القاهرة | أصاب خبر رحيل فاتن حمامة (27 مايو 1931- 17 يناير 2015) جمهورها
بالصدمة تماماً مثلما تنفرط حبات عقد لؤلؤ نادر. إنّها أيقونة الرقة
والجمال والرومانسية في السينما المصرية والعربية. الوسط الفني أصابته
فاجعة هو أيضاً، خصوصاً أنّ الخبر باغت النجوم الذين توافدوا أول من أمس
على عزاء المنتج الأشهر محمد حسن رمزي. وهناك علموا بالنبأ، فتحوّل سرادق
العزاء إلى ما يحاكي المشاهد السينمائية. بعضهم ينفي الخبر غير مصدق،
وآخرون يتواصلون بالهواتف الخليوية للتأكد، خصوصاً أنّ النجمة الكبيرة كانت
تستعد للمشاركة في اليوبيل الفضي لكاتبها المفضل إحسان عبد القدوس الذي
أقيم أمس في «مؤسسة روز اليوسف». احتفال كان يتضمن معرضاً لملصقات الأفلام
التي قدمتها عن روايات للأديب الراحل. رحلت فاتن، أو «سيدة الشاشة العربية»
أو «وجه القمر». انطفأت بصمت وبهدوء. كانت تمارس حياتها بشكل طبيعي. يوم
السبت، تناولت الغداء وقالت لزوجها محمد عبد الوهاب: «أنا داخلة ارتاح شوية»
وفق ما تروي ابنة شقيقها نادين حمامة. لكنها للأسف لن تستيقظ مرة أخرى.
الصدمة أربكت كل من حولها. ابنها طارق من النجم عمر الشريف، ونادية من عز
الدين ذو الفقار، كانا يوجدان في أوروبا ورتبا للعودة سريعاً للحاق
بالجنازة. وبنفس عذوبة دخولها عالم الفن والسينما، رحلت بهدوء بعدما أوصت
المقرّبين لها بأنّها لا ترغب إطلاقاً في إقامة مراسم العزاء، حرصاً على
عدم إزعاج أحد. شوط طويل قطعته تلك الطفلة البريئة، صاحبة الضحكة المميزة،
والابتسامة التي تأسر القلوب. بدأت مشوارها صغيرةً حين فازت بمسابقة أجمل
طفلة في مصر. يومها، أرسل والدها الرجل الليبرالي صورة لها إلى المخرج محمد
كريم الذي كان يبحث عن طفلة تمثّل مع محمد عبد الوهاب في فيلم «يوم سعيد»
(1940). أبهرت الطفلة التي جسّدت دور» أنيسة» كل من شاركوا في العمل بدءاً
من «موسيقار الأجيال»، واستطاعت خطف الكاميرا من كبار النجوم. سريعاً، أبرم
محمد كريم عقداً مع والدها ليضمن مشاركتها في أعماله المستقبلية. بعد 4
سنوات، استدعاها مجدداً للتمثيل أمام عبد الوهاب في «رصاصة في القلب»
(1944). ومع فيلمها الثالث «دنيا» (1946)، استطاعت حجز موضع قدم لها في
السينما المصرية، وانتقلت العائلة من مدينة المنصورة في محافظة الدقهلية
(قلب الدلتا) إلى القاهرة تشجيعاً للفنانة الناشئة، وإيماناً بموهبتها.
هناك، دخلت حمامة المعهد العالي للتمثيل.
جمعت بين البراءة والغواية في شخصية «آمنة» في فيلم
«دعاء
الكروان»
بعد تجاربها المتعددة، التقطها المخرج والفنان يوسف وهبي الذي أدرك حجم
الموهبة المختبئة خلف تلك الملامح البريئة. طلب منها تمثيل دور ابنته في
«ملاك الرحمة» (1946). وبهذا الفيلم، دخلت مرحلة جديدة هي الميلودراما.
كانت تبلغ آنذاك 15 سنة فقط. بدأ اهتمام النقاد والمخرجين بها، وشاركت
مجدداً في التمثيل إلى جانب يوسف وهبي في «كرسي الاعتراف» (1949). في السنة
عينها، أدت بطولة «اليتيمتين» و»ست البيت» (1949) اللذين حقّقا نجاحاً
كبيراً على صعيد شباك التذاكر، حتى صارت واحدة من أهم نجمات السينما
المصرية. إلا أنّ المخرجين والمنتجين حصروها في أدوار الفتاة البريئة
والرقيقة المظلومة دائماً، والضحية في أحيان أخرى.
زاد تألق فاتن حمامة في الخمسينيات... العصر الذهبي للسينما المصرية. مرحلة
شهدت موجات جديدة في الإخراج سمِّيت بالواقعية. ذلك التيار فرض نفسه بقوة،
وكان من أبرز رموزه المخرج صلاح أبو سيف. كانت فاتن ذكية في التقاط هذا
التحوّل، فأدركت أنّها يجب أن تطور نفسها، وتنوع اختياراتها، وأتيح لها ذلك
بفضل علاقاتها وصداقاتها القوية بكبار رموز الثقافة في ذلك الوقت، من أدباء
ومفكرين. كانت قارئة نهمة وعاشقة للأدب، وأدركت كمّ التحول الذي يشهده
المجتمع سياسياً، وبالتالي فنياً. من هنا تعاونت مع صلاح أبو سيف، وجسدت
بطولة «لك يوم يا ظالم» (1952) الذي يعدّ من أوائل الأفلام الواقعية وشارك
في «مهرجان كان السينمائي». بعدها، تعاونت مع المخرج الذي كان في بداية
مشواره وقتها يوسف شاهين (1926 ـ 2008)، ولم تخش كونه مخرجاً يقدم أولى
تجاربه في فيلم «بابا أمين» (1950) الذي حصد إشادات نقدية واسعة. لذلك لم
تتردد في تكرار التجربة معه في فيلم «صراع في الوادي» (1954) الذي كان
منافساً رئيساً في «مهرجان كان». كذلك، شاركت في أول فيلم للكمال الشيخ
«المنزل رقم 13» الذي يعتبر من أوائل أفلام الإثارة عام 1952، فيما حصلت
على جائزة أفضل ممثلة من «وزارة الارشاد القومي» عن دورها في الفيلم
السياسي «لا وقت للحب» (1963).
جاء التحول الدرامي في مشوارها حين جسدت دور نادية بطلة رواية «لا أنام»
(1957) لإحسان عبد القدوس. فتاة مليئة بمشاعر متناقضة كثيرة، تغلبها رغبة
محمومة في إيذاء كل من حولها. وقتها كانت حمامة تحضّر جمهورها لهذا التحول
الذي كانت تعمل بجهد ودأب على تغييره في مشوارها، إذ كانت تعتبر الأدب
مرجعها الأساسي في تقديم سينما مختلفة، بعدما جمعها بالكاتب إحسان عبد
القدوس عدد من الأفلام منها «لا تطفئ الشمس» لصلاح أبو سيف، و«إمبراطورية
ميم» و«لا أنام» و«الطريق المسدود» و«الخيط الرفيع» وغيرها. قال الراحل
إحسان عبد القدوس بأنّها «من الممثلات اللواتي استطعن أن يجدن تمثيل شخصيات
قصصي. استطاعت أن تصور خيالي عندما مثلت دور «نادية» في فيلم «لا أنام»،
ودور «فايزة» في فيلم «الطريق المسدود». وأذكر أنّي ذهبت يوماً أنا ويوسف
السباعي إلى الاستديو أثناء تصوير مشاهد من «لا أنام» ووقفنا مشدوهين ونحن
ننظر إلى فاتن حمامة. فقد كانت تشبه البطلة الحقيقة للقصة التي كتبتها».
رغم هذا النجاح والتمرد في ملامح الشخصيات التي جسدتها، إلا أنّها كانت
ترغب في الخروج نهائياً من «التيمات» التي قدمتها بشكل نمطي في بداياتها،
مع مخرجين أمثال محمد كريم، وحسن الامام، وعز الدين ذو الفقار.
