كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

في حوار أجري قبل أسبوع من رحيله.. الثقافة السورية بحاجة إلى إنقاذ من موتها السريري

عمر أميرلاي: الحديث عن مؤسسة السينما احتجاج كربلائي يندب قضية لا حل لها

سامر محمد اسماعيل

عن رحيل شيخ مخرجي سوريا

عمر أميرالاي

   
 
 
 
 
 
 

برلين الغربيّة هي المدينة التي يتذكّرها جيداً، ففيها كان يسترق السّمع لتدريبات مغنّي أوبرا ألماني تقاسم معه شقّة في ستّينيات القرن الماضي، ومن خلال جدران تلك الشقّة كان الشّاب يحاول التقاط سرّ الغناء الأوبرالي، وما هي إلا أيّام حتى راح هو أيضاً يدرّب نفسه على أداء تمارين صوتيّة يصفها صاحب فيلم «الدجاج» بأنّها كانت في معظم الأحيان تحميات مبالغ فيها لردّ شبهة الضجر وتقطّع السّبل به في تلك المدينة الصقيعيّة الخالية من الأنس، والتي لم يكن يعرف أحداً فيها. فالشّاب الذي لم يكن قد اهتدى بعد إلى ضالّة أحلامه، ولم يكتشف بعد ما كانت تخبّئه له الحياة، ولا ما يريده هو منها أصلاً؛ فوجئ في أحد الأيّام بجاره المغنّي، الطّالب في كونسرفتوار برلين للموسيقى، يشجّعه على الالتحاق بمعهده. كان ذلك في شتاء عام ١٩٦٥، عندما توصّل عمر أميرالاي إلى حقيقة أنّ الغناء الأوبراليّ يتعارض ومبدأه الـرّافض لأشكال الانضباط القسريّ، والامتثال لقواعد التدريب الصّارمة التي يخضع لها المغنّون عادةً؛ خصوصاً حياتهم المضجرة المهووسة دائماً بسرساب الإصابة برشح أو زكام، وكأنّ الحياة كلّها معلّق مصيرها بحبال حنجرة، لذلك قرّر الشاب السفر إلى باريس بتشجيع من الدكتور سامي الّجندي، أول سفير لسوريا في فرنسا بعد انقطاع العلاقات بين البلدين على إثر العدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦. ذكريات كثيرة يحتفظ بها المخرج السوري عن صديقه سامي الجندي الذي كانت تربطه بالوزير والأديب الفرنسي أندريه مالرو علاقة ودّ خاصّة جدّاً. في باريس درس أميرالاي المسرح أولاً بين عامي ١٩٦٦ـ١٩٦٧ في الجامعة الدولية للمسرح (مسرح ساره برنار)، ليلتحق بعدها بمعهد الدراسات السينمائيّة العليا عام ١٩٦٨، حيث كانت سنته التحضيرية في جامعة نانتير؛ الجامعة التي انطلقت منها شرارة ثورة الطلاب في فرنسا على يد زعيمها كونبنديت وآخرين.

لم تمض أشهر على دخول أميرالاي المعهد حتى بدأ يفكّر من جديد في ترك السينما أيضاً، فنظام التلقين وغلاظة المناهج الأكاديميّة التي كانت متّبعة آنذاك جعلته ينزوي عن زملائه، فاستحقّ لقب «الشّاب الذي يمشي فوق السحاب» اللقب الذي أطلقه عليه هؤلاء، إلى أن جاء اليوم الذي طلب فيه أستاذه المخرج الفرنسي الشهير «جان بيير ميلفيل» تقديم معالجة سينمائيّة لمشهد من رواية أدبية، حيث خصّه «ميلفيل» بإطراء وحماس شديدين فاجآه؛ فالشاب الذي كان رساماً ساخراً في مجلات سوريّة استطاع أن ينجز ديكوباجاً سينمائيّاً متقناً للمشهد المطلوب، مدعّماً إيّاه بملاحظات إخراجيّة دقيقة ورسوم تفصيليّة على شكل «ستوري بورد».

ردّ فعل أستاذه «ميلفيل» دفعه هذه الـمرّة بقوّة نحو حلمه السّينمائي، لكنّ إغلاق المعهد بسبب أحداث ثورة الـ ١٩٦٨ جعله يعود إلى دمشق في صيف العام نفسه بعيداً عن المهمّة التي كان يزاولها إبّان أحداث الطلبة، وهي تزويد اللجنة الإعلاميّة التّابعة للحركة الطلابيّة بمواد عن المظاهرات التي كان يصوّرها بكاميرته السينمائية الخاصّة.

في زيارته القصيرة هذه لبلده أنجز أميرالاي أولى تجاربه في الفيلم التسجيلي لمصلحة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بتقديم مشروع فيلم إدّعى فيه يومها رغبته في توثيق نشاط الوحدات الإرشاديّة لصناعة السجاد اليدوي المنتشرة في ذلك الوقت في مختلف أرجاء سوريّة، لكنّ هدفه الحقيقيّ كان رغبته العارمة في التعـرّف على بلده الذي كان يجهل تماماً غناه وتنوّعه المذهل في ناسه وجغرافيّاته. وقد زوّدته جولاته هذه في مختلف أقاليم سورية وقراها النّائية بمعين هائل من الأحاسيس والانطباعات التي جاءت لترفد حساً بصريّاً ونقديّاً طبع جلّ أفلامه التسجيلية فيما بعد.

عمر أميرالاي يتحدّث هنا عن الواقع الرّاهن لحال الثقافة والمثقّفين في سوريا عبر تجربته في نادي دمشق السينمائي. كان لقاء مع المخرج السوري، وكان الحوار التالي:

كنت ماركسياً

·     بدايةً كيف توصّف علاقتك بالثقافة السوريّة عبر تجربتك في نادي دمشق السينمائي في سبعينيات القرن الفائت؟ وما هي تطلعات جيل سينمائيّي ذلك الزّمن الذي تنتمي إليه؟

ـ في بداية عهدي بالثقافة وبالوعي السياسي لم أكن شيوعياً حنبليّاً في يوم من الأيّام، بل كنت مؤيّداً لتيّار كان يُطلق عليه سلطة المجالس، وهو تيّار فكريّ لم يكن حزباً ولا تنظيماً سياسياً، بل نغمة من نغمات اليسار الثوري في تلك الحقبة. بالإمكان القّول إنّني كنت ماركسيّاً يساريّاً في الشكل، عبثيّاً متمرّداً في المضمون بعباءة ماركسية.

موجة اليسار هذه التي وسمت سبعينيات القرن الماضي وجدت تربتها الخصبة أيضاً في نشاطات نادي دمشق السينمائي الذي كان مقرّه المنتدى الاجتماعي الحالي، عندما شكّلنا أنا ومحمّد ملص ونبيل المالح وقيس الزبيدي وهيثم حقي وآخرون، خلية سينمائية نشطة، توجّهها الفكريّ يساريّ، ومواقفها المعارضة علنيّة داخل الحياة الثقافية والاجتماعية في البلد، لكنّ ذلك لم يتحقّق إلا بعد صراع خضناه ضدّ التيار الشيوعي البكداشي الذي كان يسيطر على النادي في ذلك الحين، وقد نجحنا عبر انتخابات ديموقراطيّة بانتزاعه من أيديهم، وقد استمرّ نشاطنا فيما بعد من عام ١٩٧٤ ولغاية عام ١٩٨١، حين اضطرّ النّادي إلى تعليق أنشطته بالكامل بسبب أحداث الإخوان المسلمين الدّامية في سوريا، واشتداد وتيرة القمع في البلاد. وقد واكب النادي بين عامي١٩٧٩ـ١٩٨٠ انتفاضة النقابات التي تعتبر لحظة تاريخية استثنائيّة في حياة سوريا المعاصرة، حيث جرى التعتيم عليها ليس من قبل الإعلام الرّسميّ وحسب، وإنّما أيضاً من قبل المهتمّين بالشأن السّوري، وقد أتيحت للسلطة يومها فرصة نادرة لفتح حوار حقيقيّ مع المجتمع المدني، وفق صيغة وسطيّة كان من شأنها وقتئذ أن تجسر الهوّة التي كانت قائمة بين السلطة والمجتمع، وتضع حدّاً لسياستها الهادفة لاستبدال المجتمع المدني ببدائل كرتونيّة أطلقت عليها اسم منظمات شعبية، وقد حدث ذلك عندما انتقلت قيادة هذه المنظمات عن طريق الانتخابات (كنقابة الأطبّاء والمهندسين والصيادلة وانقسام نقابة المحامين) من يد حزب البعث الحاكم إلى يد تحالف القوى الوطنية المستقلّة والمعارضة آنذاك، ممّا اضطر السلطة للاعتراف بالأمر الواقع، ودفع أعضاء لها في الجبهة الوطنيّة التقدّميّة برئاسة محمود الأيوبي لإجراء حوارات مباشرة وعلنيّة في مدرّج جامعة دمشق، ومقرّات النقابات المهنيّة، وذلك مع ممثلين عن الحراك الاجتماعي والنقابي، وقد دارت في هذه الحوارات نقاشات غير مسبوقة، حادّة وجريئة، شملت مطالب محدّدة لإجراء إصلاحات جوهرية في بنية البلاد السياسية والاجتماعيّة، وذلك قبل أن تستغلّ الطليعة المسلحة في تنظيم الأخوان المسلمين في سوريا الفرصة لشنّ سلسلة اغتيالاتها، والتي كان بوسع السلطة تفاديها وتطويقها شعبيّاً لو أنّها التقطت في الوقت المناسب نفَس الشّارع ومطالب قواه الوطنيّة والمستقلّة في التغيير، ففوّتت على البلد وشعبه حقبة سوداء من القمع والمواجهات المأسوية بين النظام وقوى التمرّد المسلّح في المجتمع. والجميع يتذكّر النتائج الكارثيّة التي أعقبت حوادث الـ ٨٢، والحقبة الأمنيّة الدهماء التي جثمت على صدر المجتمع السوريّ لأعوام مقبلة.

