ما الذي يبقى للإنسان حين ترحل ذاكرته؟ وهل الإنسان سوى
نقطة صغيرة لا تكاد ترى بالعين المجردة اسمها الذاكرة؟ وما الهوية إلا تلك
الرواسب التي تبقى في الذاكرة من تجربة الحياة؟
منذ نحو عام ترددت الأخبار عن إصابة عمر الشريف بمرض الألزهايمر، وعن
تفاقمه بشدة في الآونة الأخيرة، وعندما رحلت فاتن حمامة في بداية هذا العام
لم يظهر عمر الشريف في المشهد، ولكن قيل على لسانه ما قاله، أو ما تصور
البعض أنه يمكن أن يقوله في تلك اللحظة العصيبة.
خلال السنوات الماضية شهد عمر الشريف العالم الذي عرفه على مدى عمره، 83
عاما، وهو ينسحب ويتلاشى تدريجيا. أصعب شيء على المرء ليس موته، ولكن موت
العالم من حوله. كل الذين عرفهم تقريبا كانوا يغادرون. ليس هذا بالطبع سبب
إصابة عمر الشريف بالألزهايمر. لا يحتاج المرء إلى أسباب إضافية للمرض
والموت. الشيخوخة تأتى إذا لم يسبقها الموت، والشيخوخة تجلب الموت تدريجيا.
منذ لحظة ظهوره على كوكب الأرض كان عمر الشريف ممتلئا
بالحيوية وبالرغبة في مشاكسة العالم من حوله.
في مدرسته «فيكتوريا كوليدج» بالإسكندرية كان نجما وشخصية
معروفة منذ طفولته. حكايات كثيرة قيلت حول هذا الحضور الطاغي، الذي تكلل
بأن أصبح رئيسا لفريق التمثيل بالمدرسة.
وعلى عكس ما هو شائع عن صداقة المخرج الراحل يوسف شاهين
بعمر الشريف منذ أيام دراستهما في «فيكتوريا كوليدج»، يتذكر شاهين أنه شاهد
عمر ذات يوم في إحدى الكافيتريات، فلفت أنظاره على الفور وتقدم إليه عارضا
عليه اختباره في مجال التمثيل في فيلم جديد يقوم بإعداده.
تروى فاتن حمامة أيضا أنها تعلقت بعمر الشريف منذ اللحظة
الأولى التي وقعت فيها عيناها على الشاب الخجول الذي زارها بصحبة يوسف
شاهين لمناقشة مشروع فيلم «صراع في الوادي».
في كثير جدا من الحكايات التي تدور عن عمر الشريف، يمكن أن
نلاحظ هذا الحضور الطاغي، والمغناطيسية الهائلة التي تجذب العيون والمشاعر
والرغبات الحسية نحوه.
لقد كان يفيض بالحياة، وحتى في سنواته الأخيرة، والشيخوخة
تنحل عظامه ولحمه وبريق عينيه المميز، كانت جذوة النار التي تشتعل داخله
قوية لدرجة أنها تغطى على كل الموجودين حوله.
أتيح لى أن أشاهد عمر الشريف عدة مرات في مناسبات مختلفة،
وأن أشاهد غيره من نجوم السينما المحليين والعالميين، وأستطيع أن أزعم أنه
كان لعمر الشريف حضور من نوع خاص جدا. حضور لا يترتبط بصورته على الشاشة
مثل معظم النجوم، ولكن بحضوره في المكان واللحظة، وآرائه وتعليقاته ووجهات
نظره في الناس والأشياء من حوله.
دائما ما كان يبادر عمر الشريف بقول شيء مسل أو مضحك أو
مثير للجدل، وفى مرة أو أكثر كان حادا وعنيفا بشكل غير محتمل، وغير معتاد
منه.
