رحل سعيد صالح «فتى المسرح» وصاحب التعريف
الجديد للمنطق
الوسط - جعفر الجمري
لم يتبقَّ من جيل السبعينات ممن خاضوا غمار الفن في مجال السينما
والمسرح والتلفزيون، إلا قليل يكاد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
تسلّم نجوم مطلع التسعينات من القرن الماضي المشهد برمّته أو
يكادون. ذلك جزء من سنّة الحياة. كل نجم له طاقة سيخفت وميضها
يوماً ما. رحل سعيد صالح، صاحب العبارة الشهيرة، في المسرحية
الأشهر في تاريخ الفن المسرحي المصري «مدرسة المشاغبين»: هُوَّ دا
المنطق والاّ مش هُوّه يا متعلّمة يا بتاعةْ المدارس؟».
والساحة الفنية المصرية والعربية تودّع أحد نجومها الكبار، ممن
أعطوا دفعاً وعلامات على الحراك والنشاط الفني فترة السبعينات
والثمانينات من القرن الماضي، ضمن مجموعة ساهمت في هيمنة الفن
المصري وامتداده من الماء إلى الماء العربي، تطوي فصلاً من فصول
رحيل الكبار الذين صنعوا كل ذلك الألق.
يظل المشاهدون يتذكّرون - ربما - عملاً أو عملين. لكل فنان بصمتُه.
بصمتُه في عمل يفرض قوته وحضوره. ربما تتوافر ظروف تجمع مواهب في
عمل واحد يظل العلامة المضيئة في تاريخهم، ويظل مرجعاً للذاكرة
فترة التقييم والحضور، وذلك ما تحقق في المسرحية المذكورة. أطلقت
المسرحية وأتاحت لثلاثة أو أربعة في ذلك العمل لينطلقوا بسرعة
صاروخية في مجال الفن. تراجعت أدوار البعض، وخفت حضور آخرين؛ فيما
ظل النجم عادل إمام الأكثر شهرة وحضوراً من بين كل أولئك، وخصوصاً
في أعماله المسرحية التي استمر عرض بعضها لأكثر من 10 سنوات
متواصلة؛ علاوة على حضوره السينمائي شبه السنوي، ونشاطه الأخير في
عدد من المسلسلات التلفزيونية الموسمية؛ وخصوصاً في شهر رمضان
المبارك.
«مدرسة
المشاغبين»
في مسرحية «مدرسة المشاغبين» التي عرضت بعد حرب أكتوبر/ تشرين
الأول 1973، وتحديداً في 24 من الشهر نفسه، وأدّى بطولتها: سعيد
صالح، عادل إمام، يونس شلبي، أحمد زكي، حسن مصطفى، سهير البابلي،
وهادي الجيّار، وكتبها علي سالم، الذي ذهب عميقاً بعد سنوات في
التطبيع مع «إسرائيل» بعد زيارة الرئيس الراحل أنور السادات إليها،
وتوقيعه معاهدة كامب ديفيد التي وضعت حداً للحرب بين البلدين، كان
دور سعيد صالح كبيراً ومحورياً؛ جنباً إلى جنب مع عادل إمام ويونس
شلبي وحسن مصطفى على وجه التحديد. لم يكن الأمر كذلك مع أحمد زكي،
بحكم الدور الذي أسند إليه، باعتباره جاداً ومتفوقاً. في الجد يصعب
استلال النكتة. وإن جاءت تظل عابرة وخاطفة. «العبط» و «الشقاوة»
تتيح مساحة كبيرة لتجسيد النكتة وارتجالها أحياناً. تجسد المواقف
الساخرة، وتطلق فضاءات ومساحات أيضاً للكوميديا السوداء التي لم
تخلُ منها المسرحية. في «العبط» و «الشقاوة» امتاز ثلاثة: إمام،
صالح، وشلبي. حسن مصطفى كان بمثابة مساحة متحركة لممارسة المقالب
عليه. سهير البابلي أدارت المشاغبة تلك بحرفية عالية، لتنطلق بعد
سنوات في عملين مسرحيين مهمين ومركّزين في حضورهما لدى الجمهور،
«ريا وسكينة» و «ع الرصيف».
«العيال
كبرتْ»
في مسرحية «العيال كبْرِتْ» التي عرضت العام 1979، وكتبها سمير
خفاجي وبهجت قمر، وأدى البطولة فيها: سعيد صالح (سلطان)، أحمد زكي
(كمال)، يونس شلبي (عاطف)، نادية شكري (سحر)، حسن مصطفى (الأب
رمضان السكّري)، وكريمة مختار (الأم زينب جاد الله)، والتي تدور
حول مقالب الأبناء الأربعة تجاه والدهم الذي علموا أنه على علاقة
مع امرأة أخرى ويسعى إلى الزواج منها، كانت الكوميديا الصارخة
حاضرة. بعضها لم يخلُ من الإسفاف؛ لكن الغالب فيها تلك الدرجة
الواعية من الكوميديا الهادفة والمسخّرة في العمل بوعي كبير.