تيمات رومانسية جعلتها واحدة من أهم أيقونات الجمال والرومانسية في السينما
المصرية والعربية، ونموذجاً لفتاة الأحلام بجسدها النحيل وملامح وجهها
شديدة الرقة وعينيها الصافيتين. إلا أنها في الوقت نفسه كانت تملك ذكاء
فنياً واجتماعياً، جعلها تدرك حجم التغييرات التي كانت ترهص في المجتمع
المصري، وبالتأكيد تنعكس على الجمهور. لذلك، قدمت أدواراً نوعية صارت
علامات فارقة في تاريخها وواصلت تمردها في أفلام أخرى منها رائعة طه حسين
«دعاء الكروان» (1959) في شخصية «آمنة» المدهشة التي تجمع بين البراءة
والغواية وكانت ترغب في الانتقام لشقيقتها هنادي. دور حمل تغييراً جذرياً
في مشوار النجمة الكبيرة التي فاجأت جمهورها وقدمت واحداً من المشاهد
الجريئة التي لا تنسى حيث كانت آمنة تقف في حجرة «الباشمهندس» وهو يحاول
جذبها تجاهه، فتتمنع وترد بدلال «لا لا يا سيدي لا لا يا سيدي»، وتجري منه.
إنّه من مشاهد الإغراء القليلة التي قدمتها حمامة في مشوارها. لكنها فعلت
ذلك مطمئنةً إلى النتيجة بفضل ثقتها بالمخرج المبدع هنري بركات. وإذا كانت
آمنة الصعيدية ذات تركيبة درامية معقدة تبحث عن ثأر شقيقتها، فإنهّا جسدت
دور عزيزة في فيلم «الحرام» (1965) عن نص بديع للكاتب الكبير يوسف ادريس.
فلاحة مطحونة تعاني القهر على جميع المستويات مع زوج عاجز أقعده المرض.
زوجة لا تعرف سوى العوز وتقع في «الخطيئة» وتنجب طفلاً، لا تملك رفاهية
الاحتفاظ به، فتقتله وتلقي به في إحدى المزارع. برعت حمامة في تقديم أحد
أصعب مشاهدها في الفيلم وهي تلد طفلها، وكيف جسدت معاناة امرأة وقعت في
«الرذيلة» من دون أن تصرخ خوفاً من أن ينكشف سرّها وتفضح.
أما شخصية نعمت في «أفواه وارانب» (1977) مع المبدع هنري بركات أيضاً، فهي
من الشخصيات التي كسرت بها حمامة الصورة النمطية والتقليدية. تألقت مع
المخرج الذي كانت تعتبره رفيق دربها، وتثق بكل ما تقدمه معه. وكما قدمت
الأفلام الاجتماعية والسياسية، لم تتردد في بداية مشوارها في تقديم
الكوميديا مع المخرج فطين عبد الوهاب في «الأستاذة فاطمة» (1952).
لكن المفاجأة الكبرى لجمهورها كانت في «الخيط الرفيع» (1971) لبركات أمام
محمود ياسين. هنا، جسّدت دور منى السيدة التي تصادق من يمنحها أكثر، إلى أن
تتعرف إلى المهندس الشاب (محمود ياسين) وتقع في غرامه وتترك كل شي لخاطره،
وتساعده في مشواره حتى يحقق نفسه مهنياً. لكن عندما يفكر في تأسيس حياة
كمعظم الرجال الشرقيين، سيختار زوجة يرضى عنها المجتمع. لذلك تصرخ قائلة:
«يا ابن الكلب» وهي تمزق ملابسه بعدما هجرها وتزوج بأخرى.
واصلت حمامة تألقها واختياراتها الفنية المختلفة، مع مخرجين جدد منهم
الراحل سعيد مرزوق الذي قدمت معه واحداً من أجمل أدوارها في «أريد حلاً»
(1975) الذي جرى تغيير بعض قوانين الأحوال الشخصية بسببه، وتحديداً ما
يتعلق بالمرأة التي لم تنجب ويطلقها زوجها، فلا يصبح من حقها الاحتفاظ
بمسكن، وأيضاً جسدت دور الأرملة المسؤولة عن إعالة أبنائها رغم الظروف
القاسية في «يوم مر ويوم حلو» (1988). هذا الفيلم قدمته مع مخرج شاب وقتها
من رموز الواقعية الجديدة هو خيري بشارة، وبالجرأة الفنية نفسها، فيما لعبت
بطولة فيلم «أرض الأحلام» (1993 ـ داود عبدالسيد) مع النجم يحيي الفخراني.
لم تكن مجرد نجمة في سماء الفن أو أيقونة من أيقونات الجمال والرقة. فاتن
حمامة حالة فريدة ومتفردة في تاريخ السينما، استطاعت تغيير شكل المرأة
العربية وصورتها النمطية.
عمر الشريف لم يلحق «حبيبة العمر»
علا الشافعي
القاهرة
| لم
يمهل القدر عمر الشريف لرؤية المرأة التي يعتبرها حبيبة عمره رغم الانفصال.
الفنان الذي قرر أخيراً الاستقرار في القاهرة، أشار إلى أنّ أمنيته الوحيدة
بعد عودته إلى العاصمة المصرية هي أن يرى حمامة، فـ «نفسي أكلمها وأشوفها
وما زلت أحبها، وبيني وبينها مودة وعشرة عمر، وقدمنا معاً أعمالاً كثيرة،
وأنا أقول دائماً «كل شيء نصيب».
كانت قصة حبهما أشبه بالقصص الكلاسيكية الرومانسية الخالدة. كانت حمامة
السبب في دخول الشريف مجال التمثيل بعدما رفضت وجود شكري سرحان كبطل أمامها
في فيلم «صراع في الوادي» (1954). وبما أنّ الشريف كان زميلاً للمخرج يوسف
شاهين، عرض عليه الأخير الدور فوافق. اللافت أن حمامة كانت معروفة بعدم
تأديتها مشاهد القبل، إلا أنّها كسرت تلك القاعدة أمام عمر الشريف، لتبدأ
من هنا قصة حبهما وزواجهما (1955) الذي استمرّ حتى عام 1974 وأثمر عن
ابنهما طارق.
قدمت حمامة مع الشريف مجموعة كبيرة من الأعمال الكلاسيكية التي ما زالت
حاضرة بقوة حتى الآن. أفلامهما معاً تصنّف كأفضل أعمال سينمائية رومانسية
في تاريخ هوليوود الشرق المصرية أشهرها على الإطلاق «نهر الحب» (عن رواية
تولتسوي «آنا كارنينا») و»سيدة القصر» و»أيامنا الحلوة».
وداع يذكّر بجنازات العمالقة
أحمد جمال الدين
القاهرة
| في
مشهد أعاد إلى الأذهان جنازات العمالقة مثل أم كلثوم، وعبد الحليم حافظ،
ودّع الآلاف فاتن حمامة أمس في جنازة خرجت من «مسجد الحصري» في منطقة 6
أكتوبر في القاهرة. الآلاف شاركوا في توديعها أمس إلى مثواها الأخير. كبار
وصغار، أطفال وشيخ اجتمعوا على وداع نجمتهم، رغم الزحام الشديد وتوقيت
الجنازة بعد صلاة الظهر. بعضهم خرج من عمله مبكراً، والآخر قرر الحصول على
إجازة للمشاركة في توديع صاحبة «نهر الحب».
وصل الجثمان من منزلها في ضاحية التجمع إلى المسجد قبل صلاة الظهر بوقت
قصير. احتشد المئات لحمل الجثمان الملفوف بالعلم المصري، بينما كان لافتاً
الوجود السياسي الرسمي قبل الفني، إذ حضر رئيس لجنة الخمسين السياسي عمرو
موسي، ومندوب عن الرئيس عبد الفتاح السيسي ووزير الثقافة جابر عصفور الذي
أعلن حداداً رسمياً لمدة يومين ينتهي اليوم في جميع قطاعات الوزارة.
الجنازة شهدت فوضى عارمة خلال نقل الجثمان من المسجد إلى السيارة التي
ستنقله إلى مثواه الأخير في مقابر العائلة في منطقة 6 أكتوبر. التدافع
والزحام غير المسبوق في المسجد أديا إلى سقوط السلَّم الذي يصعد عليها
المصلون واهتزاز النعش تحت أكتاف حامليه الذين انقذوه من السقوط سريعاً.
وشارك في الجنازة عدد كبير من الفنانين، منهم محمود ياسين وزوجته شهيرة
ونجله عمرو، ميرفت أمين، دلال عبد العزيز، رجاء الجداوي، نيللي كريم، منال
سلامة، هند صبري، خالد النبوي، حسين فهمي، فاروق الفيشاوي، وإلهام شاهين
التي كانت تبكي بحرقة، ونيللي كريم التي انهمرت بالبكاء حزناً على رحيل
مكتشفتها.
أيقونة زمن التنوير والأحلام والمقاومة
سيد محمود
القاهرة
| في
زمن صناعة الأخبار وقوة مواقع التواصل الاجتماعي، احتاج المصريون لأكثر من
ساعتين ليصدقوا نبأ وفاة فاتن حمامة بعد 84 سنة عاشتها كلها نجمةً مدللة.
