي، والعكس صحيح...وهي الفكرة التي نضجت بمرور الوقت مع تحوله إلى
مخرج. وبنفس الحماس الذي تصدى به للفساد والديكتاتورية في "الأفوكاتو"
و"سمك لبن تمر هندي"، سوف يتصدى للتمييز الجنسي ضد المرأة في "السادة
الرجال" و"سيداتي آنساتي".
يدرك رأفت الميهي أن الديكتاتورية السياسية هي انعكاس للذكورية الاجتماعية،
ولعل تلك هي الفكرة التي جذبته إلى رواية إحسان عبد القدوس "الرصاصة لا
تزال في جيبي"، المكتوبة قبل حرب أكتوبر، والتي تربط بين الاغتصاب الجنسي
والفساد المالي والديكتاتورية السياسية كمسببات بالضرورة للهزيمة العسكرية.
التحليق فوق الواقع
مع بداية الثمانينيات، ينتقل رأفت الميهي إلى الإخراج ليقدم فيلمه الأول
"عيون لا تنام" 1981، المقتبس عن مسرحية "رغبة تحت شجر الدردار"، للأمريكي
يوجين أونيل.
الفيلم نقد سياسي جنسي من الطراز الأول، يمكن وضعه مع "عودة الابن الضال"
ليوسف شاهين، في نظرتهما الشاملة للعلاقة بين القهر والكبت الجنسي وانفجار
العنف المميت.
بعد هذا الفيلم يغادر رأفت الميهي السينما الواقعية النقدية، لينتقل في
فيلمه التالي والفارق "الأفوكاتو" إلى التحليق بعيدا عن الواقع، أو بمعنى
أدق، إلى التحديق في الواقع بنظرة ساخرة عبثية، تجعل من الضحكات معاول هدم
وتفكيك وتخريب للأفكار السائدة الفاسدة.
بعد "الأفوكاتو" يعود الميهي في فيلمه التالي "للحب قصة أخيرة" ليضع كلمته
الأخيرة في النقد "الواقعي" للثقافة السائدة، المثقلة بالخرافة وكراهية
الحياة، ليحتفي بفكرة ممارسة الحب حتى الموت.
تنتمي أفلام رأفت الميهي منذ "الأفوكاتو" إلى الأسلوب السوريالي بوضوح. وهو
مصطلح فرنسي الأصل يعني حرفيا "فوق الواقعي". إذا كان الفنان الواقعي ينقل
صوره من الواقع، فإن الفنان السوريالي يستلهم صوره من انعكاس هذا الواقع
على ذاته. بمعنى أبسط: من أحلام يقظته ومنامه والخيالات والأفكار "الغريبة"
التي تنشأ في عقله نتيجة عدم استيعابه وعدم قبوله لما يحدث في الواقع.
في أفلامه التالية "السادة الرجال"، 1987، "سمك لبن تمر هندي"، 1988،
"سيداتي آنساتي"، 1990، يحلق الميهي عاليا فوق الواقع المصري المأزوم
والمنهار ليفكك ويخرب ويسخر من ثقافته وسياسته المتعفنة. ويصل مع فيلمه
"قليل من الحب..كثير من العنف" إلى تفكيك الفن السائد نفسه، باعتباره
مساهما أساسيا في ترسيخ التخلف.
يواصل الميهي في أفلامه "ميت فل"، 1996، و"تفاحة" 1997، و"ست الستات" 1998،
و"علشان ربنا يحبك" 2001، تفكيك المؤسسات الاجتماعية كالزواج، باعتبارها
النموذج الأصلي الذي تتمحور حوله البنى الاقتصادية والسياسية السائدة.
ويتحرر في هذه الأعمال تماما من قواعد الفن التجاري، والصياغات التقليدية،
ليصل اللعب والاستسلام لأحلام اليقظة إلى أقصى مدى ممكن.
هذا رجل عشق لعبة الحياة، وخاضها بابتهاج حتى النهاية، بالرغم من أن الحياة
لم تبادله هذا الابتهاج، وكشرت عن أنيابها الزرقاء الغليظة في سنواته
الأخيرة. |