هذه العصبية التي كانت تنتاب عمر الشريف في لحظات بعينها قد
تعود إلى الشيخوخة، وهى أيضا من الأعراض المبكرة لمرض الألزهايمر، ولكنها
كذلك من أعراض الحيوية الفائضة لديه. يمكن أن أقول، وفقا لما شعرت به
وقتها، إنها نتيجة اصطدام حيويته بالاكتئاب الناتج عن الوهن والعجز.
على الشاشة كانت حيوية عمر الشريف تشع بالحركة والجاذبية والتوتر. لم يكن
من الممثلين الذين يتحركون أو يصرخون كثيرا. فعل ذلك في بداية حياته الفنية
في مصر، ثم تعلم بعد ذلك أنه يحتاج إلى التحكم وليس الإفراط.
يستطيع عمر الشريف أن يفجر الشاشة بكلمة، بإيماءة، ونظرة
عين.
لقد ملأ حياتنا بالحياة، ومع أنه رحل، إلا أنه ترك جزءا
كبيرا من هذه الحياة على الشاشات، وهذه هي ذاكرة عمر الشريف التي لن تمحوها
الشيخوخة.
منذ اللحظة التي ظهر فيها الشاب ميشيل شلهوب، أو عمر الشريف
كما سيتسمى لاحقا، لأول مرة على الشاشة، وحتى آخر فيلم قام فيه بدور ثانوي،
وخليط من آهات الإعجاب وصيحات اللعنات تطارده.
لا يوجد نجم مصرى أو عربى حظى بما حظى به عمر الشريف من
نجاح، وثراء، وشهرة، وإنجازات فنية.
لا يوجد أيضا نجم مصرى تعرض للهجوم، والانتقادات، ولاحقته
الاتهامات، والشائعات، وحملات الكراهية التي وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة
أعماله، بل وتنفيذ هذه المقاطعة فعليا بشكل غير رسمى لسنوات...سوى عمر
الشريف.
المشاعر الملتبسة تجاه عمر الشريف سواء لدى الجمهور العالمى
أو لدى جمهور وطنه تحتاج إلى تحليل نفس- اجتماعى مسهب، وهذا ليس موضوعنا
اليوم.
أول ما أفكر فيه كلما دار الحديث عن عمر الشريف هو شخصيته
النادرة بين النجوم. هذه الثقة الهائلة بالنفس التي تجعله يبدو أحيانا أكثر
الناس بساطة وتواضعا، وتواضعه الجم الذي يصل أحيانا إلى حد الامتلاء بالذات
وعدم التفكير في الآخرين.
كل من ذاق طعم الشهرة وسبح في أضواء النجومية ونظر إلى
العالم من قمة جبل المجد يعرف أن أحدا تقريبا لا ينجو من تأثير هذه الحياة
الصعبة، وحين نضيف إلى ذلك طبيعة التجربة التي خاضها عمر الشريف بين
ثقافتين، وثلاث قارات، وعدة لغات، وفترة سياسية عصيبة، وتاريخ فنى ممتلئ
بالصعود والهبوط والانحناءات الحادة، فإن العجب ينتابنا بلا شك، من قدرة
عمر الشريف على احتمال ثقل هذه التجربة، والخروج منها منتصرا.
لم يفقد عمر الشريف نفسه في خضم المعارك التي تندلع ولا
تتوقف حوله... أو ربما فقدها لبعض الوقت، أكثر من مرة، ولكنه سرعان ما كان
يستعيدها مثلما يستعيد مساحاته المفقودة على الساحة الفنية بعد كل تراجع أو
اختفاء فنى يتعرض له.
ولد عمر الشريف المثل السينمائى عملاقا، بطولة منذ اللقطة
الأولى مع يوسف شاهين، وأمام فاتن حمامة، في فيلم «صراع في الوادي». وفى
أقل من خمس سنوات كان قد تزوج فاتن وأصبح من كبار نجوم السينما المصرية،
ومثل الصاروخ الذي يتحرك لأعلى سرعان ما أصبح واحدا من أشهر نجوم العالم
عندما شارك في بطولة «لورانس العرب» للمخرج البريطانى ديفيد لين.