كأن جمهورها ـ عبر هذا التردد والإنكار ـ أراد التمسك بزمانها، فيتأكد فيه
شعور بـ «اليتم». هي «أيقونة» الزمن الذي صنعت مصر فيه كل شيء. قاومت
الاستعمار، وقادت الأمة العربية بكاملها إلى الأحلام، وجعلت التنوير فعلاً
لا شعاراً. لم يكن المسار الذي جاءت منه فاتن بعيداً من المسارات التي كان
يتقدم منها طه حسين وتوفيق الحكيم وأم كلثوم وبعد هؤلاء جميعاً محمود أمين
العالم ولويس عوض وصلاح عبد الصبور ويوسف ادريس ونجيب محفوظ.
مسار يمكن تلخيصه بكلمة «النهضة» التي تحمل عبء ترسيخها أبناء الطبقة
الوسطى الذين مثلتهم فاتن خير تمثيل. هي الممثلة التي لم يرتبط نجاحها بـ
«الفضيحة» ولم تؤطر لمكانتها بالتورط في خطابات ادعاء الفضيلة.
لم يكن جسدها على الشاشة جسداً مستباحاً، بل ظل في حالة مراوغة حلمية.
اختفى وراء «غلالة» من الشجن جعلته جسداً عزيزاً. حتى إنّ أول قبلة لها على
الشاشة كانت للرجل الذي اختارته زوجاً بعد ذلك بأشهر قليلة وهو عمر الشريف.
رغم ذلك، يصعب وصفها بـ «الممثلة المحافظة». وبتعبير الراحل يوسف ادريس في
مقال عنها انتقد إصرارها على أداء أدوار المرأة الضعيفة «هي ليست من ممثلات
الجنس، لكنها من ممثلات العطف».
لا أحد بإمكانه اليوم أن يعرف الانحيازات السياسية التي حكمت مسارها
الشخصي. لكن الجميع يعرف انحيازها لحسن «الاختيار»، فلم تنزلق إلى اختيار
رديء يُرخص موهبتها ولا إلى مستنقع السياسة، ولم تتورط إيديولوجياً. اقتنعت
بأنّ حضورها أكبر من أن يهدى لأي نظام. ربما تحدثت مرات قليلة عن حنينها
إلى زمن الأرستقراطية الجميل في مصر الملكية. لكنه لم يكن اكثر من حنين
لجمال تم تجريفه، ولم يدفع بها هذا الحنين للتورط في خصومة سياسية مع عصر
عبد الناصر الذي أنصف الفقراء وعاونت بأعمالها تمجيد هذا الانحياز كما فعلت
في مجموعة من الأفلام الاستثنائية مثل» الحرام» أو «دعاء الكروان» و«لا وقت
للحب»، «الباب المفتوح». أفلام أعطت للمرحلة الناصرية «شرعية سحرية»
استمدتها من «تأثير الشاشة البيضاء وفاعليتها. ولم تتخل في أدوارها خلال
عصر السادات عن نبرتها القوية في مواجهة الانفتاح كما «أفواة وارانب» أو
«ليلة القبض على فاطمة» بل غامرت في الانحياز لنموذج المرأة المقاوم كما في
«امبراطورية ميم» وفي «ضمير أبلة حكمت» انطلاقاً من ايمان بالمسؤولية
الاجتماعية للفنان. إنّه الالتزام لا الانخراط والتورط.
تعلمت كثيراً من صديقها المقرب الصحافي أحمد بهاء الدين الذي كان بوصلتها
في اختيار أغلب أدوارها، وهو أيضاً أكثر كتّاب عصرها تأثيراً في شخصيتها.
اتسمت مواقفه بالوضوح من دون مغالاة أو توتر، وكتابته بالأناقة الأسلوبية
والمعرفة العميقة. وهكذا فعلت فاتن. أرادت دائماً أن تؤدي من «العمق»،
فاستحقت لقب «سيدة الشاشة العربية». لقب يوازي اللقب الذي نالته أم كلثوم
وهو «الست» الذي يشير إلى قوة التأثير والنفوذ أكثر من أي شيء آخر. في
مسيرتها، لم تتورط في صراعات حول ألقاب وأدوار، ولم تزعجها أبداً حالة
الإعجاب الشعبي بأنوثة سعاد حسني الحارقة أو طبقة «الانكسار» في أداء ماجدة
الصباحي ولا يقظة نادية لطفي لأنها كانت تدرك مكانتها كـ «أيقونة «بالمعنى
الديني. صورة تشع نوعاً نادراً من الإيمان. في مسيرتها، اكتفت دائماً بنبرة
دفء في صوتها تكفلت بإشاعة طمأنينة لازمت حضورها في الذاكرة المصرية حتى
يوم وداعها الأخير.
وقفت فاتن على مسافة واحدة مع الجميع إلا سعيها لتكون في «أناقة دائمة»
تلائم الزمن الذي تألقت فيه. الزمن الذي لازم صعود المرأة المصرية وانزوت
في زمن حوصرت فيه المرأة بـ «ذهنية التحريم»
الشرق الذي عشقها حتى العبادة
محمد
خير
القاهرة
| قلة
من الفنانين تحبس الأنفاس لحظة رحيلهم، ويقطع التلفزيون بثه من أجلهم،
وترسل الرئاسة نعيها ـ وإن من خارج البلاد- إلى ذكراهم. وقلة أكثر ندرة من
الفنانين يحوزون كل ذلك وقد تقادمت آخر أعمالهم إلى ما قبل 15 أو 20 سنة.
غابوا عن الشاشات ولم يغيبوا عن الخاطر. قلة قليلة جداً تلك، التي يصير
رحيلها حدثاً عارماً يطغى على كل الأخبار الأخرى ـ وهي كثيرة ومروعة ـ
فيشعر الناس أن عالمهم بعد هذا الفنان أصبح عالماً آخر، ويبدأون عدّ آخر من
تبقى لهم من «الزمن الجميل» بقول، أو العالم القديم بقول آخر.
وفاتن حمامة، هي بالطبع كل ما سبق. الموهوبة المجتهدة الجميلة، الموعودة
بالمجد منذ الطفولة، حتى أنها لم تحتج إلى أن تخترع لنفسها اسماً فنياً
كعادة الفنانين. كان اسمها (فاتن أحمد حمامة) مميزاً منذ البداية. لم يتطلب
سوى حذف الأحمد المتوسطة، ليصير علامتها التي لم تتغير منذ دورها طفلة في
«يوم سعيد» (1940) لمحمد كريم، إلى دورها أماً كبيرة في «أرض الأحلام»
(داود عبد السيد ـ 1993). وفي دورها الأخير ذاك، اصطنعت لثغة ناسبت عناداً
طفولياً ميّز شخصية «نرجس»، كأن النصف قرن أعادها إلى نقطة البداية. ذلك
الأداء الطفولي المرح الشجي كان تنويعة أخرى على موهبتها، كأنما تبرهن عن
قدرتها على تغيير الأداء الوقور لشخصيتها القيادية في «ضمير أبلة حكمت»
(1991)، مسلسلها الأول، ذو النجاح منقطع النظير بأوراق أسامة أنور عكاشة،
وقد تصاغر أمامها حتى نجم بقدر أحمد مظهر، تماماً كما جرى للنجم الآخر أحمد
رمزي بعد عشر سنوات في مسلسلها الثاني والأخير «وجه القمر» (2000) الذي
استراحت بعده نهائياً حتى رحيلها.
غادرت مصر خمس سنوات بسبب مضايقات «عصر المخابرات» في نهاية الستينيات
لا يشير إلى صعوبة الإحاطة بمشوار «السيدة» سوى حقيقة أن كل السطور السابقة
لم تدخل بعد حتى إلى صلب مشوارها، إلى أدوارها الكبرى في «دعاء الكروان»
و»الحرام» و»الباب المفتوح»، «إمبراطورية ميم» و»أريد حلا» و»الخيط
الرفيع»، «صراع في الوادي» و»سيدة القصر» و»نهر الحب»، «لك يوم يا ظالم»
«وأيامنا الحلوة»، و«المنزل رقم 13»، و»لا أنام»... قائمة تخطت المئة بخمسة
أفلام يتنافس فيها الكم والكيف. وفي الاحتفال بمئوية السينما المصرية عام
1996، اختار النقاد قائمة أهم 100 فيلم مصري، وعلى أساسها، اختاروا، أفضل
مخرجين والممثلين والكتاب، بحسب عدد المرات التي ورد فيها اسم كل مبدع في
القائمة.