·         ما الذي فعله النادي السينمائي في تلك الفترة، وما هو الدور الذي اضطلع به وقتها؟

ـ في مناخ متأجّج من الحراك المدني، كان نادي دمشق السينمائيّ المنبر الوحيد المستقلّ الذي كان يمارس نشاطه بحرّية نسبيّة، وإنّما تحت رقابة أمنيّة مشدّدة، حيث تحوّل مقرّ النادي إلى منبر مفتوح للنُخب المعارضة في المجتمع للتعبير عن أفكارها ومطالبها، وقد توالى على منبر النادي وجوه من الحياة السياسية السورية بمختلف أطيافها، من أقصى اليسار إلى اليمين الديموقراطي، وأذكر منهم المرحوم المحامي موفّق الكزبري، مؤسّس أوّل لجنة للدفاع عن حقوق الإنسان في سوريا، الذي قدم في النّادي أروع ندوة ساخرة تنتقد أوضاع البلاد، وذلك بلغة مجازيّة لافتة في جرأتها وذكائها وقدرتها على سبر ماغما التجاذبات والصراعات السياسية القائمة في ذلك الحين، مستعيراً من الأدب الشعبي حكايات مثل (الملك العاري) و (المرياع).

·         بعد توقف النادي لسنوات استعاد نشاطه من جديد في منتصف التسعينيات، فما الذي أعاد الحياة إليه؟

ـ في منتصف التسعينيات بدأ يلوح في الأفق انفراج نسبيّ في حالة البلاد العامّة، وهي الفترة التي شهدت انتقال مقاليد السّلطة تدريجياً من الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى الرئيس الجديد، والحديث عن شخصيّة الرئيس الشّاب المنفتح الذي يمثّل جيلاً جديداً في إدارة السلطة. وفي سياق هذا الشعور المتفائل بهذا الانفراج النسبيّ، قرّر النادي استعادة نشاطه، وبالفعل عقدنا اجتماعاً لجمعيّته العمومية، أُنتخب على إثره مجلس إدارة جديداً، أعاد انتخابي كرئيس، ونبيل المالح كنائب رئيس، إضافةً إلى شخصيتين من حرس النادي القديم وسيّدة فاضلة من قدامى الأعضاء. وقد باشر النادي نشاطه فوراً في سينما الشام حيث بدأت ملامح جيل جديد من الأعضاء ينضمّون إليه ويحضرون عروضه، واللافت أنّ معظم روّاده الجُدد كانوا من أبناء أعضاء النادي القدامى، وبهذه المناسبة يحقّ لنا أن نفخر بأنّ عدد أعضاء النادي في السبعينيّات كان ما يُقارب الألف عضو من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية والسياسية، وكان جلّهم من طلبة الجامعة.

·         أفهم من كلامك أن النادي كان نادياً سياسياً قبل أن يكون سينمائياً؟

ـ طبعاً عندما أقول إنّ النّادي كان نادياً سينمائيّاً يساريّاً، فأنا لا أقصد أنّه كان دوغمائيّاً مهووساً بالسياسة، مهملاً للشأن السينمائي الذي كان همّه الأول والأخير. صحيح أنّ عدداً غير قليل من النقاشات التي كانت تجري تحت سقف النادي حول الأفلام، كانت تجنح نحو السياسة نظراً لطبيعة جمهوره المسيّس غالباً، لكن هوى النادي الأساسي كان بالدرجة الأولى سينمائياً، وسواءً أردنا ذلك أم لم نرد كان الحوار يميل تلقائيّاً نحو السياسة أيّاً كانت طبيعة الفيلم الذي نعرضه. في جميع الأحوال أظنّ أنّنا أدّينا واجبنا فيما يخصّ نشر الثقافة والمعرفة السينمائيّة في أوساط جيلٍ كامل، وقد جعلناه يحبّ السّينما كما نحبّها نحن من خلال تعريفه على أهم إنتاجات الفنّ السّابع، ومذاهب السّينما على اختلاف أنواعها، ليس على صعيد العاصمة وحسب، وإنّما في مدن أخرى أيضاً من خلال تأسيسنا لاتّحاد عام لنوادي السينما عام ١٩٧٨، بحيث أصبح لدينا فروع في حلب وحمص ومصياف ودير الزور والسّويداء، فكنّا، أنا ومحمد ملص، نقيم أسابيع للأفلام في هذه المدن، حاملين معنا أفلاماً وآلة عرض سينمائيّة ١٦ مم عندما لا تتوفّر هذه، كي نعرض هذه الأفلام أمام الجمهور ونناقشها. كان عملنا أقرب إلى الفعل النضالي بكلّ معنى الكلمة.

·         بالعودة إلى التسعينيات، كيف كان توجّه النادي، وما الذي طرأ على نشاطاته؟

ـ عندما صدّقنا بوجود بوادر انفراج في الحياة العامّة في سوريا أواسط التسعينيّات، باشرنا فوراً نشاطنا باستقطاب عدد من الأفلام العربيّة الجديدة، وكان فيلم «المصير» ليوسف شاهين باكورة عروضنا، حيث كان الحضور مفاجئاً بكثافته وحماسه، لكنّ سرعان ما «عادت حليمة إلى عادتها القديمة» بعد أسابيع قليلة من معاودة نشاطنا، حين صدر عن وزيرة الثقافة آنذاك، الدكتورة نجاح العطار، توجيه إلى صالات السينما الخاصّة بعدم استقبالنا، واضعةً إدارة النادي أمام خيار أوحد: إمّا أن نعرض في إحدى صالات المراكز الثقافية العائدة للوزارة، أو لا نعرض. فقرّرنا عندئذ أن نعلّق نشاطنا من جديد حفاظاً على استقلالنا، ولأنّنا اشتممنا أيضاً في قرار وزيرة الثقافة محاولة لتهميشنا وعزلنا في مراكز ثقافية مقفرة، لا تفتح أبوابها إلا لمجالس العزاء في أحسن الأحوال.

·     لكن معظم المثقفين السوريين يشيدون بالفترة التي استلمت فيها الدكتورة نجاح العطار وزارة الثقافة مطلقين على ولايتها الثقافية وزارة العصر الذهبي للثقافة السورية الذي استمر ثلاثة وعشرين عاماً؟

ـ درجت العادة على أن تكون حقيبة وزارة الثقافة في سوريا من نصيب الشّوام، ولو وجدت شخصيّة شاميّة أخرى بمواصفات الدكتورة العطار لما كانت السلطة عانت وارتبكت إلى هذا الحدّ لإيجاد بديل لها طيلة السنوات العشر الماضية، بدليل تبـدّل خمسة وزراء على سدّة الوزارة خلال عقد واحد من الزمن، وفي كلّ مرّة يُتحفوننا ببديل أسوأ من سلفه وكأنّ المقصود هو إثبات أنّ لا حدود لديهم في اكتشاف الأسوأ، وهي مهارة أعترف لهم بها. لأعود إلى سرّ احتفاظ الوزيرة العطار بحقيبة الثقافة على مدى عقدين ونصف تقريباً والذي يرجع برأيي إلى تميّزها في شكل ولائها للسلطة، إضافة إلى صفات أخرى تتميّز بها هذه الشخصية وهي حنكتها وثقافتها العالية المشهودة لها، وكذلك أيضاً مقدرتها العالية على تخدير محاوريها، بحيث يظنّ المراجع لها في قضيّة، أنّها متفهّمة تماماً لقضيّته، متعاطفة جدّاً مع همومه، ومؤيّدة لمطالبه، لكن ليس باليد حيلة، وهو دورٌ برعت فيه للغاية، ولم يكن الهدف منه سوى امتصاص مشاكل المثقّفين وتنفيس مطالبهم واعتراضاتهم إن وُجدت. أمّا منجزاتها فهي متواضعة جدّاً إذا ما قيست بعدد السنين التي أمضتها في سدّة الوزارة، والإنجاز الوحيد الذي يُحسب لها، مع بعض التحفّظ، هو تأسيس المعهد العالي للفنون المسرحية والموسيقى في عهدها، وهو إنجاز يعود الفضل الأساس فيه برأيي إلى شخصية الراحل سعد الله ونوس، وأشخاص آخرين كالرّاحلين فواز السّاجر وأديب اللجمي وصلحي الوادي؛ حيث لعب هذان المعهدان دون أدنى شكّ دوراً هاماً في إغناء المشهد الثقافي السوري وضخّه بالمواهب الفنيّة حتى منتصف الثمانينيّات، لكنّ عصر هذه المرحلة الذهبيّ انتهى مع الأسف برحيل مؤسّسي هذين المعهدين، إذ يكفي أن يعرف المرء ما آلت إليه أحوال هذين الصّرحين في العقدين الأخيرين كي يتحسّر ويبكي على ماضيهما المجيد.

