إلى سيد الدراما العربية.. سلامتك يا أستاذ الأساتذة
نقاوم معه المرض اللعين بصحبة سليم البدري وسليمان غانم
ومفيد أبوالغار وحكمت هاشم
محمد هشام عبيه ونانسي حبيب
الكتابة عن مبدع حقيقي أصلي وغير مزيف بحجم «أسامة أنور عكاشة» عمل مرهق
وخطير؛ لأن ذلك يتم مع «عميد الدراما العربية» بحق، يمكنك بطبيعة الحال
الاختلاف أو الاتفاق حول بعض أعماله أو حتي بعض آرائه التي يقولها علي لسان
أبطاله أو عبر قلمه اللاسع في مقالات أشبه بكرات النار، لكنك بكل تأكيد لا
يمكن أن تنطلق إلا من قناعة مفادها أن هذا الرجل هو الذي «أدّب الدراما» أي
جعل المسلسل التليفزيوني به قبس وروح من الأدب المقروء، وهو الأمر الذي
يجعلك تشاهد «ليالي الحلمية» و«زيزينيا» و«الراية البيضا» وغيرها من روائعه
الدرامية مشدوها مستمتعا كأنك تقلب صفحات رواية مشوقة بيديك. «عكاشة» نقطة
مفصلية في تاريخ الدراما العربية بكل تأكيد، ولابد أن التاريخ سيقف طويلا
عند منجزاته، بما يمكن أن نسميه مرحلة ما قبل أسامة أنور عكاشة، ومرحلة ما
بعده.
وهو يقاوم الآن المرض بشجاعة وشرف وبراءة أبطاله الذين عشنا معهم عمرا
طويلا، لا نملك له سوي الدعاء بتمام الشفاء، وأن نتسلل إلي عالمه الدرامي
والأدبي الثري بصحبة أبوالعلا البشري ومفيد أبوالغار وحكمت هاشم وحسن
النعماني وسليم البدري وسليمان غانم وبشر عامر عبدالظاهر، وفتح الله
الحسيني، وأشرف عفيفي لنهتف من القلب.. سلامتك يا أستاذ.
رحلات الشهد والدموع بحثا عن الضمير والحب والوطن بدون رفع «الراية البيضا»..
أبدا
إذا كان كثيرون يعتبرون نجيب محفوظ «أيقونة» الأدب المصري وعاطف الطيب
«فلتة» في الإخراج السينمائي ويوسف وهبي «عميد» المسرح العربي، فإن أسامة
أنور عكاشة بالنسبة للدراما العربية هو العميد والفلتة والأيقونة. هو صاحب
بصمة خاصة جعلت من يشاهد مسلسلاته يصرخ بكل ثقة «هذا المسلسل يحمل اسم
أسامة أنور عكاشة». وإن كانت الأفلام أو المسلسلات يتم تسويقها بأسماء
الممثلين المشاركين فيها فإن اسم هذا الرجل وحده علي أي مسلسل يكفي ويزيد.
يكره المط والتطويل ورغم هذا فإن لديه «نَفس» طويلاً جعله يصبح رائدا
ومعلما وأستاذا في مسلسلات الأجزاء، ومن غيره يمكنه أن يكتب أيقونة من خمسة
أجزاء مثل ليالي الحلمية؟ أو ملحمة من جزءين مثل الشهد والدموع في وقت لم
يكن الجمهور المصري أو العربي يستوعب فكرة أن يكون للمسلسل أجزاء في بداية
الثمانينيات؟ والغريب أنه يكتب كل هذه الأجزاء دون أن يفقد نكهته الخاصة،
تلك اللمسة السحرية التي تجعل من يشاهد العمل يتعايش معه، يشعر بأبطاله
فيدخل معهم صراعاتهم ويحزن لانكساراتهم قبل أن يقطف في النهاية ثمرة
الانتصار.
في كل أعماله يأخذنا أسامة أنور عكاشة في رحلة مثيرة وممتعة من إبداعه
الخاص والمميز، ولأن رحلاته يصعب حصرها ولأن أبطاله رحالة ومغامرون ولأنه
عاشق للسفر محب للبحر فإننا سنتوقف هنا فقط عند أهم تلك «الموانئ»..