كان سعيد صالح هو الدينامو في العمل. يمكن اكتشاف ذلك في كم الحوار
عبر الدور المسند إليه، والذي تحكّم في جلّ مشاهد العمل المسرحي
وقتها. لم تخفت «خفّة دمه». كانت في تصاعد ملحوظ، وهذه المرة أكثر
استواء ونضجاً.
عمل سعيد صالح في أكثر من 300 عمل مسرحي؛ لكن ما الذي يتذكّره
الجمهور من عشرات المسرحيات تلك؟ ربما لا شيء باستثناء العملين
المشار إليهما: «مدرسة المشاغبين» و «العيال كبرت»، وذلك لا ينتقص
منه كونه أبدع في عملين، فإبداع الفنان لعمل واحد طوال مسيرته
الفنية التي لا تخلو من غلبة الغث على السمين، على الأقل عربياً،
كفيل بأن يضمن حضوره في أذهان الناس، مادام ذلك العمل قريباً من
الناس، ويستلّ البسمة والضحكة، وحتى القهقهة من أفواههم، ويرطّب
أرواحهم المتعبة في واقع عربي يضج بكثير من الإحباط واليأس وهمّ
الهرولة وراء لقمة العيش التي باتت عصية وممزوجة بالغصة والإهانة
أحياناً. وبعض من تلك الأعمال كانت مدخلاً لإهانة الفنان، سواء عن
وعي منه أو لا وعي، طالما أنه استسلم لاضطراره العمل كي يعيش، ولا
تهم بعد ذلك قيمة ما يقدّمه إلى الجمهور!
«فتى
المسرح»
الممثل الذي بدأ بالمسرح يتذكّره جمهوره بعملين مسرحيين كبيرين.
وفي مجال السينما، كّرر أن رصيده من الأفلام 500 فيلم. وتذكّر
المهم منها يبدو صعباً. الرجل ولد للمسرح، وترك بصمته عليه. في
السينما تجاوزه كثيرون ربما بسنوات ضوئية؛ وهو ما لم يفعله أولئك
الكثيرون في المسرح الذي تجاوزهم فيه صالح بسنوات ضوئية أيضاً.
هو الذي وصف نفسه في أكثر من لقاء صحافي وتلفزيوني بأنه «فتى
المسرح» لم يرَ نفسه فتى السينما أو التلفزيون؛ لذا لم ينفصل «فتى
المسرح» عنه حتى وهو يؤدي أدواره في السينما والتلفزيون. وقع في
الخلط ذاك؛ فلم يقنع جمهوره بأنه في مكانه الذي يحب؛ ولم يستطع أن
يقدّم أعمالاً فارقة وسط الكمّ الذي انشغل به. كان يعمل كي لا
يُنسى وكي لا يكون تحت رحمة البطالة التي لا رحمة فيها بكل تأكيد!
تحضر أفلاماً لبداياته، وبإخضاعها لمقياس الحركة والإنتاج والنجوم
وقتها تجد أنها لم تكن فارقة ومهمة وإضافة حقيقية للسينما المصرية.
ولنكون أكثر تحديداً: لم تكن كلها بذلك المستوى من الإضافة، وإن
حقق شيئاً منها في عدد يسير من تلك الأفلام.
ومع صديقه الذي لازمه في عدد من الأفلام: عادل إمام، قُدّر لتلك
العلاقة أن تثمر عن 10 أفلام: «رجب فوق صفيح ساخن»، «أنا اللي قتلت
الحنش»، «سلام يا صاحبي»، «الهلفوت»، «على باب الوزير»، «المشبوه»،
«الأزواج الشياطين»، ومسلسل «أحلام الفتى الطائر»، وآخر أعمالهما
معاً فيلم «زهايمر».
وفي الفيلم الأخير، كان دور سعيد صالح الذي لم يتجاوز الدقائق
الثلاث جسراً لتمرير وأحياناً «تمطيط» الدور الرئيسي لعادل إمام
الذي يعاني في الفيلم من «الزهايمر» بحكم مؤامرة يحيكها مجموعة من
حوله بترتيب من ولديه وزوجة ابنه للحصول على ثروته بعد أن خسرا
أموالهما في البورصة وباتا على وشك الدخول إلى السجن ما لم يسددا
قرضاً للبنك. دور سعيد صالح في تتبع وقراءة للفيلم، ولتاريخ الرجل
الطويل في الحركة الفنية المصرية، كان مهيناً، لم يقدم إضافة تذكر
في الفيلم، واستبعاده من الدور لن يؤخر منه في الوقت نفسه!