·     حسناً مع توقّف أنشطة النادي السينمائي، منتصف التسعينيات، مرّت سنين طويلة على إنجازك الفيلم الوحيد الذي أنتجته لك مؤسّسة السينما عام ١٩٧٢ وهو «الحياة اليوميّة في قرية سوريّة»، لكنّ سؤالي هو لماذا انقطعت أخبار هذا النادي، وماذا فعلتم كسينمائيين ومثقفين لاسترداده؟

ـ أستطيع القول إنّ ثمّة حالة مريبة تسم الموقف الغريب للمثقّفين السوريين عموماً، وسكونهم العجيب، في الفترة الأخيرة. حالة قد تُعزى أسبابها إلى عوامل عدّة، أوّلها الرّهبة ربّما التي عادت وهيمنت من جديد على النّفوس على إثر حملتي الاعتقالات اللتين طالتا رموزاً ثقافيّة ومعارضة محترمة، وثانيها، ما يمكن أن يُطلق عليه بغاز «الإفساد الناعم» الذي درجت السلطة على تسريبه مؤخّراً في أجواء المثقفين والفنّانين على وجه التّحديد، لتخديرهم أوّلاً، ومن ثمّ لاستدراجهم واحتوائهم، إمّا من خلال الانتماء العصبيّ، أو الاستنهاض القومي والوطني، أو التّكريم الرسميّ وتوزيع الأوسمة على من هبّ ودبّ، وكلّها عوامل كانت كافية لإحداث ما يشبه الخلخلة والاستفراد التي نعرفها اليوم في أوساط الثقافة والفنّ؛ خرابٌ نجح في أن يحوّل القضية الثقافية العامة ـ التي تحتاج اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى إلى تضافر جهود كلّ المعنيّين بها لإنقاذها من الموت السّريري الذي هي فيه ـ إلى مجرّد خلاصات فردية، وقع بعض المثقفين في حبائلها حين استجابوا لدعوة بعض رموز السلطة لهم إلى الحوار، ما أودى ببعض هؤلاء إلى السّجون فيما بعد، لأنّهم صدّقوا السلطة حينها، وكان بوسع هذه الأخيرة أن تغتنم فرصة «ربيع دمشق» لفتح حوار جديّ وصادق على الأقل مع أطياف المجتمع المدني للتوصّل إلى عقد اجتماعيّ ديموقراطيّ جديد يحقّق المنعة والرّخاء والاستقرار لسوريا، لكنّ الأمر حدث خلاف ذلك مع الأسف، حين وُوجه المثقّفون والمعارضون بتهم جديدة أشدّ وأقسى لا تقنع عاقلاً، كنشر أنباء كاذبة توهن نفسيّة الأمّة، ونشر دعاوى تضعف الشعور القومي، والانتساب إلى جمعيات تهدف إلى تغيير كيان الدولة، وكلّ ذلك بحجّة مواجهة الخطر الخارجيّ المتمثّل في العدوّ الإسرائيليّ تـارّةً، أو الخطر الدّاخليّ المتمثّل بالأصوليّة الإسلاميّة تارةً أخرى. وقد سارع مثقّفون وفنّانون كثر لتبنّي هذه المقولة والدفاع عنها، في حين فاتهم أنّ مفتاح التحكّم الفعليّ في رفع أو خفض وتيرة خطر هذين العدوّين الدّاهمين، إنّما هو، في معظم الأحيان، في يد السلطة نفسها.

حيال هذه الصورة الباهتة لواقع مثقفي سورية وفنّانيها، ومواقفهم الغائبة أو الخجولة ممّا يجري في وطنهم، تبرز أمامهم اليوم جملة أسئلة ملحّة يتحتّم عليهم الإجابة عليها قبل فوات الأوان: أين هم اليوم ممّا يجري في بلدهم، وأين موقعهم الرياديّ من وعي أمّتهم؟ وأيّ دور يلعبونه في التأثير على صنع توجّهات بلدهم المصيرية وخياراته المستقبلية؟ أين هم من واقع أمّتهم السياسي والاجتماعي وصبوة أبنائها إلى الحريّة والعدالة والمساواة؟ أيّ ثقافة وطنية ديموقراطية وتعددية يريدونها لبلدهم ولأجياله القادمة، وإلى متى سيظلّ أكثرهم إمّعات لأفكار سياسيّة بالية سائدة في بلدهم، بتجلياتها الحزبية الحاكمة والمعارضة على حدّ سواء؟ وأخيراً، أيّ إنسان سوريّ جديد وحرّ يتطلّعون إلى بنائه في المستقبل، وعلى أيّ أسس ومعايير وقيم فكرية ومعرفية وثقافية وإبداعيّة جديدة يتصوّرون هذا البناء؟ ألم يحن الوقت كي يدركوا أنّ ليس بالصّمت والانكفاء والتهرّب من مواجهة الواقع وتجنّب الاشتباك مع أسباب تردّيه يستطيعون أن يكفّروا عن عجزهم المقيم، علماً بأنّهم عن عجزهم هذا وتقاعسهم لسوف يُسألون يوماً ويُلامون، من شعبهم أولاً، ومن التاريخ ثانياً.

إنّ هذه الصّورة القاتمة لواقع الفكر والثقافة والفنّ السّائد في بلدنا اليوم لا يعبّر مع الأسف عن حقيقة روح سورية ووجدانها، ولا يليق بإرثها الإنساني والحضاريّ، ولا بسجلّ مفكريها ومثقفيها وفنّانيها الحافل بالمواقف المشرّفة، وأنا على يقين أنّ ما من خلاص ممكن ومشرف من الحالة المزرية التي نحن فيها اليوم سوى أن يبادر عموم المثقّفين والفنّانين السوريّين ـ هذا إن كانوا يريدون فعلاً أن يكون لهم دور مؤثّر في تفعيل عملية التغيير العاجل في بلدهم ـ بالدعوة إلى نقاش عامّ يطرحون من خلاله واقع الثقافة السوريّة الـرّاهن، بأزماتها وتحدّياتها وتطلّعاتها، بحيث تشكّل حصيلة ما ستسفر عنه هذه النقاشات من أفكار وتوصيات ومهام مادة لإطلاق مشروع ثقافيّ وطنيّ ديموقراطي شامل يسهم في عملية التغيير الجذريّة التي يطمح إليها عموم السّوريين.

·     ولكن ألا تستشعر، رغم هذا الصّمت الذي تتحدث عنه، أنّ ثمّة حراكاً ثقافيّاً جادّاً ومهمّاً بدأ يظهر عند الشباب السوري قوامه المهرجانات المستقلة في السّينما والرّقص المعاصر والموسيقى والدراما التلفزيونية والفن التشكيلي، وبروز اتجاهات حداثية داخل المجتمع السوري تجري على أكثر من مستوى، هل يمكن اختصار كلّ ذلك تحت يافطة الصّمت هذه؟

ـ هذا الصّمت الذي أسميته مريباً ومشبوهاً، عن وعي كان أم عن غير وعي، هو الذي أوصلنا في الواقع إلى زمن الخداع المؤسف الذي نحن فيه اليوم، وهو خداع ثقافة جديدة تُشرعن نفسها على أنقاض ثقافة أخرى كانت إلى عهد قريب من مسؤوليّة الدّولة حصراً، لكنّ هذه الأخيرة فشلت في مهمّتها مع الأسف فشلاً تاريخيّاً ذريعاً لا قيام بعده. إذ على جثّة ثقافة الدولة نرى اليوم ولادة «ثقافة» مستحدثة، جرت فبركة مؤسّساتها ولجانها واستراتيجيّاتها في ردهات السلطة، وقد وُضع تحت تصرّف هذه المؤسّسات إمكانات مالية كبيرة ولوجيستيات تحسدها عليها وزارة مختصّة عريقة عمرها أكثر من نصف قرن كوزارة الثقافة، حيث يدير فيترينات هذه الثقافة ذات الخمس نجوم، ويشرف عليها، شباب أغرار، تكنوقراطيون، لا تاريخ ولا صلات فعليّة لهم تربطهم بواقع بلدهم الحقيقيّ. فهذه المؤسّسات المدّعية الحداثة، لن تنتج في نهاية المطاف سوى بقع زيت ستطفو على سطح واقع يتمرّون به لوحدهم، فبقع الزيت هذه، مهما كثرت وعظم شأنها، فإنّها لن تستطيع حجب فشل الدولة في استعادة سلطتها على مؤسّساتها وأجهزتها المتداعية والفاسدة، لإصلاحها وتطويرها. إنّ كلّ بقع الزّيت التي ينوون إغراقنا بها تحت مسمّيات مختلفة مثل «حماية البيئة، وتنظيف المدينة، وتجميل الساحات والطرقات، وثقافة التطوّع، والعناية بذوي الاحتياجات الخاصة»، كلّ هذه الممارسات التي سبقتهم إليها دول كمصر والأردن وقطر، ما هي سوى ذرّ رماد في العيون لا يهدف إلا إلى تجميل واقع دّاخلي يتهدّده الفقر، وجوع الرّيف، وتردّي المستوى المعيشيّ العام للفرد وللعائلة في البلاد، بسبب الغلاء، وتخلّف قطاع الخدمات في الصحّة والتعليم والرعاية الاجتماعيّة، وإنّ المطلوب اليوم من أصحاب القرار العمل على تحسين أوضاع البلاد بضبط ساعتهم على التوقيت المحليّ ونبض الشّارع الدّاخلي، منه الانشغال بمتاهات السياسة الدوليّة ولعبة الأمم.