ليالي الحلمية.. سليم البدري وسليمان غانم
هنا الرحلة طويلة وممتدة عبر خمسة أجزاء كاملة نتابع فيها رحلتين متناقضتين
لمعركة مستمرة بين ذلك الباشا عاشق النساء «سليم البدري» وذلك العمدة طالب
الثأر «سليمان غانم». وبين هذا وذاك تقف نازك السلحدار لتساند سليم أحيانا
وسليمان أحيانا أخري وتلعب لمصلحتها في كل الأوقات. ورغم أن البعض شعر بأن
آخر جزءين لم يكونا علي نفس المستوي فإن الدراما اللاهثة لم تتوقف وسط صراع
إنساني مبهر يجعلك تتعاطف في حلقة مع الباشا وفي الحلقة التالية مع العمدة.
رحلة أبوالعلا البشري
رجل من زمن مختلف، يقرر أن يقوم برحلة ويأخذنا معه. إنه أبوالعلا البشري
الذي يأتي للقاهرة حاملا معه قيماً اختفت وضاعت وسط الزحام. لم يعد هناك
شرف ولا أخلاق ولا مبادئ وإنما أصبحت الفلوس لها الكلمة العليا. يأتي السيد
أبوالعلا لقريبته نعمات التي كان يعشقها صغيرا ويقف بجانبها في مشاكل
أبنائها لكنه يجد نفسه فجأة مثل دون كيشوت يحارب طواحين الهواء.
ضمير أبله حكمت.. رحلة حكمت هاشم
حكمت هاشم.. ناظرة مدرسة نور المعارف الثانوية للبنات التي تربي الأجيال
وتتمسك بالمبادئ لكنها تفاجأ بالجديد كل يوم. هل يمكنك أن تنساها؟ أو تنسي
معاركها مع المدرسين ومع أخواتها ومع طالباتها ومع أولياء الأمور ومع جارها
الذي يحبها في صمت ومع حبيبها القديم وحتي مع صديقة عمرها؟ وسط كل هذا تقف
السيدة حكمت هاشم شامخة رافعة رأسها تكسب معاركها بشرف حتي لو اضطرها الأمر
في النهاية للانسحاب ولكنها ظلت مرفوعة الرأس.
المصراوية.. رحلة العمدة فتح الله الحسيني
دراما جديدة ملحمية من خمسة أجزاء عن رحلة العمدة فتح الله الحسيني يرصد
فيها أسامة أنور عكاشة عن مصر في العشرينيات وحتي الآن. هي رحلة مغايرة عن
تأثير السلطة علي النفس البشرية، عن ذلك العمدة الذي يحكم بلدته بقبضة من
حديد لكنه يتحول إلي طفل صغير عندما يقع في هوي المصراوية. هي الرحلة التي
بدأها أسامة أنور عكاشة وننتظره ليكملها بإبداعه الخاص الذي طالما وقعنا في
هواه.
أرابيسك.. رحلة حسن النعماني
حسن النعماني الشهير بحسن أرابيسك التائه في هذا العالم، يحب فتاة تصغره
ويفقد ابنه ولا يجد نفسه في العمل الذي يعشقه فيهرب إلي الدخان والحشيش،
إلي عالم المساطيل لعله يجد فيه السلوي لكنه يفقد معه احترامه لنفسه
واحترام من يحبونه فيقرر أن يتوقف حتي تدب الحياة من جديد عندما يسمع نداء
وطنه فلا يتردد في أن يلبي ومع محاولة إنقاذ الدكتور برهان العالم المصري،
ليسافر حسن النعماني في رحلة يعثر في نهايتها علي نفسه.