وفي تتبّع السيرة نقف على مجموعة من الأفلام أيضاً بمعية نجوم كبار
منها على سبيل المثال: «الرصاصة لاتزال في جيبي»، مع محمود ياسين،
و «أين عقلي»، مع سعاد حسني، و «درب اللبانة»، مع شريهان، «بلطية
بنت بحري»، مع دلال عبدالعزيز، و «يا عزيزي كلنا لصوص»، مع محمود
عبدالعزيز، و «أولاد حظ»، مع صابرين، و «نعيمة فاكهة محرمة»، مع
فاروق الفيشاوي، و «العسكري شبراوي»، مع ماجدة الخطيب.
المسلسلات التلفزيونية
في التلفزيون، أيضاً ظلت ذاكرة الجمهور محتفظة بسعيد صالح في عمليه
المسرحيين المذكورين. الكوميديا في الأعمال الدرامية نادراً ما
تكون أساس العمل. هي على الهامش ضمن «أفيهات» عابرة. لم يلفت
الأنظار كثيراً بوجود نجوم لهم حضورهم المتوهّج، وخصوصاً أنهم
يمسكون بالأدوار الرئيسية في الأعمال التي شارك فيها. ومن بين
المسلسلات التلفزيونية التي شارك فيها: «السقوط في بئر سبع» مع
إسعاد يونس العام 1994، كما شارك فى مسلسلات «المصراوية»، و «آن
الأوان»، و «رجل بلا ماضي»، و «أحلام الفتى الطائر»، مع عادل إمام
و «البرارى والحامول»، و «المارد»، و «العبقرى»، و «عودة الروح»، و
«أشجان»، و «هارب من الأيام»، و «عودة الروح».
الخروج على النص
الارتجال في الأعمال المسرحية لا يقوم به إلا المتمرّسون وعلى
علاقة متجذّرة وممتدة على خشبة المسرح. يمكن عدّ وحصر الأسماء في
هذا المجال من دون عناء يذكر، من بينها عادل إمام، سهير البابلي،
وخصوصاً في مسرحيتيها «ريا وسكينة» و «ع الرصيف» والتي أدت البطولة
فيهما مع أحمد بدير، وهنالك أحمد بدير نفسه، وسمير غانم، ومحمد
نجم، بالإضافة إلى سعيد صالح، وفؤاد المهندس، وحسن عابدين وغيرهم.
ولعل من أشهر ما عرف به من حالات ارتجال على الخشبة قوله في العام
1983: «أمي إتجوزت 3 مرات... الأول وكّلْنا المِش، والتاني علمنا
الغِش، والتالت لا بيهش ولا بينش» قاصداً بذلك رؤساء الجمهورية
الثلاثة الذين تناوبوا على حكم مصر، ودفع ثمن ذلك الارتجال الذي
قرّره المستشار راغب سامي بالسجن ستة أشهر.
ردود الفعل على رحيله
مع رحيله عمد صديق عمره، الفنان عادل إمام إلى نعيه على طريقته
الخاصة، مستبدلاً صورته على صفحته على موقع «فيسبوك» بصورة
تجمعهما، وعبّر إمام عن حزنه لفقدانه رفيق عمره. وعلى موقع التواصل
الاجتماعي «تويتر»، حظي رحيل الفنان بهاشتاج دشنه نشطاء وجمهور من
محبيه جاء على النحو الآتي: «سعيد صالح»، «وداعاً سعيد صالح»،
والثالث «وفاة الفنان سعيد صالح»، عبّروا من خلالها عن الأسى
والفراغ الكبير الذي سيتركه، من دون نسيان ما رسخ من أعمال قام بها
طوال عقود، ولم تبتعد كلها، إن لم تكن متفقة على المضيء والبارز من
أعماله المسرحية، ومن بين ردود الفعل تلك ما كتبه البرلماني المصري
السابق باسم كامل: «العيال كبرت... كبرت قوي للأسف كبرت... كبرت
وماتت... يونس شلبي وأحمد زكي وأخيراً سعيد صالح... وداعاً سعيد
صالح».
من ناحيته كتب
Shatha Mbaideen: «سلام
يا صاحبي مرسي ابن المعلّم الزناتي اتهزم من المرض يا رجالة».
فيما قالت
medaille chakich: «سلام
يا صاحبي... أقصر قصة حزينة... وداعاً سعيد صالح... سلام سلام يا
صاحبي... أحلى قصة حزينة وأجمل فيلم». |