ليست مفاجأة أن تصدرت فاتن حمامة قائمة الفنانات برصيد 8 أفلام، زادت في ما
بعد إلى 18 حين زيدت القائمة المئوية إلى 150. والمفارقة أنّ لفاتن قصة
تروى مع شكري سرحان، مفادها ـ حسب الرواية الشهيرة ـ أنها رفضته لدور
البطولة أمامها في «ًصراع في الوادي» (1954)، فأتى المخرج (الشاب) يوسف
شاهين بصديقه وابن مدرسته السكندري عمر الشريف، الذي صار بطلاً ثم حبيباً
وزوجاً ثم طليقاً. أما شكري سرحان، فبعد 40 سنة، عاد ليكرم أمام فاتن حمامة
بوصفه «أفضل ممثل في تاريخ السينما» في القائمة نفسها. غير أن العلاقة
بينهما لم تكن «ًخصومة». بين فيلم الخمسينيات وتكريم التسعينيات، قدما أحد
أهم أفلامهما «ليلة القبض على فاطمة»، آخر أفلام فاتن مع هنري بركات، وهو
فيلم آخر لم تتضمنه قائمة المئوية، كدلالة على ندية القائمتين، قائمة فاتن
وقائمة النقاد.
لكن بالابتعاد من لغة القوائم والأرقام التي لا تفيد إلا قليلاً في شأن
الإبداع، يبرز حوار اختفى عشرات السنوات وعاد ليظهر مجدداً على مواقع
الانترنت. إنّه تسجيل قديم لفاتن من عام 1964 مع إحدى المحطات الفرنسية.
تسجيل كأنه نافذة لجمهور اليوم إلى عصر «السيدات»، النجمات الفاتنات
الرقيقات اللواتي –رغم أنهن كفاتن نفسها – لم يتحدرن من أصول برجوازية،
يتحدثن الفرنسية بطلاقة وبلا ارتباك. في الحوار، تقول فاتن إنّ أهم ما
واجهته في مشوارها الأول، هو نظرة المجتمع السلبية إلى الفنان، خصوصاً
الفنانة، وكيف تغيرت النظرة تدريجاً «وصار الفنانون يحظون بالتقدير. كثير
من الفتيات اليوم رغبن في العمل في السينما» تقول فاتن ذلك للمذيع الفرنسي
وتتواضع، فلا تقول إنّها في مقدمة من صنع ذلك التغيير، لكن الفرنسي يبدو
عارفاً بقدرها، يصفها بينما تتمشى على شاطئ البحر بأن «الشرق يعشقها حتى
العبادة».
نالت فاتن كل التكريمات الممكنة في ذلك الشرق، ونالها بعض من مضايقات «عصر
المخابرات» أيضاً في نهاية الستينيات، فغادرت مصر لسنوات خمس عادت عام 1971
لتؤدي فوراً، فيلماً بعد آخر، وتطلق رصاصة اجتماعية تلو أخرى. هي السيدة
تارة والفلاحة تارة والعاملة البسيطة تارة. هل ذكرنا «أفواه وأرانب»؟ «يوم
حلو ويوم مر»؟ «الأستاذة فاطمة»؟ «الطريق المسدود»؟ لم تعمل فاتن في المسرح
أبداً، وعملت مرتين فقط في التلفزيون، فهي إذا سيدة الشاشة السينمائية،
أعظم الشاشات.
تكاد تنكسر كلما أطلّت على الشاشة
عبد
الرحمن جاسم
لا شيء يعجّل في نهاية الأزمنة أكثر من رحيل الكبار. تسترعي فكرة الزمن
الجميل الانتباه دوماً، فهي أشبه بثيمةٍ مدهشةٍ لدى رحيل أحد الأعمدة لأيّ
فنٍّ عموماً، فكيف إذا كان هذا الفن هو الفن السابع: السينما. رحلت فاتن
حمامة التي لقّبت بالجميلة التي تكاد تنكسر كلما أطلت على الشاشة، وأعطيت
لقب «سيدة الشاشة العربية»عن جدارة. وكانت قد ابتعدت عن الشاشة، حارمةً
جيلاً بأكمله من إطلالتها ومقدرتها الفذة على العطاء. هو خيارها لا شكّ،
لكن الخسارة كانت أكبر برحيلها المفاجئ كي يبدأ هذا العام بحزنٍ كثير.
لربما لم يُشاهد كثيرون فيلم «يوم سعيد» (إخراج محمد كريم)، وهو أوّل فيلمٍ
لفاتن (في دور الطفلة أنيسة عام 1940). الفيلم الذي تقاضت عنه جنيهاً
واحداً كان بوابتها إلى العالم السينمائي الذي ستضحي من رموزه لاحقاً.
والدها أحمد، كان يعشق السينما وكان يأخذها لمشاهدة السينما معه. ربما كان
يشعر بأهمية ابنته وموهبتها، لذلك سمح لها بالمشاركة في مسابقة لاختيار
أجمل طفلة مصرية. هذا الأمر أهّلها للمشاركة مع محمد عبد الوهاب الذي كان
«نجم شباك» وقتها.
كان فيلم «موعد مع الحياة»
سبباً في إطلاق لقب «سيدة الشاشة العربية»
أعجب بقوّة شخصيتها ليعود بعد أربع سنواتٍ طالباً منها أن تشارك في فيلمه
«رصاصة في القلب» (إخراج محمد كريم وكتابة توفيق الحكيم) دور شقيقة الممثلة
راقية إبراهيم. أجرُ فاتن تحوّل من جنيهٍ إلى خمسين بين فيلمين فقط. هذا
التصاعد في أجرها، سيظلّ مواظباً معها فيلماً بعد فيلم. جاء بعد ذلك دور
النجم يوسف وهبي لترشيحها لتشارك في فيلم «ملاك الرحمة» (كتابة وإخراج يوسف
وهبي ـ 1946) الذي عزّز حضور الصبية الموهوبة. كل ذلك وهي لم تدخل بعد
«كلية سينما» أو تدرسها (عادت ودخلت معهد التمثيل ضمن دفعته الأولى مع
نجومٍ كبار على غرار فريد شوقي، وشكري سرحان).
ارتفع أداء فاتن كثيراً خلال السنوات التي تلت. كانت تعاني خللاً بسيطاً في
نطق الراء (كانت تلفظها غيناً)، لكن سرعان ما تجاوزت هذه المشكلة عبر تدريب
مكثّف من المخرج الراحل زكي طليمات (1894 - 1982). امتاز أداؤها في المرحلة
الأولى من حياتها الفنية بتجسيد دور الفتاة المسكينة والضعيفة. سرعان ما
تنبّهت إلى أنه مستهلك وسيقتل مهنتها سريعاً، لتخرج من تلك العباءة ببداهةٍ
وحذاقة، فقدّمت شخصيات شديدة الاختلاف والتميّز. في عام 1952، قدّمت فيلمها
«الأستاذة فاطمة» (كتابة علي الزرقاني وإخراج فطين عبد الوهاب) مع النجم
كمال الشناوي. أدّت الراحلة دور الفتاة القادمة من عائلة متوسطة الدخل،
تقرّر فتح مكتب محاماة خاص بها، لكنها تفشل لعدم ثقة المجتمع الذكوري
بمحامية لتعود وتنجح في نهاية الفيلم. بعدها بعامين، أي في 1954، قدمت فيلم
«صراع في الوادي» (كتابة حلمي حليم وإخراج يوسف شاهين)، وكان يجمعها بزوجها
–لاحقاً- عمر الشريف. أدت شخصيةً غير اعتيادية لابنة الباشا التي تتعاطف مع
الفقراء والمساكين وتعمل لأجلهم. شارك الفيلم لاحقاً في «مهرجان كان
السينمائي». ولأنه لا بدّ من أن يكون هناك سبب خلف الألقاب، فقد كان فيلم
«موعد مع الحياة» (كتابة وإخراج عز الدين ذو الفقارـ 1953) سبباً في إطلاق
لقب «سيدة الشاشة العربية»، إذ وصلت بحسب الصحف آنذاك إلى قمّة مجدها كنجمة
شباك.
ولا يمكن الحديث عن عام 1955، إلا بتذكر فيلمها «أيامنا الحلوة» (كتابة
إخراج حلمي حليم) الذي جمعها مع الثلاثي عمر الشريف، عبد الحليم حافظ،
وأحمد رمزي. حقّق الفيلم نجاحاً باهراً، خصوصاً لجهة الرقة والعذوبة اللتين
أظهرتهما في رسم الشخصية الرئيسية. ولأن الحرفة تدفع الفنان بعيداً عن
دائرة الراحة، اختارت فاتن واحداً من أصعب الأدوار في فيلمها «لا أنام» (عن
قصة الكاتب إحسان عبد القدوس وإخراج صلاح أبو سيف) عام 1957، فأدّت شخصية
الفتاة التي تعيش عقدة «الكترا» النفسية، فتعبث بحياة والدها في تملكٍ خاص.
