نقلا عن اليومى..
وما أدراك مَنْ فاتن حمامة؟ إنها الطفلة المدهشة،
والصبية الرقيقة، والفتاة الحالمة، والزوجة العاشقة، والأم
المكافحة، والسيدة الغيور على مجتمعها.. إنها باقة ورد فى صدر كل
مصرى يحلم بالخير والعدل والجمال، إنها أعجوبة عصر وفلتة زمن، إنها
رمز لقيم وأيقونة محبة. مع فاتن حمامة أنت فى معبد المسرات
الراقية.. مع فاتن حمامة أنت فى حضرة البساتين المترعة بالفن
الآسر، والحدائق العامرة بالمشاعر الفياضة. فى يوم 27 مايو عام
1931 كانت أم الدنيا على موعد مع العظمة والمجد.. على موعد مع
ميلاد طفلة سيكون لها أكبر الأثر فى تشكيل ذائقة المصريين
ووجدانهم، إذ ولدت فى هذا اليوم السيدة فاتن، فأشرقت الشاشة بنور
إبداعها، وعلم الناس أن عباقرة مصر فى ازدياد. ما رأيك لو نحاول أن
نطل على ما تيسر من سيرة هذه الفنانة المتفردة التى كانت أفلامها
تعكس حال مصر فى عصور مختلفة، وأزمنة متنوعة.
يوم سعيد
الكل يعرف كيف ظهرت فاتن حمامة على شاشة السينما
للمرة الأولى حين اختارها محمد كريم «1896/ 1972» مخرج أفلام
عبدالوهاب، لتشارك بدور صغير فى فيلم «يوم سعيد/عرض فى 15 يناير
1940»، وكان «كريم» قد نشر إعلانا فى الصحف عن حاجته إلى طفلة
صغيرة، فأرسل والد فاتن صورتين لابنته - ونِعمَ ما فعل - فلفتت
براءتها فى الصورة انتباه المخرج الذى بهر بذكائها ورقتها حين
استدعاها لمقابلته، وكان أن أعاد كتابة السيناريو ليزيد من حجم دور
الطفلة «أنيسة». طالع معى ما كتبه محمد كريم فى مذكراته التى
نشرتها أكاديمية الفنون وحققها محمود على.. يقول «كريم» بالحرف: «فى
مكتب فيلم عبدالوهاب - كان فى شارع الموسكى - رأيت فاتن حمامة
الطفلة. من النظرة الأولى قررت صلاحيتها للدور بنسبة %50، ومن
النظرة الأولى أيضا أعجبت بالطفلة وجلست أتحدث معها ساعات، فأيقنت
أنها لا تصلح للدور %100 فحسب، بل أيقنت أنها أكبر من الدور الذى
رشحتها له، ورجعت إلى السيناريو وبدأت أبذل مجهودًا كبيرًا لتكبير
دور أنيسة فى كل جزء من أجزائه». ثم يضيف «كريم» بحسرة: «لو عهدنا
بفاتن إلى المدرسين والمدربين فى الموسيقى والرقص وغيرها من الفنون
التى كانت شيرلى تمبل- أشهر طفلة فى السينما آنذاك - تدرسها فى
هوليوود، لكانت طفلة السينما الأولى فى العالم.. لقد كان نبوغها
منقطع النظير، وكانت إلى جانب ذلك عملاقة فى طاقتها البشرية التى
فاقت الحدود.. كانت تعمل من 6 مساءً إلى 6 صباحًا دون أن يبدو
عليها التعب، وكان بعض من لا هم لهم إلا الكلام عن الناس يقولون:
«مش معقول.. دى عمرها 12 سنة على الأقل لكن مش باين عليها»، وهذا
قطعًا كلام كله حقد وافتراء، فإن فاتن حمامة يقينا كان عمرها فى
ذلك الوقت سبع سنوات وبضعة أشهر». ثم يواصل «كريم» فى مذكراته
افتتانه بالطفلة فاتن، فيقول: «فى فترات الاستراحة- أثناء تصوير
يوم سعيد- كنت أمسك بها بين ذراعى، وأطلب منها أن تعبر بوجهها عن
بعض العواطف والمشاعر، مثلا كنت أقول لها متغاظة منى فتعبر فاتن
تعبير الغيظ.. زعلانة فتعبر تعبير الغضب.. مبسوطة فتنفرج أساريرها
عن بسمة كلها مرح وفرح.. بتفكرى فتغرق فى تفكير عميق.. بتحبينى..