الشهد والدموع.. رحلة زينب
هل يمكنك أن تنسي «زينب» تلك المرأة المنكسرة والقوية في الوقت ذاته التي
تدافع عن حقوقها أمام جبروت حافظ وزوجته دولت؟ رغم أنهما أبناء لنفس الرجل
فإن شوقي كان طيبا وديعا فيما كان حافظ جباراً طامعاً في زوجة أخيه، مات
شوقي وترك زينب وحدها تحاول استرداد حقوقها وحقوق أبنائها، تواصل رحلتها
رغم الصعاب ويواصل المشاهد متابعته لها متعاطفا معها بدموعه أحيانا
وبدعواته أحيانا أخري.
امرأة من زمن الحب.. رحلة وفية
امرأة من الصعيد جالسة في صيدلية بالمنيا تجد نفسها فجأة في رحلة إلي
القاهرة حيث أبناء أخيها، جيل غريب ومختلف يتراوح بين عبدة الشيطان والرجل
الذي يري التدين في الزواج من طفلة ليربيها علي يديه! تقف وفية وسط كل هذا
بشموخ وقوة لا تتخلي عن مبادئها ولا عن حنانها الذي يختفي خلف قناع من
الحزم والوقار قبل أن تجد نفسها فجأة مضطرة للقيام برحلة جديدة إلي لبنان
حيث الصراع مع الإسرائيليين لاستعادة ابنها وحفيدها. هي رحلة امرأة تتمسك
بالمبادئ في زمن اختلت فيه الموازين.
الراية البيضا.. رحلة مفيد أبوالغار
هذه رحلة من طراز خاص بين السفير المثقف مفيد أبوالغار والمعلمة فضة
المعداوي. صراع يتجدد مع كل حلقة يبدع فيها أسامة أنور عكاشة ومعركة بين
القبح والجمال تتفاعل معها وتحارب بكل جوارحك لتجد نفسك في النهاية واقفا
أمام فيلا مفيد أبوالغار ترفع يديك أمام الونش رافضا أن تركع أو ترفع
الراية البيضا.
أنا وإنت وبابا في المشمش.. رحلة إنقاذ عبدالباقي
عبدالباقي.. الموظف الشريف الذي يربي ابنته علي الأخلاق والمبادئ لكنه يجد
نفسه متهما بعد أن قرر الوقوف في طريق الفساد. وهنا تبدأ رحلة مغايرة، ليس
رحلة شخص وإنما رحلة البحث عن براءة عبدالباقي يقوم بها كل من عشقوه وآمنوا
بمبادئه. وداد ابنته ونجاتي خالها وغيرهم الكثيرون لكنهم يجدون الفساد يتسع
ويكبر ليصل إلي أعلي المناصب والدرجات.. فهل تنجح الرحلة في النهاية رغم
العقبات ويحصلون لعبدالباقي علي براءته؟ أنت هنا تضحك وتبكي في الوقت نفسه،
تتفاعل مع الأبطال وتدخل معركتهم ويأخذك أسامة أنور عكاشة إلي عالم غريب
وجديد ومبهر لتكتشف أن المبادئ والأخلاق صارت.. في المشمش.
زيزينيا.. رحلة بشر عامر عبد الظاهر
نصفه إيطالي ونصفه مصري، تائه في دنيا مليئة بالخواجات، عاشق للنساء، يبحث
عن نفسه فلا يجد العنوان. يحب ويخون، يتاجر ويخسر، يتنقل بين المصريين
والإيطاليين واليونانيين لكنه يعود في النهاية لشط إسكندرية الذي يمثل له
العشق والمرسي. رحلة جديدة لأسامة أنور عكاشة في زمن مختلف راح وانتهي يبحث
فيها ذلك المصري الإيطالي عن حقيقة بشر عامر عبد الظاهر.
في أحدث أعماله الروائية البديعة.. سوناتا لتشرين.. ذلك اللقاء المستحيل
بين الربيع والخريف!