وفي العام الذي تلاه، أصرّت على أن تعيد إلى الواجهة قضية الزواج العبثي من
خلال دورها في «سيدة القصر» (كتابة حسين حلمي المهندس وإخراج كمال الشيخ)
مع زوجها آنذاك عمر الشريف، عن زوجٍ مستهتر يهوى النساء، فيتزوّجها ليُرضي
غروره رامياً إياها في القصر. أما عام 1959، فقد شهد نضجها الفني على كل
الصعد. يومها قدمت «دعاء الكروان» (إخراج هنري بركات وكتابة طه حسين) الذي
صنّف في المركز السادس ضمن قائمة أفضل مئة فيلم مصري عبر التاريخ. كانت
الشخصية معقدة للغاية. استطاعت حمامة أن ترسم الصراع بين أن تكون قاتلة
مغتصب شقيقتها، وبين أن تكون حبيبته. أتى بعد ذلك فيلم «نهر الحب» (إخراج
عز الدين ذو الفقار) عام 1961، مقتبساً عن قصة الروسي ليو تولستوي «آنا
كارنينا». حاولت فاتن تعريب البطلة وتشريقها، وفي هذا نقاشٌ كبير عن نجاحها
في ذلك أو لا. كان فيلم «الخيط الرفيع» (إخراج هنري بركات وكتابة إحسان عبد
القدوس - 1971) نقلةً نوعيةً في حياتها. قصةٍ شديدة التعقيد، وأداء مختلفٍ
عن معتادها، فكانت المرأة اللعوب، والقوية، المسيطرة التي تصنع الرجل، ثم
تحطمه. كان الفيلم من أوائل لقاءاتها بمحمود ياسين التي ستتكرّر أكثر من
مرةٍ في ما بعد. تبع ذلك فيلم «إمبراطورية ميم» (إخراج حسين كمال 1972) عن
قصة لإحسان عبد القدوس مجسّدةً دور امرأة تحاول تربية أطفالها من دون زوجها
في إطارٍ كوميدي مرح. وفي الأجواء نفسها، قدّمت فيلمها الرومانسي الأجمل
«حبيبتي» (إخراج هنري بركات وحوار عبد الحي أديب ـ 1974 أمام محمود ياسين)
الذي صوّر في بيروت، فكانت شخصية الفتاة التي تكذب. ورغم هذا، أحبّها
الجمهور وتعلّق بها. عادت فاتن لترفع المستوى أكثر من خلال دورها في فيلم
«أريد حلاً» (إخراج سعيد مرزوق ـ 1975) الذي طرح قضية الطلاق والظلم الذي
يواجه المرأة في حياتها الزوجية وكيفية تعامل القانون معها. ورغم أنها
قدّمت دور الحبيبة أمام محمود ياسين قبل ثلاث سنوات فقط، عادت وقدّمت دوراً
أكثر صعوبة أمامه في «أفواه وأرانب» (كتابة سمير عبد العظيم وإخراج هنري
بركات) فجسدت ابنة القرية في علاقتها الملتبسة بعائلتها وبابن الباشا.
شهدت ثمانينيات القرن الماضي خفوتاً في نشاط «سيدة الشاشة العربية»، لكن
ذلك لم يحدّ من نجوميتها شيئاً. قدمت رائعتها «ليلة القبض على فاطمة»
(إخراج هنري بركات ـ 1984) عن قصة سكينة فؤاد في شخصية امرأة تساعد
المقاومة وشقيقها بشكلٍ عرضي، لتقابل بالجحود والنكران من قبله. صورت حمامة
بعد ذلك فيلمها «أرض الأحلام» (كتابة هاني فوزي وإخراج داود عبد السيد)
الذي عُدّ الأقل مهارةً بين أفلامها، ولو أنّها ظلت تحتفظ بذلك الصوت
الخلاب والحضور المهيب بين الجمهور، إلا أن ضعف العمل ككل أدّى إلى فشله
رغم انتظاره طويلاً من قبل عشاقها وعشاق السينما. ترحل فاتن حمامة، تاركةً
إرثاً كبيراً لعشاق الفن السابع، وهو الأمر الوحيد الذي يجعل الفراق أقل
وطأةً.
مجدلية أخرى وحارسة الأمل
خليل صويلح
دمشق
| صنعت
فاتن حمامة تاريخها بميزان صائغ، وإزميل نحّات، وسيرة قديسة. لن نجد أخطاء
المبتدئات في هذه السيرة، أو ما يمكن أن يجرح حضورها الاستثنائي. كأنّ
الشاشة تواطأت معها، منذ اللقطة الأولى لتلك الطفلة التي ظهرت في فيلم «يوم
سعيد» أمام محمد عبد الوهاب (1940)، في تشييد التاريخ الموازي لممثلة
متفرّدة لا يشبه تاريخ الأخريات من جيلها.
حينها، كانت السينما المصرية وما زالت تضع شروطها الصارمة في تغيير الجلد
الأصلي للممثلة، وخلع «الفضيلة» جانباً، لمصلحة إغواء الصورة، وعطش شبّاك
التذاكر للذّة. التواطؤ الجماعي في إنشاء أيقونة حيّة، أبعدها عن صخب
الشوارع الخلفية للسينما ومباذلها، لذلك لم تكن يوماً، في موقع الاشتهاء.
إنها مجدلية أخرى، وحارسة الأمل التي تعيش بيننا، وتبارك لنا بهجة الحياة
برجاحة العقل، من دون أن تلوّث ذاكرتنا بآثام الخطيئة. هذا لا يعني أن فاتن
لم تجسّد أدوار العاشقة في سينما الغرام، ولكنها لم تسمح لنا بأن نقبض
عليها متلبّسة بما يتجاوز حدود الحشمة، حتى تلك القبلة اليتيمة في فيلم
«صراع في الوادي» مع عمر الشريف، انتهت بزواج دام سنوات.
أسست لسينما قضايا مع تأصيل نبرة تعيد الاعتبار إلى الكائن البشري المضطرب
في عاطفته
هكذا رسمت السينما المصرية خرائطها بدقّة، فوضعت فاتن في الضفة المضادّة
لممثلة إغواء على غرار هند رستم (1931 - 2011)، في معادلة حاسمة لرجاحة
العقل هنا، وسيولة العاطفة هناك، أو المزج بينهما، في أفلام أخرى، كما في
«دعاء الكروان»، و»الحرام»، و»أفواه وأرانب» على سبيل المثال. ولكن، ما
كانت هذه الممثلة البارعة لتنجو من مخالب «مصنع الأحلام»، لولا تلك الموهبة
الفذّة وحسن إدارتها خطوة وراء خطوة، من دون انزلاقات تطيح البوصلة الصحيحة
في خياراتها الصارمة. على مدى أكثر من نصف قرن، تجوّلت بين عشرات الشخصيات
تحت إدارة مخرجين من أجيال مختلفة، لتبقى بصمتها هي، أكثر من توقيع مخرجي
أفلامها، نظراً إلى ارتباط مسيرتها بمشروع سينمائي رصين، وليس مجرّد أدوار
سينمائية متنافرة. لنقل إنّ فاتن أسست لسينما قضايا في المقام الأول،
بالإضافة إلى تأصيل نبرة إنسانية عميقة تعيد الاعتبار إلى الكائن البشري
المضطرب في عاطفته، قبل أن يغرق في متاهة العوز، وقبل أن تصفعه الحياة بما
لا يرغب في خسارته، أو فقدانه، كما في فيلم «يوم حلو ويوم مرّ» مع خيري
بشارة، وفيلمها الأخير «أرض الأحلام» مع المخرج داود عبد السيد.
في موازاة هذا الرقي في خياراتها، ظلّت حياتها الشخصية بمعزل عن الشائعات
والاتهامات والأسرار، بما يتوافق مع مكوّنات الأيقونة التي نسجتها بخيوط من
حرير حضورها في الذاكرة الجمعية، من دون أن تغادر الواجهة، رغم احتجابها عن
الشاشة منذ سنوات. لعلّ ما قالته يوماً، يختزل صورتها «حجاب المرأة هو
عقلها، وعندما يهترئ ذلك الحجاب، يهترئ معه شرفها، حتى لو تبرقعت بالحديد».
هذه نجمة عنوانها الشرف بمعناه الأعمق.