إلخ، وكانت موفقة فى كل التعبيرات التى طلبتها منها إلى أن قلت
لها.. احتقرينى.. فقالت احتقرك يعنى إيه يا أونكل؟ فقلت لها.. إخص
عليكى يا فتون ما تعرفيش احتقار يعنى إيه.. أمال بتروحى المدرسة
إزاى؟ قالت أصل إحنا لسه ما خدناش خط الرقعة.. ما عرفش غير نسخ!».
أرأيت كيف حبا الله الطفلة فاتن موهبة خارقة
وحضورًا طاغيًا؟
بنت الناس المظلومة!
لعل أبرز ما يميز أفلام فاتن بعد انتقالها من طور
الطفولة والمراهقة- قدمت نحو 10 أفلام فى تلك السن - إلى مرحلة
النضج أنها اتكأت على تجسيد شخصية الفتاة المظلومة التى تتعرض
لاضطهاد المجتمع، أو خبث المصادفات، وكانت السينما المصرية قد
أفرطت فى تقديم الأعمال الميلودرامية الزاعقة بعد انتهاء الحرب
العالمية الثانية وأهوالها، وما تبعها من غلاء فى الأسعار، حتى
يحمد المشاهد ربه ويرضى بوضعه المزرى حين يرى الدموع تنهمر على
الشاشة من الفواجع التى يتعرض لها الأبطال، وكانت فاتن حمامة
نموذجًا ناصعًا لتجسيد دور البنت الضحية- ضحية مجتمع أو مصادفات أو
قدر- فهى تملك جسدًا نحيفًا يوحى بالضعف أمام المصائب والملمات،
أما ملامح وجهها فتختلط فيه الطيبة بالبراءة، فضلًا على مهارتها فى
فنون التقمص، لذا كانت خير مثال للقيام بأدوار البطولة فى أفلام
تضج بأحزان ومواجع لا نهاية لها مثل «اليتيمتين/ العقاب/ خلود
1948/ ست البيت/ كل بيت وله راجل/ بيومى أفندى 1949/ ظلمونى الناس/
بابا أمين/ أخلاق للبيع 1950/ أنا الماضى/ وداعًا يا غرامى/ أنا
بنت ناس/ ابن النيل/ أشكى لمين/ أسرار الناس 1951/ الأستاذة فاطمة/
المهرج الكبير/ سلوا قلبى/ زمن العجايب/ كاس العذاب/ الزهور
الفاتنة/ المنزل رقم 13/ أموال اليتامى/ لحن الخلود 1952/ عائشة/
عبيد المال/ حب فى الظلام/ موعد مع الحياة/ 1953/ قلوب الناس/ آثار
فى الرمال/ الملاك الظالم/ دايمًا معاك/ ارحم دموعى/ موعد مع
السعادة 1954». هذه عينة من الأفلام المهمة التى قدمتها فاتن حمامة
خلال ست سنوات فقط، والتى تعرض بانتظام على شاشات الفضائيات حتى
الآن، ولعلك لاحظت أنها جميعًا تحتشد بقصص حزينة وفواجع وكوارث،
وقد تفوقت فيها كلها فاتن بأدائها السهل، وصوتها المحبب. يلاحظ
الناقد الكبير كمال رمزى بذكاء سر عبقرية فاتن فى فنون التمثيل،
فيفرد لها فصلًا كاملًا فى كتابه «نجوم السينما العربية»، حيث يقول
عن سيدة الشاشة: «فاتن حمامة فى كثير من أفلامها تمثل وكأنها لا
تمثل، تعتمد على حساسية داخلية مرهفة، ومعايشة عميقة للحظات
الانفعال. تعبر عنها على نحو سلس بالغ النعومة من خلال ملامح وجهها
الدقيق القسمات بجماله الهادئ القريب إلى النفس المميز بعينين
واسعتين، معبرتين تجعلانك تطل من خلالهما على عوالم رحبة من مشاعر
متباينة.. متداخلة ومتعدد الألوان والدرجات: الخوف.. الحب..