في لمح البصر صعد عمر الشريف إلى القمة، وفى لمح البصر أيضا
بدأ رحلة الهبوط. بعد «لورانس العرب» انتهى تقريبا مستقبله الفنى في مصر
ووقع في مصيدة إحدى الشركات الأمريكية الكبرى التي وقعت معه عقد احتكار في
مقابل ملاليم، ولم تسنح له فرصة للظهور في أفلام على نفس مستوى «لورانس»
لسنوات.. وكان ديفيد لين هو الذي أنقذه مرة أخرى عندما اختاره لبطولة فيلم
«دكتور زيفاجو». ومنذ ذلك الحين وحياة عمر الشريف الفنية تصعد وتهبط على
طريقة «الدنيا مثل المرجيحة... يوم تحت ويوم فوق».
مثل سيزيف، الذي حكمت عليه الآلهة بحمل الصخرة إلى أعلى جبل
الأوليمب لتسقط ليحملها من جديد، تراوحت حياة عمر الشريف بين الصعود
والهبوط، فكلما وصل إلى قمة نزل عنها مسرعا ليضطر إلى البدء من جديد، ليس
فقط في المجال الفني، ولكن في الحياة. دوره في «فتاة مرحة» أمام باربرا
سترايسند جلب له المتاعب في أمريكا ومصر. في أمريكا هاجمه اليهود المتعصبون
وفى مصر اعتبروه خائنا لأنه لعب دور يهودى وأمام ممثلة متعصبة لإسرائيل،
وعوقب بالكراهية والمقاطعة لسنوات.
الثروة التي جمعها من مجموعة من الأفلام الناجحة ضاعت فجأة
ذات يوم عندما انهارت البورصة الفرنسية التي كان يستثمر فيها أمواله.
حتى عندما عاد لمصر في بداية الثمانينيات ليلعب ثلاثة من
أفضل أدواره في أفلام «أيوب» و«الأراجوز» و«المواطن مصري»، تراجع فجأة
واختفى لسنوات طويلة قبل أن يعود ثانية. ومرة أخرى بعد أن وصل إلى إحدى
قممه المتأخرة في فيلم «السيد إبراهيم وزهور القرآن» اضطر إلى الهبوط مرة
أخرى ليؤدى بعض الأدوار قليلة الشأن.
هذه الأزمات جعلت من عمر الشريف رجلا زاهدا، أكثر تسامحا
وتقبلا لما تأتى به الحياة مهما كان. في لقاءاته الأخيرة سمعته مرة يتحدث
عن مهنة التمثيل باعتبارها شيئا تافها مقارنة بالأجور الباهظة التي يحصل
عليها الممثلون. لا أحد مثل عمر الشريف يمكنه أن يكون على هذه الدرجة من
إنكار الذات.
في مرة أخرى سمعته يتحدث عن فيلم «بداية ونهاية»، الذي لعب
فيه دورا ممتازا مع كوكبة من كبار الممثلين مثل سناء جميل وأمينة رزق وفريد
شوقي. ولكنه حين أتى ذكر الفيلم لم يشد سوى بصلاح منصور الذي أدى أصغر دور
في الفيلم، مؤكدا أنه الوحيد الذي مثل جيدا وأن الباقين كلهم لم يكونوا على
مستواه. وجهة نظر لا تكشف فقط عن تواضع عمر الشريف ولكن عن ملكة نقد
ميكروسكوبية صقلتها السنين.
قد تجد في كلمات عمر الشريف وآرائه حدة أو غرابة، ولكن
المؤكد أنك لن تجد فيها زيفا أو ادعاء أو محاولة لإخفاء شيء يخجل منه. في
المرات القليلة التي استمعت فيها إليه في جلسات خاصة، أو خلال جلسات سمعت
عنها، فإن عمر الشريف هو واحد من أصدق الناس الذين يمكن أن تلتقى بهم. إنه
فخور بما أنجزه بنفس قدر اعترافه بالأشياء التي فشل فيها.