المشهد الأخير من حياة «سيدة القصر»
محمد عبد الرحمن
القاهرة
| «نجمة
القرن»، لقب اختارته الصحف المصرية فور إعلان رحيل فاتن حمامة. أما لقبها
الأثير «سيدة الشاشة العربية»، فما زال مؤثراً بالتأكيد، لكن «نجمة القرن»
بدا وصفاً صائباً لفنانة امتد عطاؤها لأكثر من 75 عاماً. ظهرت الفنانة
المصرية للمرة الأولى على الشاشة في فيلم «يوم سعيد» (1940) أمام موسيقار
الأجيال محمد عبد الوهاب، وهي لم تبلغ التاسعة بعد، فيما رحلت في الـ 84 من
عمرها.
على مدى أكثر من سبعة عقود، هي عمرها الفني، ظلت فاتن حمامة تعرف جيداً متى
تقف تحت الأضواء ومتى تغيب عنها. حتى إنها اختارت بنفسها أن تُطفئ الأضواء
بعيد رحيلها، فأوصت بعدم إقامة عزاء لها، لتكون جنازتها التي أقيمت أمس
الأحد من «مسجد الحصري» في مدينة السادس من أكتوبر، بمثابة المشهد الأخير
من حياة «سيدة القصر». وهذا هو اللقب الثالث لفاتن المستوحى من أشهر
أفلامها مع زوجها الثاني عمر الشريف.
المصريون الذين تلقوا صدمة رحيل حمامة المفاجئ رغم أخبار تردي حالتها
الصحية أخيراً، لم يودعوا فقط نجمة سينمائية كبيرة تركت عشرات الأفلام التي
دخل منها 18 ضمن قائمة الأفلام الأفضل في تاريخ السينما المصرية، بل أيضاً
فنانة بقيت تمثل وجهاً للمرأة المصرية، وربما المجتمع بأكمله في القرن
العشرين. هكذا لم يعد من الحكمة تقويمها كممثلة ومقارنتها بنجمات أخريات،
وخصوصاً بعد أفلام مثل «دعاء الكروان»، و«الباب المفتوح»، و«أريد حلاً»،
و«الخيط الرفيع»، نجحت في تجسيد كل زوايا قضية المرأة العربية من دون
استثناء. هذا هو رأي النساء أنفسهن في فاتن حمامة، بينما عدّها الرجال
المرأة النموذج، التي ارتدت تاج الأنوثة من دون أن توفر لمشاهديها أياً من
تلك المشاهد التي تتصف بالجرأة.
بقيت تمثل وجهاً للمرأة المصرية، وربما المجتمع بأكمله في القرن العشرين
فاتن حمامة لم تعكس صورة المرأة المصرية وتطور قضاياها طوال القرن العشرين
فحسب. لقد عبرت أيضاً عن أهمية وجود المسافة اللازمة بينها وبين السلطة.
عام 1966 اضطرت للإقامة خارج مصر، للابتعاد عن ضغوط الاستخبارات المصرية
حينها ــ بقيادة صلاح نصرــ من أجل المشاركة في عمليات سرية. حاول جمال عبد
الناصر إعادتها مرة أخرى ووصفها بأنها «ثروة قومية»، لكنها لم ترجع إلى مصر
إلا بعد وفاته بعام كامل. ارتبطت بعدها بصداقة مع جيهان السادات، وشاركت في
لقاءات عدّة مع الرئيس أنور السادات، لكنها لم تحسب عليه أبداً. ولم تحسب
أيضاً على خلفه حسني مبارك، الذي لم تخفِ تعاطفها معه ولا إيمانها بثورة
الشباب ضده في الوقت نفسه، مثلها كأي مصري متقدم في السن كان خائفاً على
مستقبل البلاد ومعترفاً بأزماتها.
وكما كان متوقعاً، التزمت حمامة الصمت طوال فترة حكم الرئيس المعزول محمد
مرسي، قبل عودتها من جديد لتشغل المساحة التي تستحقها عندما كرمها الرئيس
المؤقت عدلي منصور في حفلة عيد الفن في آذار (مارس) 2014. ثم حضرت لقاء
المرشح الرئاسي وقتها عبد الفتاح السيسي مع الفنانين. في ذلك اللقاء، لفت
توجه السيسي إليها الانتباه، وحدها من بين كل النجوم، لتحيتها حيث تجلس.
حادثة زادت من شعبية وزير الدفاع السابق حينئذ، وأكد مكانة فاتن حمامة في
قلوب جميع المصريين.
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر
| MhmdAbdelRahman@
«أبلة
حكمت» حالة فاصلة بين "يَمَنَين"!
جمال جبران
صنعاء
| نجح
خبر رحيل فاتن حمامة في إلهاء ناشطين يمنيين كُثر على فايسبوك، ولو قليلاً،
عن دائرة الجدال والملاسنات المذهبية التي غرقوا فيها أخيراً. اكتست
المساحة اليمنية على الموقع الأزرق بالحزن، كما لو أن رحيل «وجه القمر»
يمّسهم في خانة خاصة من ذاكرتهم وأحوالهم الشخصيّة القديمة، كان لسيدة
الشاشة حيّز أثير فيها.
جاء الخبر كمناسبة لاسترجاع ذلك الزمن الصنعانيّ الجميل، أيّام كانت
المدينة تمتلك صالات للعرض السينمائي كانت تتيح للنّاس مقابلة أعمال نجوم
السينما المصريّة المعشوقة، التي شكّلت فاتن حمامة وجهاً مميزاً فيها. لم
تكن بعض تلك الصالات تكتفي بعرض الجديد على شاشاتها فحسب، وهي المرحلة التي
انتهت بعرض فيلم «أرض الأحلام» (1993)، بل كانت تتيح عرض قديم صاحبة «صراع
في الوادي» ومختارات من مراحلها السينمائية المختلفة. هذه الفترة سبقت هبوط
المرحلة الظلامية الدينية على البلاد التي أعلن أصحابها حربهم على دور
السينما في العاصمة في سائر المدن اليمنيّة الرئيسية، ونجحوا في ختم
أبوابها بالشمع الأسود. على هذا ارتبطت صورة سيدة الشاشة في ذاكرة النخبة
اليمنيّة بفترة مدَنية أنيقة، تم إزهاق روحها بتوافق دينيّ ورسمي حكومي.
هكذا انفتح الكلام على صفحات فايسبوك ليصل إلى مرحلة ارتبطت بتوقيت عرض
مسلسل «ضمير أبلة حكمت» (1992) على شاشة التلفزيون الحكومي، وهي المساحة
الصغيرة والفتحة اليتيمة في ذلك الوقت التي كانت تسمح للناس بمتابعة جديد
الدراما العربيّة. يعدّ هذا المسلسل الأول لفاتن حمامة في مشوارها على
الشاشة الصغيرة من بين عملين وحيدين. جاء توقيت عرضه حينها في سياق مرحلة
يمنية فاصلة بدأ فيها ظهورعلامات الانهيار الكبير على كافة المجالات.
انهيار سيأتي بشكله النهائي لاحقاً نتيجة لعقلية النظام السياسي اليمني
السابق وكيفية تعامله مع الهيكل التعليميّ وإصراره على إهانته وتسفيهه
ليبلغ المرحلة التي وصل إليها اليوم. على هذا، تستدعي صورة «أبلة حكمت»
وضميرها اليوم، فترة غصّت بشخصيات يمنية تعليمية كانت قادرة على رفض
السياسات الهادفة إلى المّس بقدسية العملية التعليمية، عبر تعيين قيادات
على هرم المراكز التربويّة لا تتمتع بمؤهلات ولا ميزات علمية سوى قوة
ارتباطها برأس النظام الحاكم وجهازه الأمنيّ. لقد كانت مرحلة تحتوي على
نماذج كثيرة كــ«ابلة حكمت»، باستطاعتها قول كلمة «لا» أمام النظام الحاكم
وإيقافه.
وبالتوازي مع هذا السياق، ذهب النقاش حول خبر رحيل صاحبة «أريد حلاً»
لينفتح على مساحة لاستذكار الفترة التي كان فيها التعليم والجهاز التربوي
كياناً مقدّساً لا يجوز المساس به أو الاقتراب منه أو التدّخل في شؤونه.
كان ذلك قبل أن ينجح نظام علي عبدالله صالح السابق في تفكيكه وجعله كياناً
هشّاً وهزيلاً تحت قيادة عناصر أمنيّة، بدءاً من إدارة المدارس، وصولاً إلى
رئاسة الجامعات الحكومية. مع هذا النقاش، استعادت «أبلة حكمت» سيرتها
يمنيّاً على الفايسبوك، وظهرت كحالة فاصلة بين مرحلتين في حياة أهل اليمن
الحزين وإشارة إلى كميّة الانهيارات التي حصلت لهم خلالها. كأنهم هنا
يقومون ـ عبر «ضمير» فاتن حمامة وصورتها ـ باستعادة تلك القيمة المفقودة من
ذلك الزمان.