الألم.. السعادة.. القلق.. اليأس.. الشك.. الطمأنينة.. التحدى..
الهزيمة.. والنصر».
فاتن وثورة يوليو
عندما استقر نظام ثورة يوليو 1952 تغيرت أمور كثيرة
فى الواقع المصرى، وفى القلب منه السينما بطبيعة الحال، فجمال
عبدالناصر زعيم وطنى انحاز لفقراء هذا البلد، وفتح الباب واسعًا
لانتشار التعليم المجانى، ووفر الثقافة بمبالغ زهيدة لملايين
الناس، الأمر الذى أدى إلى ارتفاع الذائقة الفنية لدى الشعب، فبات
من الصعب القبول بأفلام تقرع طبول الكوارث والفواجع دون مبرر منطقى،
أو تكتفى بصب اللعنات على الظالمين، إنما رأينا أفلامًا تفضح الخلل
الاجتماعى الذى ينتج عنه الظلم أو الغبن. لم تغب فاتن حمامة عن
«الموجة الجديدة» فى السينما إذا جاز التعبير، ووفرت لها مواهبها
اللامحدودة فرصًا واسعة لتمثيل أدوار تنهض على مقاومة الظلم المحلى
أو الأجنبى «صراع فى الوادى 1954 ليوسف شاهين»، أو «الله معنا 1955
لأحمد بدرخان»، أو «دعاء الكروان 1959 لبركات»، أو «لا وقت للحب
1963 لصلاح أبوسيف»، أو «الحرام 1965 لبركات» على سبيل المثال.
المدهش أن فاتن امتلكت براعة عجيبة فى التنقل بين الطبقات بيسر
ودون تكلفة، فمرة نراها فقيرة «القلب له أحكام 1955/ دعاء الكروان/
الحرام»، ومرة فتاة من عائلة بالغة الثراء «صراع فى الوادى/ الله
معنا»، وثالثة ابنة الطبقة المتوسطة المكافحة «سيدة القصر 1958/ لا
وقت للحب»، وفى كل الحالات لا يمكن لك إلا أن تصدق التفاتاتها أو
همساتها أو رعشاتها، سواء كانت فى قصر أو حارة أو حقل!
فاتن والسادت ومبارك
لا يمكن لنا معرفة الموقف السياسى الحقيقى للفنان
من خلال تصريحاته العلنية فى الصحف واللقاءات التليفزيونية، لأنها
مرهونة غالبًا بمجاملات وتوازنات، لكن الأعمال الإبداعية هى التى
توضح بجلاء الموقف السياسى الاجتماعى الحقيقى للفنان، وفاتن حمامة
قدمت فى عهدى السادات ومبارك أفلامًا مهمة تدين الظلم الواقع على
الشعب من قبل هذين النظامين، وأحيلك سريعًا إلى «أريد حلا للمخرج
سعيد مرزوق 1975/ أفواه وأرانب لبركات 1977»، و«ليلة القبض على
فاطمة لبركات 1984»، و«يوم مر ويوم حلو لخيرى بشارة 1988»، ثم
مسلسلها البديع «ضمير أبلة حكمت» مع مطلع التسعينيات. فى هذه
الأفلام فضحت فاتن حمامة بؤس نظامى السادات ومبارك بحصافة وفن،
فانحازت لحقوق الفقراء، وانتصرت للمرأة المقهورة وتصدت للظلم
وقاومت البطش، بطش الرجل المتجبر أو بطش السلطات الجائرة، وقد
تفوقت فيها جميعًا حتى صرنا لا نشبع من إبداعات هذه السيدة
الفاضلة. أذكر أن فاتن حمامة قالت عن الموسيقار الأعظم محمد
عبدالوهاب «إنه أسطورة ونحن فخورون لأننا عشنا زمن هذه الأسطورة»،
وأستطيع أن أجزم أنك يا سيدتى أسطورة أيضًا، ونحن فخورون لأنك
معنا.. ألم أقل لك فى بداية المقال «وما أدراك من فاتن حمامة»! يا
ست فاتن.. كل عام وأنت طيبة. |