أمّا الخداع الآخر، وهو الأخطر برأيي، فإنّه يُمارس نشاطه تحت جنح التطبيع مع المال الحرام من قبل ورثة العهد القديم، ويتمثّل بـوضع اليدّ على أهمّ قطاعات الخدمات العامّة ذات الرّبح السّريع المبيّض للفساد المنهجيّ منذ أربعة عقود، إذ بأموال الدولة العتيدة المنهوبة سابقاً يُؤسّس اليوم ما يُطلق عليه وقاحةً بالاقتصاد التنمويّ الحُر، الذي ما هو في واقع الأمر سوى تدوير صريح لمال فساد القطاع العام السّابق إلى اقتصاد حرّ وخاصّ اليوم، بمسمّيات مختلفة أبرزها تلك الشركات القابضة على قوت الشعب ومقدّراته، والتي أثبتت التجربة التونسيّة الأخيرة، أنّ ما من حقّ يضيع في التّاريخ، ووراءه شعب مطالب.

السينما السورية

·     في ظلّ هذا التصوّر المتشائم للمجتمع السوري الرّاهن الذي تتكلّم عنه، أين تقف اليوم من قضية السينما السورية ومقاطعة السينمائيين للمؤسّسة العامّة للسينما؟

ـ أنا أولاً لا أتـنكّر لهويتي السينمائيّة، ولا للسينما التي تبقى أداتي الوحيدة للتعبير عن نفسي، لكنّي أقلعت منذ مدّة عن الحديث عن السواقي الآسنة في الوقت الذي جفّ فيه النهر وتبخّر، أي بمعنى آخر، وكما تقول الحكمة الصوفيّة: «لن يُدهش المرء من ضخامة قدم الفيل عندما يرى الفيل كلّه»، لذلك أعتبر أنّ الحديث اليوم عن السينما السورية، ومؤسّستها العامّة، إنّما هو إلهاء لنا للخوض في مسائل جانبية أضحى الكلام فيها ممجوجاً ومكروراً؛ واحتجاجاً كربلائيّاً يندب قضيّة فرعيّة لا حلّ لها أصلاً ما لم يتدفّق في شرايين المجتمع من جديد ماء طاهر يجرف معه العلق الجاثم في أحشائه منذ سنين، فنحن كسينمائيين نتمنّى للسينما السورية ألا تدنّس نفسها بالمال الحرام، وأن تكون ناصعة ونظيفة غير متواطئة مع خراب البلد ومسبّبيه، لكنّ ثمّة ما يعيبنا نحن أيضاً معشر السينمائيين وهي فرقتنا وعجزنا المؤسف عن جمع أنفسنا من جديد، لتشكيل جبهة سينمائيّة كانت في يوم من الأيّام عصب الثقافة في مواجهة رموز الخراب ومقصّاته.

·     المخرج السينمائي الرّاحل مصطفى العقاد قال عندما شاهد أحد أفلام رفاق دربك من المخرجين السوريين: «أشعر بالصّدمة لما في هذه الأفلام من تعميم لرموز فردية تطرح أفكاراً تُسيء للسوريين في الخارج». كيف تدفع السينما اليوم، والتسجيلية منها خاصةً، عن نفسها شبهات واتهاماتٍ كهذه، أقلّها انتقاؤها السلبي لموضوعات سمّاها العقاد بـ «واقعية فضائحية تشهّر وتشوّه وتعرض الغسيل الوسخ خارج البلد»؟

ـ إن أجبتكَ على هذا السؤال فإنّي سأناقض نفسي حتماً، وألحسّ كلامي السّابق الذي قلته لك، وهذا سيضعني في مفارقة بيني وبين تصوّري السّابق الذي عبّرت فيه عن عجزنا الفعلي في إمكانية فعل شيء ذي جدوى في الوقت الحاضر لإصلاح خراب الواقع الذي نحن فيه. والخلاص برأيي، إذا عدنا إلى السينما، سيكون حتماً فرديّاً، لأنّ في نهاية المطاف الفعل الحقيقيّ بالنسبة لأيّ سينمائيّ هو أن يصنع فيلماً، ونحن اليوم أبعد ما نكون عن تلك الحالة الحماسيّة التي كنّا عليها قبل سنوات فائتة، حين كنّا نشكّل جبهة متماسكة موحّدة، وكانت لدينا مطالب واضحة وصارمة، فالسينمائيون السوريون كانوا دائماً ـ وليحتجّ هنا من يريد أن يحتجّ ـ في الخطّ الأمامي الأوّل على صعيد المطالب المهنية، ومعارضة سياسات الدولة المجحفة في مجالات السينما والثقافة والسياسة، كانوا دائماً في مقدّمة المدافعين عن حقوق الإنسان في بلدهم، وحريّة التعبير فيه، وذلك قبل زملائهم الأدباء والشعراء والمسرحيين والموسيقيين والتشكيليين. كنّا دائماً في المقدّمة، وكان صوتنا هو الأعلى في مماحكة السّلطة لسنين طويلة، لكنّنا لا نستطيع اليوم أن ندّعي بأننا استطعنا الاستمرار، لأنّ الفساد نخرنا مع الأسف من الداخل، مثلنا مثل الجميع، فطال الفساد سينمائيين كانوا في السّابق معارضين، وعملوا معنا لسنين، فإذ بهم اليوم يرضون بفتات ما تقدّمه لهم مؤسّسة السينما عوض أن يتضامنوا مع زملائهم الآخرين لإصلاح أحوال السينما والسينمائيين في بلدهم، لكنّ عدالة الفنّ، لحسن الحظّ، كانت لهم ولأفلامهم بالمرصاد، فجاءت أعمالهم على صورة تخاذلهم وتخلّيهم عن قضيتهم الأساس في صون مهنتهم، حين تحوّلوا بدورهم إلى مواطنين بائسين في «جمهورية كول وشكور». أمّا تّجارب السينمائيين الشباب في المؤسّسة، فإنّي أخاف عليهم أن يظنّوا لوهلة أنّهم أذكى وأشطر ممّن سبقهم في تسليك أمورهم في زمن مفخّخ أكثر ممّا مضى بالمغريات الكاذبة، وأنّ يعتقدوا أنّ باستطاعتهم أن يتنطّعوا لموضوعات في غاية الحسّاسيّة والتعقيد وهم غارقون في بحر التسويات ومخاتلة الحقائق، وعليهم أن يعلموا أنّ ما من شيء يستطيع أنّ يحصّن أفلامهم من وباء الزمن الذي يعيشون فيه إن لم يتذكّروا أنّ في الفنّ دائماً مناعة ذاتية تحميه من الدّخلاء والمدّعين، مناعة سلّح الفنّ نفسه بها بحيث لا ينطلي عليه لا الكذب ولا النفاق ولا الادّعاء.

)دمشق(

 

السفير اللبنانية في

11.02.2011

 
 
 
 
 

عمر أميرلاي... يترجل في دمشق

يامن محمد - دمشق

عمر أميرلاي الفنان العنيد، توفي عن 65 عاماً، في دمشق في5/2/2011.

ربما لم ينم في أيامه الأخيرة مجدداً شبابه بما يشاهده، ربما باغته التعب متابعاً الحدث الجلل الذي يجري أخيراً فوق الأرض العربية، في تونس ثم في مصر. ما كان ينتظره، ويحاول صنعه وبناءه، لبنة لبنة، فيلماً فيلماً، على مدى عشرات السنين مع حفنة من المغامرين، المؤمنين بأضواء بداية حياتهم، تلك الأضواء التي أخمدتها هزيمة ال67 وهزائم أخرى، أصعبها وأشدها وطأة هزيمة ذات المواطن في أرضه، وغبن الحسرة على أحلامٍ هشمت الوهمَ منها مخارزُ واقع لم تطفئ الضوء في العين.

عجيب كان إصرار عراب السينما التسجيلية السورية، وإيمانه بمستقبل أفضل لا بد آتٍ رغم ما يبدو من تشاؤم في الظاهر يصبغ أفلامه التسجيلية الراصدة لتردي وتردي واقع ما فتئ يزداد انشراخاً، منذ أول أفلامه: محاولة عن سد الفرات 1972؛ الفيلم الذي "أعاد توثيقه" بفيلم الطوفان في بداية الألفية الثالثة، معيداً تقييم ذاته أولاً فكراً وممارسة، قبل أن يفند تاريخ وطن.