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر
| @jimy36@
بنت الأستاذ
ولدت فاتن حمامة في 27 أيّار (مايو) عام 1931 في حي عابدين في القاهرة،
علماً بأنّ مكان ولادتها المسجّل في الأوراق الرسمية هو مدينة المنصورة في
محافظة الدقهلية. والدتها هي زينب توفيق وكانت ربّة منزل، أما والدها فهو
أحمد حمامة، الذي كان من كبار موظفي وزارة المعارف (وزارة التعليم)، ولديها
ثلاثة أشقاء هم: منير، وليلى، ومظهر. حين اصطحبها والدها وهي في سن مبكرة
جداً إلى سينما «عدن» في المنصورة لمشاهدة أحد أفلام آسيا داغر وسمعت
التصفيق الحار، بدأ حلمها بأن تكون ممثلة. وعندما قرأ الوالد إعلاناً في
إحدى الصحف يطلب ممثلة طفلة لدور أمام الموسيقار محمد عبد الوهاب، أرسل
صورة فاتن. وبالفعل، سافرت إلى القاهرة وشاركت في فيلم «يوم سعيد» (1940 ــ
إخراج محمد كريم). رفض أحمد حمامة عروضاً سينمائية عدّة تلقتها ابنته عقب
هذا الدور، حرصاً على مستقبلها الدراسي، إلى أن أقنعه كريم مجدداً بأن
تشارك في فيلمه الجديد «رصاصة في القلب» (1944)، ليُشاهدها يوسف وهبي
ويقدمها في فيلم «ملاك الرحمة» (1946) ثم في «القناع الأحمر».
بعدها، التحقت «سيّدة الشاشة العربية» بـ«المعهد العالي للسينما» في دفعته
الأولى التي افتتحها زكي طليمات وحازت منه لاحقاً شهادة في التمثيل. في
العام نفسه، تزوّجت المخرج عز الدين ذو الفقار، مقدمة معه مجموعة من
الأفلام الناجحة. ثمرة الزواج الذي استمر حتى عام 1954 كانت ابنة تُدعى
«نادية». ويُقال إنّ أحد أبرز أسباب الانفصال كانت القبلة التي جمعتها
بالنجم عمر الشريف خلال أوّل إطلالة سينمائية له في «صراع في الوادي» (1954
ــ إخراج يوسف شاهين). عام 1955، تزوّجت بالشريف وكوّنا معاً ثنائياً
مميزاً على الصعيدين الشخصي والمهني، كما أنجبا ابنا يُدعى «طارق»، لينفصلا
بعد أكثر من عشر سنوات من دون الكشف عن السبب الحقيقي. هنا، يُذكر أنّ عمر
الشريف لطالما عبّر عن حبّه للراحلة، وقال ذات مرّة: «ما زلت أحبّها، وأكن
لها كل تقدير واحترام، وسأظل أحبها. فهي أم ابني الوحيد، ومن أعز الناس إلى
قلبي. كانت سنوات زواجنا من أحلى ما عشته طوال حياتي، لكن شاءت الأقدار أن
ننفصل. أنا سعيد لأنّنا انفصلنا ولا يوجد في قلب أي منّا بغض للآخر». بعد
«لورنس العرب»، عادت حمامة وارتبطت بالطبيب محمد عبد الوهاب محمود الذي بقي
زوجها حتى آخر يوم في حياتها.
صدمة ونعي افتراضي
رحيل فاتن حمامة الهادئ، ولّد صدمة كبيرة في مصر. هكذا، تولت المواقف التي
عبّر خلالها المشاهير عن حزنهم الكبير على هذا الرحيل الناعم كوجهها. نعي
الفنانة الراحلة أتى من أعلى المراكز السياسية بدءاً من الرئيس عبد الفتاح
السيسي، مروراً بالأمين العام لـ«الجامعة العربية» نبيل العربي الذي وصفها
بـ«القيمة العظيمة التي ساهمت في تشكيل الارتقاء بالوعي العربي».
كما نعاها الأمين العام السابق للجامعة عمرو موسى على تويتر: «كانت دائماً
تعبّر عن أجمل ما فينا، وتنشر الحب والجمال حيثما ذهبت». ولعلّ الشهادة
الأكثر تأثيراً، هي تلك التي أدلت بها الفنانة شريهان عبر حسابها على
فايسبوك، مشيرةً إلى أنّ ما حصل «فقدان للقيمة الإنسانية والإبداعية»،
مستذكرة طفولتها والعلاقة المميزة التي كانت تربطها بالراحلة. الفنانة
اللبنانية ماجدة الرومي، ودّعت حمامة على طريقتها من خلال الشعر: «رحلت
فاتنة كل دار/ ووجه القمر وتوأم الإبداع ووردة الخلود/ رحلت فاتنتنا
جميعاً». الممثلون المصريون يسرا، وإلهام شاهين، وعزّت العلايلي، وأحمد
بدير وغيرهم، قدّموا العزاء بدورهم إلى الشعب المصري والعربي. «كانت تتمتع
بحس إنسانى ليس له مثيل، فكانت تحتوي الجميع برومانسيّتها المعهودة،
والطيبة التي لا تغادر قلبها»، قالت شاهين، فيما استذكرت سميرة عبد العزيز
التي شاركتها مسلسل «ضمير أبلة حكمت» بساطتها وتواضعها. من جهتها، بدا على
الفنانة القديرة ناديا لطفي التأئر، إذ قالت في حديث تلفزيوني: «كانت فاتن
حمامة حلماً تحطم اليوم برحيلها». لبنانياً، نعت نانسي عجرم وهيفا وهبي
«سيّدة الشاشة العربية»، فنشرت الأولى على تويتر صورة تجمعها بالراحلة،
معلقة بالقول: «مشوار حافل بالتواضع والاحترام والعطاء. رحمكِ الله يا
حبيبة قلبي». أما الفنان رامي عيّاش، فنشر التغريدة التالية: «الوطن العربي
خسر ممثلة كبيرة... قولكم بعد هالجيل العملاق اللي عمنخسروا رح يضل في رقي
بالفن والتمثيل؟». واحدة من أكثر التغريدات انتشاراً، كانت تلك التي نشرها
حفيدها عمر طارق عمر الشريف بالإنكليزية: «جدّتي، لقد عشت حياتك مثل نجمة
مشعة. مثال ساطع وجميل ويُحتذى به عن الإنسانية والأنوثة. علّمت كل من حولك
القوّة، والشجاعة، والإنسانية، والإنصاف. لم تهربي يوماً من التحدي ولم
تديري ظهرك يوماً لعائلتك، أو لأصدقائك، ولأولاد بلدك، أو لأي عربي.
سأفتقدك دائماً». وتابع قائلاً: «شكراً لأنّك نجمتي. ولأنّك أعطيتني
الشجاعة لكي أكون نفسي. البقاء لله».
الجميلة والرؤساء
لم تتردّد فاتن حمامة يوماً في إبداء رأيها بالرؤساء الذين تعاقبوا على
حُكم مصر. المضايقات التي تعرّضت لها في ستينيات القرن الماضي جرّاء رفضها
التعاون مع الاستخبارات المصرية ليست خافية على أحد. على أثر هذه المضايقات
والتضييق على سفرها، أقامت حمامة خارج مصر في الفترة الممتدة بين 1966
و1971، متنقلة بين بيروت ولندن، لتعود بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر.
سجّلت موقفها من الأخير في مقابلات إعلامية عدّة.
في حوار مع الكاتب الصحافي مجدي الجلاد بُثّ عبر قناة «الحياة» في 2010،
قالت إنّها كانت تشعر بالخوف في عصر عبد الناصر، إلى جانب حزنها على ما
ألمّ بالكثير من معارفها بعد تأميم ممتلكاتهم. وفي السياق نفسه، قالت لحنان
شومان من «اليوم السابع» في آذار (مارس) الماضي: «كنت على ثقة بأنّ عبد
الناصر شخصياً لا يعرف ما يفعله رجاله من حوله، مما دفعني إلى الهرب.