لأن «عكاشة» بالأساس كاتب قصة ورواية، فإنه يختلس بين الوقت والآخر بعضا من
زمن ليخرج علينا برواية جديدة، فعلها لأول مرة بعد انقطاع طويل عام 2000
عندما أصدر روايته البديعة «منخفض الهند الموسمي» ثم تلاها بالرواية
الثانية التي لا تقل زخما «وهج الصيف» عام 2001 ليتوقف مجددا عن «حبه
الأول» كما يصفه هو بنفسه قبل أن يعود مرة أخري إلي «الأرض التي شهدت فجر
موهبته» ليصدر روايته الأخيرة «سوناتا لتشرين» في ديسمبر عام 2008،
واستقبلها القراء بحفاوة بالغة حتي صدرت طبعتها الثانية مؤخرا عن دار
العين، ومع هذا تعرضت الرواية لعملية «تعتيم» إعلامي غريبة للغاية.
في «سوناتا لتشرين» لا يتخلي «أسامة أنور عكاشة» عن مفرداته الروائية
المميزة، هناك تضفير واضح بين الأحداث والزمن وأحوال الطقس مثلما حدث في
«منخفض الهند الموسمي» و«وهج الصيف» فقط في (سوناتا لتشرين) اختار «أسامة
أنور عكاشة» أن يجمع بين الحبيبين «الشتاء» و«الإسكندرية»، وكان هذا
اختيارا مثاليا ملائما تماما لطبيعة أحداث الرواية التي رغم سرعة إيقاعها
وسخونة أحداثها بها أيضا تقلبات الإسكندرية في «تشرين» -شهري أكتوبر
ونوفمبر- وفيها الأمطار تهطل وتنقطع فجأة كما يليق بجو تشريني تماما.
ولثالث مرة علي التوالي، بطل «أسامة أنور عكاشة» في روايته هذه صحفي أيضا،
لكنه صحفي متقاعد أو بالأحري صحفي اعتزل المهنة؛ لأسباب جبرية مجهولة
للقارئ وستظل كذلك له حتي منتصف الرواية تقريبا، وكأن المؤلف يمهّد
للمفاجأة والتفاصيل القاسية التي ستتكشف تدريجيا وبأسلوب سردي جديد ومغاير،
فالصحفية الشابة «ميريت فهمي» -لاحظ دقة وبساطة اختيار الاسم الذي يصلح لأن
يكون لمسلمة أو مسيحية- التي تربّت علي قلم الكاتب الصحفي النشط الصاعد
كالصاروخ «أشرف عفيفي» قبل استقالته الغامضة واختفائه المثير بعد يوم واحد
فقط من توليه رئاسة تحرير صحيفة كبري، تأتيها الفرصة عندما تراه صدفة في
أحد المؤتمرات في الإسكندرية، ثمة شيء ما يجمع بين الصحفي المخضرم والصحفية
الشابة منذ أول لقاء، ليس حبا بالمعني المعروف وليست علاقة عابرة في ذات
الوقت، للحظات سيستشعر «أشرف» أن «ميريت» جاءت له في الوقت المناسب تماما
لتعيده مرة أخري إلي الحياة التي اعتزلها، لكن ذكري «تصفيته» عبر مغامرته
الصحفية تلك التي يتكتم أسرارها لا تزال تلوث عليه كل الأشياء الجميلة، وها
هو «عكاشة» يعبر عن ذلك بعبارات موجعة خارقة مبهرة في حشدها لكل هذه
الانفعالات في داخل البطل: «ماذا يمكنك أن تحصلي من رقاع الغاب وبراري
الصقيع؟ وأي مغنم يمكنك أن تجدي وسط أكوام الهشيم؟ لن تجدي غير أكوام من
رماد الخصوبة الغابرة وكرات الشوك تتقاذفها هبات ريح الشمال المحملة بملوحة
الأيام القديمة وذكريات أصياف منتحرة».