الرأي، هي الكلمة الأبرز، المجاز الأبلغ الذي يلخص ويكثف أميرلاي فكراً وإنتاجاً إبداعياً، قولاً وفعلاً: في تصريحاته المباشرة وفي "نواديه" السينمائية التي ساهم في تأسيسيها وتفعيلها في بلده سورية ابتداءً من النادي السينمائي في دمشق أواسط سبعينات القرن الماضي حتى بداية الثمانينات، ومساهمته مجدداً في تأسيس اتحاد نوادي السينما في سورية  1982.

الرأي، وما يتبع تلك الكلمة العجيبة: الحرية، الاستقلالية، الحوار، مناهضة القمع، قمع السلطة الرسمية، قمع السلطة الاجتماعية، قمعُ عنجهيةِ التخلف، وتجبر أحادية الرأي، صناعة أفلام كضربات حداثية متعاقبة على جدار سميك عالٍ مصمت بدا أنه لا ينهار، الضربة تلو الضربة والفيلم تلو الفيلم، في أشد الظروف صعوبة، فكرياً وأمنياً؛ لقد وثق أميرلاي الحرب اللبنانية مواجهاً بكاميرته الرشاشات والبنادق، لم تغيبه وطأة أحداثها ولم تغمره ولم تبعده عن قول ما يريده هو ذاته، لم تردعه البندقية كما لم يمنعه الرجل المتسلط بزيّ شرطي، أو بلباسٍ مدني يلاحقه، عن تصويب كاميرته كمشرط يزيل أورام مجتمعه مصوباً في كل اتجاه، وراءً أماماً، يميناً يساراً، إلى الأعلى وإلى الأسفل.

في فيلم "الدجاج" الذي أنجزه في أواسط السبعينات خالف أميرلاي الآراء النضالية السائدة وخرج إلى قرية سورية تعتاش على تربية الدجاج شاهراً كاميرته في وجه الإنسان العادي، مطاولاً بالسخرية المريرة منه تخلفه وجهله، سكونه وتخاذله، انكساره وتكسيره لكل بارقة محتملة، حيوانيته، "دجاجيته" إذا حاولنا لغوياً مجاراة سخريته سينمائياً... واضعاً "شخصيات أفلامه" في خطة سينمائية محكمة. "متطرفاً" حرّك شخصياته، ثبّتها، أطرها في مدجنة، محققاً ذروة تصعيدٍ كثيرون اعتبروا أنه وصل به إلى مشارف سادية سينمائي -كما يأخذون عليه أيضاً في تجربته اللبنانية، وفيلمه مثير الجدل "الطوفان"-  لكن جواب أميرلاي عن كل ذلك، وردّه،  كان سينمائياً في فيلمه أيضاً "الدجاج"، عندما تدخل متعمّداً في اللعبة السينمائية بكل ذاته بأكثر الطرق فجاجة: فجّر دجاجة أمام كاميرته الراصدة، تطايرت أشلاء وريشاً، محولاً كل عدوانيته الشخصية إلى ما تعنيه الدجاجة وما تشترك به مع الشخصيات "الموثقة" مصدراً حكمه الحاسم عليها، معبراً عن غيظه العميق وخذلانه من قبل من يحاول إنهاضهم، وقاصداً ربما: "ما باليد حيلة" لو استطعت لفجرتهم أيضاً.

شعرية قاسية حسمت إبداعية السينمائي التسجيلي عمر أميرلاي ووضعته على مساريْ إنجازين كبيرين: فعمر اختار السينما الوثائقية عازفاً عن الروائية، واضعاً نصب عينيه ترسيخ هذا النوع كوسيلة آمن بها للحديث عن مجتمعه كما يراه، ولكنه أيضاً ومن جهة أخرى، ارتقى بعمله وأوصله كما كبار التسجيليين إلى درجة الإبداع الصرف، مرسخاً كل ذلك كمفاهيم لها ما يثبتها على الأرض عند أجيال جديدة من السينمائيين الشباب وغير الشباب، ممن وافقوه أو اختلفوا معه في "الرأي" مصعداً على الدوام ما تعنيه "الرأي" أيضاً: رصد الواقع من منظورات مختلفة... وجهات نظر متناقضة ..تمرد.. وصولاً إلى الثورة.. مروراً بفيلمه عن المسرحي سعد الله ونوس و فيلم عن رفيق الحريري... وفي النهاية الفيلم الذي كان يستعد لإنجازه بعنوان "إغراء".

واليوم بعد أن رأى النار توقد من جديد؛ غاب عمر أميرلاي الذي طالما استمات موقظاً بصيص الذاكرة في مشاهدي أفلامه، كي يحفاظ على أضوائه القديمة التي خذلها سد الفرات.

 

####

 

عمر أميرلاي : رحيل العدسة الجارحة

فجر يعقوب - دمشق  

رحل عمر أميرلاي فجأة دون مقدمات . رحل صاحب ( الحياة اليومية في قرية سورية ) باقتدار من دون أن يشعر للحظة بخيانة الفيلم الوثائقي له، فقد أخلص له ككائن حي، كما لم يخلص له أحد مثله ، وكأنه لم يكن مدربا على سواه . لم يكن يملك أميرلاي في ذلك سوى حجة الاخلاص لهذا النوع الذي ظل حتى وقت قريب عرضة للاهمال والتغييب. وإن كان أميرلاي قد أسس بحضوره لفيلم يقيم في الذاكرة التوثيقية العربية، فإنه يؤسس بغيابه لنقطة تحول ستعيشها السينما الوثائقية السورية التي لم تعرف مخرجا آمن بها كما هي حال أميرلاي صاحب الفطنة الخاصة ، ومجموعة من الأفلام المتفردة . عاش أميرلاي تحولات كبرى منذ أن كان طالبا في فرنسا ، وقد شهد بأم عينه ثورة الطلاب فيها ، وربما كما يشير هو في أمكنة أخرى ستكون هذه الثورة من شدت انتباهه نحو أهمية العين الوثائقية في اللحاق بالتطورات والسعي نحو "خرزها" واعادة توجيهها في الحياة الواقعية،  وهو يسبغ عليها أفكارا خلاقة ومعينا من التركيب الحر كما شهدنا عليه منذ بداياته الأولى .

الحياة اليومية في قرية سورية

وأميرلاي الذي بدأ مشواره مع ( محاولة عن سد الفرات ) لم يتوقف للحظة عن تأجيج مشروعه الوثائقي بما يكفي القول إنه واحد من صانعي مجد هذه السينما، حين لم تكن تغري كثرا من حولها، فضلوا العيش مع لعبة الممثل والاضاءة والديكورات، أما هو فقد اختار تجنب كل تلك المسميات لاعتقاد خاص أنها قد لا تعرف الإخلاص، وإنها في مرات كثيرة يمكن أن تجيء راوغة وخادعة ، ولهذا انصرف بيقين لا يعرف الفداحة والخسران نحو تنطيق المآلات الواقعية لكل الشخوص الذين مروا على أفلامه ، وأمام عدسته . في ( الحياة اليومية في قرية سورية ) ثمة حشود من الصوفيين والدراويش الذين لا يمكن مشاهدتهم سوى في فيلم جسور من هذا النوع ، ففي المآل البصري يمكن لهؤلاء الدراويش الاجتماع على الهامش درجة الإعجاب الهستيري بالطرق الخاصة بهم، ولولا هذا اليقين الذي ميّز سينما أميرلاي، لما أمكن البتة زرع هذه المحاولة في جسم فيلم ما يزال حيّا وطازجا، ويعي إمكانية أن يكون متنبئا بما ستؤول إليه الأحوال، وكأنه صوّر بالأمس، حتى من بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على إطلاقه في فضاء وثائقي لا يعرف الهدنة أو المهادنة، لجهة اختراع مضاء الوثيقة وحدة تنقيط علاماتها ، وهذا ما لم يتوفر إلا لمخرج من طراز عمر أميرلاي، صاحب العدسة الجارحة، التي لم تعرف أي نوع من فلترات الرتوش المزيفة . في فيلم ( الدجاج )، وكان موضوع حوار لي معه مرة، كان يعرف أميرلاي ويشترط منهجا للحوار يتطلب الدقة في نقل التفاصيل إلى الشاشة. يومها تحدث لي عن سبب إخلاصه للفيلم الوثائقي الذي تتوفر فيه كل شروط مراقبة الواقع ، وإعادة تنقيطه بما يضمن التغلغل فيه، من السطح، وحتى أعمق مساحات الوجود التي يفرضها. قال إنه سيخلص للفيلم الوثائقي ، لأن هذا الفيلم لا يغدر بصاحبه، كما تفعل أحيانا الأفلام الروائية بأصحابها . أراد عمر بأفلامه المتتالية أن يحلق مثل صقر جارح ، لأن الخراب عميم ، كما قال من حول الجميع .