لا أحد غير عمر الشريف يمكن أن يعترف في شيخوخته، وهو الرجل
الذي صاحب أجمل نساء العالم، وعشقته معظم نساء العالم، بأنه لم يحب أحدا في
حياته سوى فاتن حمامة، التي لم يعش معها سوى سنوات قليلة، قبل أن ينفصلا
بلا عودة. وهو حين يقول ذلك تسود صوته نبرة حزن وندم تشعر معها بأنه ربما
كان يتمنى لو أنه لم يغادر مصر ولا فاتن، ولم يحقق كل ما حققه من أفلام
وأموال وغراميات!
مفتاح شخصية عمر الشريف في تصورى هو اللعب. إنه ينظر إلى
الحياة ويتعامل معها كما لو كانت لعبة، أو فيلما يمثل فيه. الدنيا بالنسبة
له، كما قال شكسبير، ليست سوى مسرح كبير، وكل الناس ممثلون يلعبون أدوارهم.
التمثيل بالنسبة لعمر الشريف لعبة، أما الحياة فهى تمثيلية. ليس سرا أن عمر
الشريف من عشاق لعبة البريدج، وأنه ضيع أموالا طائلة وسنوات طويلة في لعب
البريدج.
يبدو عمر الشريف في معظم الوقت فوضويا إلى حد اللامبالاه
بأى شىء، وكرمه اللامحدود غالبا ما يؤدى به إلى الإفلاس!
لكن عمر الشريف له جانبه المظلم أيضا، وأسوأ ما في هذا
الجانب هو أن عدميته كانت تتحول أحيانا إلى قسوة مبالغ فيها ضد الآخرين.
في مذكراته «في غير محله» يروى المفكر إدوارد سعيد، زميل
عمر الشريف في مدرسة «فيكتوريا كوليدج» في الإسكندرية، كيف أن الصبية
الأصغر، وسعيد منهم، كانوا يتعرضون لمزاح ميشيل شلهوب الثقيل وتعذيبه لهم
طوال الوقت. يستطيع عمر الشريف أن يكون قاسيا جدا، وقد شهدت إحدى نوبات
قسوته ذات يوم عندما راح يعذب مذيعة شهيرة بكلمات مهينة وجارحة لأكثر من
ساعة. نوبات عمر الشريف العصبية طالما ورطته في مشاكل عديدة، وقد قام بضرب
شرطى أوربي ذات يوم وحكم عليه بغرامة باهظة، ومنذ سنوات قليلة شهدت وسائل
الإعلام إحدى نوبات غضبه المفاجئ عندما قام بصفع صحفية حاولت الحصول منه
على صورة فوتوغرافية.
النجومية لم تستطع أن تجعل من عمر الشريف مغرورا، أو رجل
أعمال وإدارة ناجح يستطيع أن يدير موهبته ويجيد توظيفها، كما لم تستطع أن
تجعل منه شخصا أكثر حكمة وقدرة على التحكم في انفعالاته وجموحه الفطري.
وهذا الجموح طالما جلب عليه المتاعب، والمتاعب الكبيرة أحيانا. هو شخص لا
يستمع سوى إلى صوته. لا يخشى الرأى العام كما لا يخشى التعبير عن آرائه
بصراحة.
لا أعلم ما الذي كان يفكر فيه عمر الشريف في شيخوخته
المتأخرة، حيث يقال إن مرض الألزهايمر قد تمكن منه.
شيء مؤسف لو أنه لم يستطع أن يتذكر حياته الممتلئة، أو
يتعرف على صورته في الأفلام معتقدا أنها لشخص آخر.
الرجل الذي يعرفه ويبجله معظم سكان الكوكب هل يمكن أن يأتى
يوم لا يستطيع فيه أن يتعرف على نفسه؟
إنها سخرية الأقدار مرة أخرى، التي دأبت على منحه كل شيء،
لتنزع منه كل شيء! |