أولادي كانوا صغاراً، وكانت أصعب فترة عشتها في حياتي لأنّ هزيمة 67 وقعت
وأنا في لندن». أما أنور السادات، فرأت في المقابلة مع مجدي الجلاد أنّه
كان «شخصية لطيفة»، مضيفةً: «يكفي أنّه في عصره استطاع الناس الخروج من
منازلهم مرتدين حللهم الذهبية»، فيما قالت لشومان: «في عصره، تغيّرت معايير
السياسة والفن، لكن ظلت مصر تعاني مشاكل كثيرة».
في ما يتعلّق بالرئيس المخلوع حسني مبارك، رأت أنّه «طيّب، لديه أصول
ريفية. وفي سنوات حكمه الأولى كان البلد يتطوّر، كما أنّ حركة العمران
والعمل كانت في ازدياد، ما أدى إلى زيادة الأموال»، لكن المشكلة في رأيها
كانت أنّ هذه الأمول كانت «بتطلع لفوق بس»، وفق ما أكدت لحنان شومان.
في المقابلة نفسها، شددت على أنّ فترة حكم الإخوان المسلمين، وتحديداً
الرئيس المعزول محمد مرسي، «كانت صعبة وتسببت لي بتوتر وحزن وقلق، لكن
الحمد لله انتهت».
لم تكن حمامة تعرف الرئيس المؤقت السابق عدلي منصور الذي كرّمها جيّداً،
لكنه في نظرها «خلوق ويقدّر الفن». تأييد «سيّدة الشاشة العربية» للرئيس
الحالي عبد الفتاح السيسي لا ريب فيه، إذ كانت من أشد الداعمين له في
ترشّحه للرئاسة. ولبطلة فيلم «لا أنام» مكانة خاصة لدى السيسي، فقد اتصل
بها شخصياً أثناء وجودها في المستشفى في آب (أغسطس) الماضي، فيما كان
مندوبه على باب غرفتها في المستشفى لتسليمها باقة من الزهور مرسلة من
السيسي شخصياً، كما أنّه سبق للرئيس أن قصد منضدتها تقديراً لمسيرتها
الفنية الطويلة أثناء مشاركتها مع فنانين في دعمه خلال ترشحه للإنتخابات.
مشاهد لا تُنسى
أكثر من خمسين عاماً، حفرت خلالها فاتن حمامة مشاهد لا تٌنسى في ذاكرة
الأجيال. ولعلّه يمكننا اختصار هذه المشاهد بستّة، غالبيتها تحمل توقيع
المخرج اللبناني هنري بركات. الأوّل هو ذلك الذي تختبئ فيه وراء الباب
أثناء مهاجمة أحمد مظهر لها في فيلم «دعاء الكروان» (1959 ــ هنري بركات)
الذي يستند إلى رائعة طه حسين. هنا، تقدّم «هنادي» مزيجاً من الانفعالات
المتناقضة حين تُصارع الضحية حبّها لجلادها.
علماً بأنّ مظهر هنا كان جلّاد أختها والمسؤول عن موتها. الثاني هو المشهد
الأخير في «الباب المفتوح» (1963 ــ هنري بركات) الذي تركض فيه «نوال» على
رصيف القطار، مصمّمة على مغادرة خوفها. الخوف من سلطة الأب والمجتمع
والتقاليد التي تؤدي بالمرأة في معظم الأحيان إلى التعاسة. ومن أعمال هنري
بركات أيضاً، هناك مشهد من فيلم «ليلة القبض على فاطمة» (1984) تتحدّث فيه
«فاطمة» عن انكسار الحلم الذي أوصلها إلى الهذيان. صحيح أنّ شعرها منكوش،
ووجهها شاحب، لكنّها لم تفقد عقلها كما يقول شقيقها. حبيبها الصيّاد الذي
سرقه البحر وعجز عن تحقيق أمنيتها بالزواج هو الوحيد الذي يعرف أنّها ليست
«مجنونة». في «يوم مر يوم حلو» (1988 ــ خيري بشارة) تؤدي الراحلة دور الأم
الأرملة ببراعة. لها ثلاث صبايا، وطفلة يهاجمها المرض، وطفل صغير يُزج به
في إحدى الورش للعمل. في الشريط، تُحدّث الابنة الكبرى والدتها عن رغبتها
في الزواج لأنّها «تعبانة» (بحاجة إلى ممارسة الجنس)، تسكتها الأم بحياء
ممزوج بالتعاطف، قائلةً: «فهمت، فهمت... إيه البجاحة دي؟». انفعال برز فيه
تعاطف نسوي أوصله إحساس فاتن بقوّة. من منّا لا يذكر ذلك المشهد الذي تنتفض
فيه الحبيبة في وجه حبيبها (محمود ياسين) في «الخيط الرفيع» (1971 ــ هنري
بركات). هو يرفض الزواج بها ويطلب منها أن تتفهّمه وتصبر عليه، وهي تجيب
بوضوح: «ومين قلّك أنا أقدر أكون إله؟».
المشهد ما قبل الأخير هو من فيلم «أرض الأحلام» (1993 ــ داود عبد السيد).
فيه، تبكي حمامة وتضحك في آن واحد بعد ليلة طويلة من المعاناة، خرجت فيها
«نرجس» لتكتشف الشارع وناسه، وذلك «الساحر» (يحيى الفخراني). تبكي لأنّها
لا تريد السفر إلى الولايات المتحدة وتعبت من زعران الليل، وتضحك لأنّها
وجدت جواز سفرها في أتفه موقع قد يفقد فيه أحد غرضاً ثميناً.
جوائز وتكريمات
يحفل تاريخ فاتن حمامة الفني والسينمائي بالعديد من الجوائز والتكريمات
التي تسلّمتها داخل مصر وخارجها. نالت جائزة أفضل ممثلة لعام 1951 عن فيلم
«أنا الماضي» (إخراج عزالدين ذو الفقار)، وحصلت على الجائزة نفسها من
«مهرجان المركز الكاثوليكي»، ومن وزارة الإرشاد للأفلام عام 1955 و1961،
كما أنّها صُنّفت أفضل ممثلة مصرية بين 1958 و1963.
وحازت جائزة أفضل ممثلة من «مهرجان جاكرتا» عام 1963 عن فيلم «الباب
المفتوح»، وأفضل ممثلة عام 1965 عن فيلم «الليلة الماضية».
كما نالت جائزة أفضل ممثلة من «مهرجان طهران الدولي» (1972) ودبلوم الشرف
من المهرجان نفسه عام 1974، وجائزة من «مهرجان الاتحاد السوفياتي» (1973)،
إضافة إلى جائزة التميّز في الافلام المصرية في 1976. كذلك، حصدت حمامة
جائزة أفضل ممثلة في «مهرجان القاهرة الدولي» في 1977، فضلاً عن جائزة
تقديرية من الرئيس أنور السادات في العام نفسه، وجائزة من «مهرجان موسكو»
(1983)، وجائزة الاستحقاق اللبناني لأفضل ممثلة عربية عن فيلم «ليلة القبض
على فاطمة» في 1984.
وهي حاصلة أيضاً على جائزة الاعتراف وجائزة إنجاز العمر من «منظمة الفن
السينمائي» عن دورها في الفيلم نفسه، وجائزة أفضل ممثلة من «مهرجان قرطاج
السينمائي الدولي».
وفي عام 1991، حصلت على جائزة الإنجاز الفني من «مهرجان القاهرة السينمائي
الدولي»، وجائزة الإنجاز مدى الحياة من «مهرجان مونبولييه السينمائي»
(1993)، وجائزة فخرية من «مهرجان الإذاعة والتلفزيون» (2001)، وجائزة
المرأة العربية الأولى (2001). وعلى لائحة الجوائز أيضاً، واحدة تقديرية من
«مهرجان الفيلم الدولي» في المغرب لمساهمتها في قضايا المرأة من خلال
مسيرتها الفنية (2004). فاتن حمامة حاصلة أيضاً على وسام الإبداع من الدرجة
الأولى من رئيس الوزراء اللبناني الأمير خالد شهاب عام 1953، ووسام
الجمهورية من الدرجة الأولى للفن من الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر
1965، إضافة إلى وسام الدولة من الدرجة الأولى من الرئيس أنور السادات خلال
«مهرجان الفن» الأوّل (1976). وتسلّمت جائزة فخرية من «المهرجان القومي
المصري للسينما» (1995)، وجائزة الإنجاز مدى الحياة بإعتبارها نجمة القرن
في السينما المصرية في «مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي» عام 2001،
وغيرها من التكريمات التي كان آخرها الدكتوراه الفخرية التي منحتها إياها
«الجامعة الأميركية في بيروت» في حزيران (يونيو) 2013، وتكريمها خلال
احتفال «عيد الفن» الأخير من قبل رئيس الجمهورية المؤقت يومها المستشار
عدلي منصور. |