أذكر يومها أن فيلم ( الدجاج ) عرض في ظهيرة يوم قائظ في معهد الدراسات الشرقية ، وكان لعمر أسبابه التي لم يفصح عنها لاختياره مثل هذا التوقيت . ربما كان يوجّه المشاهدين بغريزته نحو المصير نفسه الذي لف أصحاب المداجن ، بعد أن انتقلوا من زراعة القطن إلى تربية الدواجن . هكذا من دون رؤيا مسبقة ولا دربة تسمح بإعلاء شأن هؤلاء المربين وهم يخوضون غمار معارك دونكيشوتية تنتهي بأحاديث مطولة ومملة سرعان ما تتحول في خضم الاحباطات المتتالية إلى فشل ذريع ونقيق بشري لا ينتهي . هذه القدرة على إضفاء التهكم على موضوعاته رافقته في أفلامه كلها تقريبا ، لا بل أنه هو نفسه، لم يتوقف عن فرض جرعات تهكمية اشتهر بها في حواراته، بوصفه متخصص في صنع أفلام عن شخصيات سياسية غادرت عالمنا اغتيالا، كما هو حال بنازير بوتو ورفيق الحريري ، درجة إطلاق لقب ( عزرائيل ) على نفسه في ممازحات طويلة لم تنته إلا برحيله هو هذه المرة.

فيلم طبق السردين

في ( طبق السردين )، ثمة شيء شخصي يفرض حلا مأساويا . مضمون من دون مسلمات. حواره مع خالته عن السمك الذي منعوا من أكله في يافا مع قيام دولة إسرائيل، واكتفاء العائلة بطبق من السردين، اختصارا منها، لما كان قائما من قبل، هو نوع من الاستعارة للنكران .حينها كان عمر صغيرا ، وقد علقت بذاكرته رائحة السردين، التي كانت تفوح منتنة في أيام الصيف بقوة ، درجة تذكره إسرائيل دائما. وهذا ما تفعله الذاكرة المتيقظة التي تقوم على الروائح والألوان الأولى، فحين تفتح علبة السردين، وتفوح تلك الرائحة التي أشار إليها تضرب إسرائيل بقوة على الذاكرة والأعصاب، درجة الترنح والارتخاء باعتبارها المسؤولة عن تصنيف الحلول المأساوية ورسم مصائر الجميع، وليس لعائلة واحدة فقط، فقدت القدرة على تناول السمك الطازج، بل لعموم كل تلك العائلات التي وفدت من المأساة، وتركت وراءها الروائح والألوان التي اتفق على أنها هي من تشكل الذريعة المتفردة لإمضاء هذا الفيلم بهذه الطريقة المتهكمة والحرّة. ويقينا أن معالجة أخرى، لم يكن ممكنا لها أن تفرض مثل هذه الحلول المأساوية التي يفرضها المخرج، حين يصبح مآل ومصير العائلة معلقا في فضاء السردين المعلب، وهو ذات المصير الذي فرضته إسرائيل على الواقع العربي المعلب أيضا لحظة قيامها على أنقاض شعب، فرض أمثولته في الحياة وفي العيش، حين لم يكن ممكنا إلا استشعار ذلك عن بعد.

ربما أراد أميرلاي استكمال ما بدأه رفيق دربه الراحل المسرحي سعد الله ونوس حين انحنيا معا على وضع تصورات (الحياة اليومية في قرية سورية)، وقررا الاحتفاء بهذا الواقع على طريقتهما، من خلال فرض أمثولة سينمائية صادمة ، لم يكن ممكنا وقفها أو تسييجها، فالبؤرة الواحدة من حولهما متسيّدة وتقول شيئا واحدا كان بمثابة فرض رؤية واقعية على سينما لا يمكنها أن تحيد أصلا عن وجهتها المقررة لها. إذ لن يخذل أميرلاي صاحبه، فيصور عنه فيلما وثائقيا متمهلا بعنوان ( ثمة أشياء كثيرة كان يمكن  للمرء أن يقولها ). كان بوسع أميرلاي ألا يتمهل  في صنع هذا الفيلم ، فثمة أشياء كثيرة فيه لم يقلها كاملة على جري عادة أفلامه، فالقدر حينها لم يرحم سعد الله ونوس،  وربما تتكرر الآن الصورة معكوسة، فعمر أميرلاي الذي غدر به قلبه فجأة ومن دون مقدمات كلينكية ، كان يصور فيلما عن نجمة سورية عرفت أمجادا سينمائية حين كانت سينما القطاع الخاص السوري متوهجة في سبعينات القرن الماضي ، وقبل أن يأفل نجمها وتعتزل ، كانت "إغراء" نوعا من النساء اللاتي  عشقن السينما بطريقتها وقدمتها بطريقتها ، ولم تطلب شيئا حيال شجاعتها وتهورها أحيانا. وهنا ربما سيكمن معنى فيلم أميرلاي الذي لم يكتمل تماما ( إغراء تتكلم ) . فمن المؤكد أن أميرلاي كان يعرف طريقه جيدا إلى هذه الممثلة التي أغلقت على نفسها ، وعلى مكنونها الشخصي الذي كاد يوما من بعد معالجة مأساوية صرفة أن يحول الجميع للعب في ساحة عمومية ، كانت فضاءها ورمزها ، فقد كانت ترفع بطريقتها من شأن الفيلم ليس في القطاع الخاص وحسب ، فسينما القطاع العام أيضا كانت ممتنة لها في بعض انعطافاتها الكبرى . لا أحد ينسى مشاركتها في فيلم ( الفهد ) للمخرج السوري نبيل المالح . هذا موضوع آخر ، كان بإمكان عمر أميرلاي أن يقوله لنا بطريقته ، فهو شيخ طريقة سينمائية ، وصاحب عدسة جارحة ، لا يمكن لها أن تتكرر دائما .

هامش :

*في العدد الأخير من المجلة الوثائقية  قراءة مطولة في فيلم ( الحياة اليومية في قرية سورية ) لكاتب المقال

 
 

الجزيرة الوثائقية في

06.02.2011

 
 
 
 
 

منذ الأمتار الأولى

بدايات الفيلم الوثائقي السوري

فجر يعقوب 

منذ الأمتار الأولى تبدو ( الحياة اليومية في قرية سورية ) 1974 للمخرج السينمائي السوري عمرأميرالاي ، وكأن ثمة مايشي بالفعل أن البداية تكمن هنا ، وبخاصة في تلك الكادرات في " ذهب " الصحراء الذي لايهدي سوى الرمال فقط . ثمة أيدي " بريئة " مخشوشنة هنا تقوم بالفعل الشائن نيابة عن هذه الصحراء المتوحشة ، حين تنحّل ذرات الرمال وتتذوب أمام عدسة الكاميرا في أسلوبية قلقة يعلن عنها الفيلم السوري بصراحة ، ولايخفي تردداتها ، وكأن كل التصورات البصرية التي وضعها المخرج برفقة المسرحي الراحل سعد الله ونوس عن أهل قرية  مويلح ، الواقعة شمال شرق سورية ، ستشكل بداية السينما الوثائقية الحقيقية ، أقله هنا في سورية ، وكأن حكاية هذه السينما تبدأ هنا ، ويراد لها أن تنتهي هنا ، اذ يبدو أن "  الأشباح " المستغرقين في كادرات الأسود والأبيض ليسوا على عجلة من أمرهم ، وانما من يبدو مستعجلا في واقع الأمر ليس إلا الشريط المصور  ، ذلك أن شبحية الصورة تظل هي لغة الوصل بين الفلاحين الذين يتنقلون بين بيوتهم الطينية الموجودة في خلاء عازل ، كما لو أنهم يقومون بعمليات توليف الفيلم من داخل الفيلم نفسه .

لاشك أن ( استخدام ) هذا الفليم كذريعة للحديث عن بدايات السينما الوثائقية السورية ،  وإن سبقتها ( محاولة عن سد الفرات ) 1972 للمخرج نفسه ، يشكل سانحة ذهبية للقول إن هذه السينما بدأت مع ( الحياة اليومية ) ، وأن هذا الفيلم سوف يستمر من بعد ذلك بفتح الرموز المغلقة التي تتشكل منها حيوات أهل قرية مويلح على افتراض ، وهذا سوف يقال حرفيا ، إنه نوع قائم بذاته ، ذلك أن الأيدي التي تقوم بين الفينة والأخرى بتخيل الرمل لا يبدو أنها ستدخل في عراك مع ذرّاته حتى لو أنها كانت تذروها على مهل على عظام جيفة متموتة ، أو في لقيا حذاء مقطّع .

الريح التي تهب على أهل مويلح من جهة الشرق ولاتحمل لهم سوى وعودا بالغبار ، تجعل منهم بشكل أو بآخر ممثلين يقفون أمام كاميرا أميرلاي ليعيد تنقيط تلك العلامات بصمت ، كما في صور العائلة المجتمعة على " وليمة " الخبز والشاي ، ليخبرنا الفيلم أن زاد يومهم يبدأ في الواقع هنا ، وأن على المشاهدين ، أن يتوقعوا أن انصراف أفراد هذه الأسرة إلى العمل في الأرض والحقول القحطة على وقع الأهازيج الخاصة بتلك المنطقة ، انما للتأكيد على أن مصائرهم لن تكون بعد اليوم إلا معلقة في ذلك " الخواء " المستقطع كلية من صمت مستحدث وبائن ، ولايقوم سوى على هداية الصحراء ، فالفيلم عموما يمكن له أن يظهر من قبل وجودهم كممثلين أو من بعد هذا الوجود  ، وهذا قد لايشكل فارقا جوهريا ، طالما أن أهل مويلح يمكنهم حجز أمكنة اضافية فيه للتثبت من يقين الرمال ومصير الزراعة الآيلة إلى تفكك التربة وعدم صلاحها ، فهنا المعلم الذي سيقوم من بعد كل ذلك على رطانة اللغة المدرسية في الصفوف الابتدائية ، ويقوم بتلقينها للطلاب الصغار في هذا المقلب الآدمي ، وهي ذاتها الكلمات التي لن تجدي ، ذلك أن مراد الجميع يتعدى هذه الرطانة اليومية إلى ماهو أبعد من شبحية اللغة التي يبصر بها المعلم طريقه إلى غرفة الصف الطيني .