لكن مقاومة «أشرف» تنهار تدريجيا تحت ضغوط «ميريت» حتي وهو يدرك أن شغفها
بمعرفة تفاصيل اختفائه المثيرة لا يقف عند حدود المحبة والإعجاب، وإنما يصل
إلي الفوز بسبق صحفي ضخم، فيعقد معها الصفقة التالية: «خذي هذا المظروف
ففيه شريطان صوتيان سجلتهما لنفسي! وحدي! كنت أنا وجدران بيتي فقط وحاولت
أن أكون حرا.. فسردت كل شيء وتطرقت إلي مساحات شائكة لا أجرؤ علي الاقتراب
منها، واعلمي أنه لم يكن في تصوري أن أدع شخصا أيا كان يسمع هذه
الاعترافات.. اكتبي وانشري ولا تخشي أن أغير رأيي وأكذّبك، فمعك الدليل
الدامغ.. الرواية كلها بصوتي علي الشرائط.. لي شرط وحيد إذا قبلت تركت لك
الشرائط ومضيت لحال سبيلي.. بعد أن تسمعي الشرائط وتكتبي قصتك، لا تتصلي بي..
لا تهاتفيني.. ولا تسعي للقائي.. فلن أستطيع أن أواجهك بعدها».
كان الشرط قاسيا، لكن الإغراء لا يقاوم، احتضنت الصحفية الشابة المظروف
المليء بالأسرار وعادت إلي القاهرة، وعبر كاسيت صغير انسابت التفاصيل
المدهشة والمروعة لصعود وانهيار الصحفي المخضرم، الذي علي خلاف شخصيات
«عكاشة» المعتادة دراميا لم يكن «ملائكيا خيّرا صرفا» وإنما بشري صاحب طموح
تتنازعه رغبات الشهرة والتفوق وتغريه بالاستمرار في طريق يعلم أنه سيتلوث
حتما إذا سار فيه، ولعل هذا هو سر التعاطف والشجن الذي سيشعر به القارئ
عندما يري بطله وهو «يلتصق بخيوط العنكبوت» عندما يصطدم مع نفوذ رجل
الأعمال الإخطبوطي «الجرواني» الذي يتمتع بشبكة علاقات مروعة مع «كبارات»
في البلد، وعبر خدعة بارعة -ممتعة عبر السرد الروائي لكنها ستكون مبتسرة
إذا تم تلخيصها في كلمات- يقع «أشرف» فريسة في شبكة الفساد التي يصنعها
الزواج الاستثنائي بين السلطة التي يمثلها في (سوناتا لتشرين) «صاحب
المعالي» والمال الذي يمثله «الجرواني»، وكلمة السر البسيطة في الخدعة كلها
هي تلك التي خرجت من المحامي الداهية لرجل الأعمال الفاسد: «ربما كان تدبير
الخلاص من صحفي بالقتل أمرا سهلا.. لكنه سيشعل كل حرف كتبه هذا الصحفي في
حملته ويجعله تنينا متوهجا أمام الناس! والحل عندي أن نقتل مصداقيته! أن
نحوله أمام قرائه إلي كاتب مبتزّ ومساوم حقير.. هنا سنقتل الرجل والفكرة
معا!».. وقد كان!
لكن الصحفية الشابة تخرق الاتفاق، وتعود إلي الإسكندرية التي تغتسل ببعض من
مطر تشرين، لتجد أستاذها وقد تحول إلي شخص آخر غير الذي تركته منذ بضعة
أيام وقد ظهر له مزيد من تفاصيل خديعة العمر التي لم يسجلها علي شرائط
الكاسيت، ومع هذا لا تتراجع أو تتزحزح للخلف: «وماذا كان بيدي أن أفعل وقد
احتللتَ كل أرض يمكنها أن تؤويني، وفرضَتْ أفكارك وأحاديثك وتفاصيل هزيمتك
حصارا حول وعيي واتصالي مع الآخرين، وبتُّ لا أسمع غير صوتك ولا أري إلا ما
رويته لي»، لكن بطلنا الذي بات يعيش علي أطراف الحياة لم يعد يملك ترف
الاختيار.. فتكون نهاية الحدوتة وسماء تشرين تنذر بأمطار وشيكة.