كل هذه الموجودات والتفاصيل الصغيرة التي ينشأ عنها الفيلم ، تخبر من زاوية أخرى أن اللقاء مع المختار الأمي جاسم الذي ورث " المخترة " عن أبيه عام 1952 لايملك راديو ، وسيلة الاتصال المباركة في تلك الأيام مع العالم المحيط ، ليعرف متى حلت هزيمة حزيران ، إنما تشكل أسلوبية تجمع هنا بين المزاج التوثيقي وايقاع القصة الروائية التي جعلت من أهل مويلح مادة لها ، وهذا المفتاح الأسلوبي – إن جاز التعبير – الذي اعتمده المخرج ، وربما المونتيير قيس الزبيدي لاحقا أعطى المشاهد وقتا للتأمل في مجرى العملية ، كما لو أن الجميع هنا يتعاطون مع الواقع المرّ في لعبة تمثيلية ، وأنهم ليسوا مجرد فلاحين بسطاء يقومون بلعب أدوارهم الصغيرة الثانوية أمام الكاميرا ، وأنه يتوجب على الشريط الوثائقي أن يسجل بحرفية مايدور أمامه من أحداث وأفعال دون الحاجة الفعلية إلى تصورات أميرالاي – ونوس – الزبيدي ، وهذا في الواقع ينجزه القطع بين الرموز  الكثيرة التي تتجمع على أرض بائرة تتشكل بهدوء على مرأى من أهل مويلح ، وبين المستقدمين إليها من معلمين وأطباء وبيروقراطيين . هذا القطع يشكل أيضا في وجه منه " فلترا " يقوم على تنقية الدور الواقعي الذي ينشده هؤلاء الفلاحين في مواجهة لعبة السينما الوثائقية المصورة ، ويقدمهم بوصفهم أولئك الممثلين الذين يمتلكون عوالم داخلية حارة تزيد من حضورالصورة وتكويناتها الشفافة الأنيقة ، ذلك أن عنوان الفيلم لايشي من الآن فصاعدا عن حدث يدور في قرية بعينها . إنه ينكر الاسم ، لابل وينقحه على نسج الحياة اليومية من خلال نول بصري ، كما لو أن هذا يتكرر من قبل ، وسيتكرر من بعد من دون حصول كل تلك الأخطاء الفادحة لدى الآخرين الذين ينتظرون مثل هذه الأخطاء ليقدموها بوصفها دروعا في الاملاء البصري الذي يقوم عليه التصور الدرامي للفيلم ، لأن بناؤه المشروط يبدو كما لوأنه يقوم على تصورات وتخيلات مسبقة ، ولكن هذا نتاج وثائقي يقيض له أن يشكل تلك العلامة الفارقة في السينما الوثائقية السورية خاصة ، والعربية عموما التي أطلقها اميرلاي في ( الحياة اليومية ) ولتكر من بعده كل تلك الأفلام التي انشدّت إلى الريف السوري بغية محاكاته ، ومحاكاة الجدات والأمهات الريفيات فيه علّ وعسى يمكن اقتناص موجودات جديدة سوف تتشكل منها بعض الأفلام اللاحقة في سجل هذه السينما الوثائقية التي لم تفقد نضارتها ، ولكنها لم تتجاوز هذه الحياة اليومية في محاولة تخفيف وطأة القطع والتركيب والمراقبة والتسجيل ، وإن قدم بعضها رؤى جديدة في بعض الأحيان ، ولكن من دون شرط اعادة تركيب الواقع بالطريقة ذاتها ، اذ لم تنص الحياة الطبيعية في أي شرط من شروطها على تجاوز التركيب الذكي الذي اعتمده أميرلاي وقدّم له امكانية أن يصبح علامة فارقة في مجاله ، لأن السقالة الدرامية في هذا الفيلم ستتشكل على مدى ثمانين دقيقة من يوميات هؤلاء الفلاحين البسطاء ، ومن نفسيات الطاعنين في السن منهم ، وقد خبروا الحياة بطرائق مختلفة ، لهذا سوف يلجأ المخرج أميرالاي إلى ذلك العجوز الذي ينزع ثوبه عن صدره أكثر من مرة ، وليجمده في كادر منتقى بعناية في نهاية الأمر ليبوح بما يثقل صدره بالذات ، ذلك أن بعض هؤلاء الشيوخ انما يشكلون فاكهة لمراقبة دقيقة ، وماعلينا كمشاهدين سوى التحقق من هوياتهم ، لأنهم هم من سوف يستثيرون فينا الرغبة في التأمل .

هل يمكن القول بعد كل ذلك أن ( الحياة اليومية ) هو نوع سينمائي قائم بذاته ؟

قبل الاجابة عن هذا السؤال ربما يجب تغطية ذلك بالقول إنه في الفيلم الروائي يتجلى الفعل قبل كل شيء في الممثل ،وأن العلاقات المتبادلة مع المحيط تلعب هنا دورا دراميا نشطا في تقديم هذا الممثل للناس ، وبالتالي فإن مأزق البطل الدرامي في السينما يقبع في الوسط بين النظرية والتطبيق في فن الممثل . والبناء الناظم للفيلم السينمائي يطل هنا بوصفه علامة غير قابلة للقسمة مع ابطال غير قابلين للقسمة أيضا . هنا البطل يجد نفسه في أوضاع قائمة ومكتملة وعليه أن يتحرك  ضمنها .  أما الأبطال في الفيلم الوثائقي ، فهم يجدون أنفسهم في أوضاع أكثر تأزمية من أبطال رواية ما ، وكأنه لاحلول أمامهم ، وليس لديهم امكانية إلا في تجاوز مايمكنهم قوله عن أحوالهم ، وماآلت إليه اوضاعهم المكربة في قرية يمكنها أن تصبح افتراضية أيضا وتقع في أكثر من منطقة جغرافية ، فليس هناك تعداد فعلي للرمل الذي يتشكل منه عالم هؤلاء البسطاء ، وهذا فيه استحالة بالطبع ، ولايبدو أن هذه القسمة ستكون مجدية في الواقع ، لأنها قابلة للانشطار أو التعدد ، وعليه يمكن القول إن أميرلاي أسس هنا بشكل مبكر أسلوبا يغطي هذه الفكرة ، لأن هذا الفعل الذي يخلقه هذا الفيلم عبر اعادة رسم الواقع بغية توثيقه واعادة تركيبه بأدوات الواقع نفسه ، اذ يمكّن حبّات الرمل التي تنخّل بالايدي ذاتها أن تملأ حذاء فارغا ، وأن تغمر علبة سردين فارغة ، وأن تظلل حيوات ماتبقى من اشباح آدميين ليس بوسعهم سوى الانتقال إلى امكانية التأكيد أن كل قراءة متشكلة في الوضعيات التي وجدوا فيها ليست إلا ملجأ آخر ، يقومون بالاحتماء واللوذ به ، حين يعاد رسم الظلال البشرية في كادرات متقنة ومونتاج داخلي ذكي ، يؤكد  أن فكرة الانشطار والتعدد التي تميز هذا النوع لم تجيء من فراغ  ، وهذا مايفعله أميرالاي ، على امتداد الفيلم  ، وهو ماشكل في الحقيقة بدايات الجدل حول السينما التي سيصنع منها أفلامه اللاحقة ، وملاحقة واحدة لأبطال الفيلم تؤكد هذه النظرة ، ويصبح اللجوء إلى هذا الانشطار الذي ينتج عن احوال صادمة يعيشها هؤلاء الفلاحون ، وبعضهم غارق عن عمد في  أمية متحققة ، حتى حين يلجأون إلى الخبز المصنوع من القمح والشاي الأود الثقيل اللذين يشكلان تسعين في المئة من طعامهم اليومي ، وإلى أفعال الشعوذة المتعلقة بأوضاعهم الصحية ، فإن أميرلاي  يستبق هذه الطروحات بصور لاتتعدى مضغ اللقيمات ، ذلك ان الايقاع الداخلي للفيلم ينشا في مثل هذه الحالة عن التصادمات الدينامية التي يلجأ إليها الشريط ، كما هو حال المرضى في الأوتوبيس المتوجه إلى مدينة دير الزور لمراجعات مستشفياتها بعد أن أكدوا عجزهم عن تأمين الطبابة الصحية في أماكنهم ، حين تحل الشعوذة محل كل شيء ، حتى في أبسط العلامات الطبية . هذه التصادمات الدرامية تؤكد بالفعل أن السؤال عن دينامية السلوك الانساني المتجذر في هؤلاء " الأبطال " يكمن في الواقع في مادة هذا الفيلم دون سواه ، وهو مايقود إلى دينامية نفسية ليست أقل انعكاسا من كل تلك الوسائط الداخلية المتصلة بالعالم الخارجي المحيط بهم ، وهم يعيشون ويدورون فيه . والمثال العاكس الذي ينشأ عنها يكشفه احساس مبكر بواقع مترد ليس ثمة امكانية لاعادة تركيبه إلا من خلال هذه الفرضية حول الانشطار والتعدد الذي ينطلق منه الفيلم .

هل كان يحدث كل ذلك صدفة ؟

لايمكن الاجابة بنعم عن مثل هذا التساؤل ، ذلك أن الاشكاليات التي يطرحها فيلم ( الحياة اليومية ) كما سبق وأسلفنا، قائمة بالفعل على فرضية من هذا النوع تتجلى أكثر فأكثر على متعة الكشف من خلال كادرات متقنة  تشكل بنية درامية متصاعدة مستقلة يمكنها خطف المشاهد من مقعده الوثير ليفكر، علما انه ليس من الأكيد أن جميع " المختطفين " هنا سوف يقبلون بمثل هذه الاضافة من حول هذا الفيلم – العلامة ، وربما يقبلها البعض بتشكك ، باعتبارها موضوعا اجتماعيا قابلا للحل والمعاينة والمساومة إن أمكن على أوضاع حيّة . وحتى يصبح الموضوع الذي نقاربه أكثر جلاء في مثل هذه الحالة ، يمكن القول إن التعبير الوصفي ينتج هنا عن مشاعر الأبطال  الواقعيين ، وهم ينكبون على لعب أدوارهم كي يعاد تشكيل هذا الواقع من خلال حيواتهم ، اذ تبدو أن ثمة ازدواجية في المعنى يمكن المراهنة عليها بوصفها علامة جديدة في التأليف الوثائقي ، وهي في نفس الوقت معطى عن العلاقة مع العالم المحيط . سيتحصن المؤلف خلف هذه الازدواجية ، لأن السؤال سيتأكد خلف شحوب الصورة نفسها التي يلجأ إليها وهو يعاين الواقع في مويلح عبر قوانين داخلية ، هي كل مايبقى له في  هذه اللعبة الواقعية المثيرة .

من فيلم ( الحياة اليومية في قرية سورية ) بدأت مرحلة نوعية في ابداعات السينما الوثائقية العربية دون شك ، وبالتأكيد ليس الكمّ ، بل النوع الذي يتحقق فيه ، وهو بالتأكيد ماحدث ، ويحدث في سينما أميرالاي اللاحقة التي تشكلت منها بعض أفلامه الأخرى مثل الدجاج وطبق السردين على سبيل المثال ، ذلك أن المؤلف الوثائقي هنا لايحصر خياراته وموضوعاته في قالب واحد ، بل يدعو أبطاله الواقعيين بجرأة إلى فكرة الانشطار والتعدد بغية الانكشاف أمام الكاميرا ، وليظهروا عراة من كل ستر ، ولهذا سيظل يحمل مغزى أكبر أن تقوم افلامه اللاحقة بعكس المصائر المختلفة لأبطاله المنتقين بذكاء مدروس ، بوصفهم النموذج المحتذى من خلال تأكيدهم بعفوية على مرونة المحتوى ، ذلك أن الشكل يظل في المقام الأول ملقى على عاتق التوصيل بين فكرة الانشطار والتعدد التي يخبئها أميرالاي في معظم أفلامه تقريبا ، ذلك أن حيوات هؤلاء " الأبطال " تحمل معنى الازدواجية وهي تظل محك الوصف والسرد الوثائقيين اللذين يبعثان على تحييد المنطق النقدي في محاولة تتبع هذه السينما الشديدة الخصوصية القائمة على العلاقة بين السلوك الداخلي والخارجي لهؤلاء الأبطال  ، لأنها لاتجيء مباشرة ، فهم ينهون شيئا أمام الكاميرا ويخفون شيئا آخر ، وهذا ينتج عن تلك الرطانة التعليمية المدرسية التي يعيشون على وقعها ، ويؤكدون من خلالها على واقع أشد رطانة ، يتفكك ويتحلل بدهاء ذرات الرمل وهبوبه المنقطع النظير .  والسؤال الأول الذي يمكن له أن ينتج بالعلاقة مع كل ماتقدم يكمن فيما اذا كانت الواقعة الدرامية في هذا الفيلم ايجابية لجهة العلاقة مع التيمة المطروحة سينمائيا بوسائط اللغة الوثائقية ذاتها . يمكن القول هنا إنه من المهم في الاجابة ليس الكم ، بل الجانب النوعي في السؤال ذاته ، ذلك أن الواقفين بدراية أمام الكاميرا يقبعون خلف الاشارات بوصفهم رموزا واقعية ، وليس مجرد أعداد مؤلفة صمّاء ، وهم أقلية في النوعية ، ولكنهم يشكلون مايمكن تسميته بايديولوجية التمدد في الفراغ ، لأن نظرية الانشطار والتعدد التي نحيل إليها الفيلم لاتقدم سوى وعيا ذاتيا يكاد يغطي الأبطال أنفسهم ببديهيات تنشأ عن السينما الوثائقية نفسها . وفي النهاية ، فإن مؤلفا من عيار أميرلاي يتوجه نحو اشكاليات قريبة من جوهر تفكيره تقوم على بناء متعدد أيضا في الشكل والمضمون ، وهذا يشكل عن سابق تصور وتصميم علاقة ايجابية بين هذه الفروقات ، فثمة سؤال كان ينشأ هنا على الدوام بشكل واضح وصريح عن العودة دائما إلى المدرسة لتقديم أفضل مافيها من رطانة يومية . وإذا كان عمر أميرلاي ينجذب نحو هذه العلامات التي يرسمها في الفليم بوصفها حلولا مسبقة ، فإنه من غير المشكوك به أبدا أن تكون أشكال هذه العلامات تنص على اعادة ملء الفراغ برمل التفاصيل اليومية لحياة هؤلاء غير القادرين على الانعتاق إلا من خلال التدرج في الرطانة غير المؤجلة ، ولكن إذا كانت علاقة المؤلف تتشكل من خلال عوالم أهل مويلح ، فإن ذلك يجب أن يتبعه اعتراف أن الشكل في الفيلم محلق فنيا ، والفضل في ذلك يعود إلى الأسلوبية وآلية العمل عليها ، وهو ما اعطى نتاجا متعطشا لفرضية الانشطار والتعدد في حيوات أبطاله المتجددين ، القائمة على خضّ الوعي دون تردد ورجّه في أماكنه المرئية وغير المرئية اذ يبدو أنه من خلال هذه الوجهة الدرامية المعقدة يمكن استمالة كثر منهم نحو جراحة أشد صرامة بغية توصيف أمراض مزمنة يعيشها الريف السوري .

هنا في ( الحياة اليومية ) تظهر الوجوه دائما في مقاطع منفصلة ، كما لوأنها تخضع بالفعل إلى جراحات غير تجميلية في كادرات متتالية ، وهي جراحات من غير مخدر ، اذ لم يكن متوفرا لحظة الانحناء عليها بمشرط البحث والكشف ، كما لوأن المخرج لايستعيض عنه  إلا بنصل مشرط حاد لايمكن القبول به ، كما لايمكن الاستغناء عنه . وهذا لايحدث إلا في السينما الوثائقية  ، اذ لايمكن اعادة ترتيب الواقع – فنيا – إلا باللجوء إليه ، وأميرلاي لايفوت فرصة من دون الاستقواء بهذه الجراحة الضرورية ( الحديث عن حلول عشائرية في علاقات الناس ببعضهم البعض – رطانة الدروس اليومية – اتقان الجهل في معارك الحياة اليومية ) للخروج بتفاصيل مؤرقة ليس لأصحابها فحسب ، بل ولجملة مشاهدين يقعون في مستقبل الصورة ، لأن الاطلالة من خلال وجوههم على خيبات الرمل بعد ذره في الفراغ ، وهي ذرات لايعاد صوغها ابداعيا إلا من خلال مأثرة الانشطار والتعدد التي تقوم عليها حيوات أهل مويلح ، والتي تسمح بنشوء ازدواجية في المعنى والمبنى في حياة من سبق له وشارك في فيلم وثائقي يعتبر بحق بداية السينما الوثائقية في سورية ، بالشكل الذي يجب أن تكون عليه ، كتحقق في الشكل والمضمون الذي يقوم على دعائم فلسفية وتعبيرية وبصرية لاتهادن ، فالأفلام الوثائقية لاتخون صاحبها إن أدمنها ، وهذا نزوع خاص بهذا المخرج الذي لم يخن ولعه بهذه السينما يوما ، الولع القائم على الانشطار والتعدد ، اذ لولاهما لبدت سينما أميرلاي ضالعة في فراغ لايستهان به ، ولما تمكن فيلم ( الحياة اليومية ) من الصمود في هذا الفراغ والاستقواء عليه بما يضمن له البقاء الدائم والمتجدد في أي مستقبل يعرض فيه. 

 

مجلة الجزيرة الوثائقية في

06.01.2011

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004