في «سوناتا لتشرين» -التي هي بمثابة ترنيمة وداع حزينة للإنسان حينما يغادر
الحياة وهو فيها- لا يشير الكاتب الكبير «أسامة أنور عكاشة» نحو المذنبين
بشكل مباشر ولا يقف إلي جوار الضحايا منحازا باعتبارهم مشاركين نسبيا فيما
وصلوا إليه، كما لا يكتب لقارئ عادي، وإنما يضع المعطيات منتظرا من قارئه
الخاص أن يُعمِل عقله ليفكر في مصائر البشر الذين يداهمهم مطر وعواصف
الشتاء في تشرين فلا يأتيهم بعد ذلك الربيع كما هو طبيعي وإنما الخريف..
والخريف وحده فقط!
الدستور المصرية في
21/05/2010
أسامة أنور عكاشة
سعيد الشحات
كنا بعد الجزء الثانى من مسلسل «ليالى الحلمية»، فى مطلع التسعينيات من
القرن الماضى. احتشد الآلاف من أهل قريتنا «كوم الآطرون - طوخ - قليوبية»،
لاستقبال المبدع الكبير الرائع أسامة أنور عكاشة، ومعه من نجوم المسلسل
الفنان الجميل سيد عبد الكريم، والجميل أيضا الفنان سيد عزمى.
كان أسامة أكثر المتحمسين لتلبية دعوتى لحضور هذه الندوة، التى سيكون
جمهورها حسب تعبيره من أصحاب الجلاليب التى يرتديها أهل القرية من الفلاحين
والمتعلمين، ويتمنى أن يستمع لهم، وأذكر قوله لى بعد الندوة أنه سيقول
للفنان الجميل صلاح السعدنى الذى قام بدور سليمان غانم فى المسلسل واعتذر
عن الحضور للندوة: «فاتتك فرصة كبيرة يا عمدة».
بين أطياف وعى مختلفة تحدث أسامة، وعلى وقع زغاريد النساء دارت الندوة،
وبينما تواصلت الأسئلة التى تحدث بها البعض، وكتبها البعض الآخر، صمم أسامة
فى نهاية الندوة على أن يحتفظ بها، وهمس فى أذنى: «على فكرة مستوى النقد
عالى، والفلاحين بيتكلموا بصدق»، قلت له بعفوية: «البركة فى اللى بتكتبه يا
أستاذ أسامة».
لا أنسى وقائع هذه الندوة التى ذاب فيها أسامة مع أصحاب الجلاليب، وبعد كل
هذه السنوات أتأمل مسيرة هذا المبدع العظيم الذى يمر حاليا بأزمة صحية يدعو
له الجميع بأن يعبرها بسلام، وأتوقف عند ملاحظته بارتفاع مستوى حديث النقد
من الناس، وردى عليه بأن البركة فى اللى بيكتبه، وأرى أنه مع كل عظمة
أعماله الدرامية على شاشة التليفزيون، فإن هذه الأعمال استطاعت أن تساهم فى
تثقيف المشاهد وتنويره فيما يتعلق بتاريخنا الوطنى، كما أنها جعلت المشاهد
طرفاً حاضراً فى الدراما، بالدرجة التى يحزن فيها أو يفرح بمصائر أبطال
مسلسلاته، فمن يرى فى مسلسل «ليالى الحلمية» قصة حب زهرة وعلى، وقصة حب
ناجى وقمر لا يستطيع أن يفصل نفسه عنهما، ويبلغ فى التوحد معهم درجة أنه لو
قابل أسامة سيسأله: «ليه ماسبتش ناجى يتجوز قمر»، و«ليه خليت زهرة تعمل كده
مع قمر»، أعطى هذا التوحد مع أعمال عكاشة للمشاهدين تثقيفا جعل منهم طرفاً
نقدياً فى الأعمال الفنية، وهذا ما فطن إليه عكاشة، وجعله يحمل معه من
قريتنا قصاصات الورق التى شملت الأسئلة التى وجهها الجمهور له.
أحب الملايين من عشاق الدراما أسامة لأنه أحبهم أيضاً، فلم يرض يوما أن
يزيف وعيهم، بل كان لهم مخزنا للوجدان الراقى، والآمال فى غد مشرق، ولأجل
كل هذا يدعو الملايين له بالشفاء.
اليوم السابع المصرية في
25/05/2010 |