شكّلت أفلام المخرج
الفلسطيني إيليا سليمان منعطفاً حقيقياً في كيفية الاشتغال السينمائي
العربي. شكّلت
تحوّلاً في العلاقة بالصورة السينمائية. باللقطة. بالحراك البصري.
بالشخصيات
المستلّة من واقع العيش في المسافات الشاسعة بين الواقع
والخيال. بالتهكّم الهزليّ
الساخر. ذلك أن المخرج المولود في الناصرة قبل تسعة وأربعين عاماً، جعل
أفلامه أكثر
ألقاً في صنع الحكاية، أو بالأحرى في استعادتها من التجربة الذاتية والسيرة
الحياتية للأهل والأقارب. ومن داخل العالم الخاص به، بلغ مرتبة
رفيعة المستوى من
الحسّ الإنساني العام والعميق والمفتوح على الأسئلة كلّها، في الوجود
والهوية
والعيش والانتماء والعلاقات بالذات والآخرين.
عاد إيليا سليمان، في فيلمه
الروائي الطويل الثالث «الزمن الباقي» (2009)، إلى نكبة العام
1948. من هناك، من
الذاكرة الجماعية المختفية في تفاصيل الحكايات الفردية للأب والعائلة،
انطلق في
رحلته الجديدة إلى عوالم مختلفة واشتغال أنضج وانفتاح أجمل على السينما.
حافظ على
أسلوبه، من دون أن يبقى أسيره. لأن المخرج منفتح على
الاختبارات، ومدرك حجم
المسؤولية الملقاة عليه من قبله هو: كيف يُقدّم الجديد، انطلاقاً من السيرة
الذاتية.
·
هناك ما يلفت انتباهي دائماً في
بدايات أفلامك. هناك شيء ما صادم
فيها: الأب النائم في «سجل اختفاء» (1996) أثار قلقاً فيّ إزاء الأب نفسه،
وإزاء ما
يُمكن أن ينتج عنه النوم. القتل الرمزي لسانتا كلوز في «يد إلهية» (2002):
مشهد
مضحك. اللون المعتم وسائق سيارة الأجرة والعاصفة والتوهان
واللون الرمادي الأقرب
إلى الغموض في «الزمن الباقي»، جعلتني أشعر باختناق، أو بما يشبه الخوف مما
يُمكن
أن يحدث لاحقاً.
ـ كل أول منظر لديّ افتتاحية، تقطع علاقتها بما سيأتي لاحقاً،
في غالب الأحيان. في «سجل اختفاء»، هناك امرأة تحكي كثيراً عن تفاصيل
متفرّقة،
لكنها لا تظهر مجدّداً لنتابع ما يأتي بعدها. القلق الذي
تحدّثت عنه هو قلقي أنا
أيضاً. قلق على فراق الأهل وخسارتهم. وهذا ما حصل. في «سجل اختفاء»، هناك
تلميح.
النوم قريبٌ من الموت، بشكل أو بآخر. ثم لا
تنس التنفّس. في اللقطة المذكورة، كان
هناك تنفّس الأب. هذا نابعٌ من قلقي أنا عليه، عندما كنتُ أراه
نائماً أمام جهاز
التلفزيون، وأشعر بأنه لا يتنفّس. أقترب منه وأحاول أن أسمع دقّات قلبه.
مرّة واحدة
ظهر فيها سانتا كلوز مجدّداً داخل المستشفى في «يد إلهية»، لكن بعد مرور
نحو نصف
ساعة. في «تكريم بالقتل» (1992)، الجزء الخاصّ بي في الفيلم
الجماعي عن حرب الخليج
الثانية، أظهر جالساً بالقرب من جهاز راديو، منتظراً اتصالاً هاتفياً لحوار
إذاعي.
لكن جرس الهاتف لا يرنّ.
الآن، بعد مشاهدتي إياها في أفلام كاملة ومتتالية، أرى
شيئاً مشتركاً بينها: هذا نوع من افتتاحية، أو إعلان عن بداية فيلم ممزوجة
بالتهكّم، إما تُستكمَل، أو تنقطع وتنتهي. أمرٌ آخر: عندما
أعثر على بداية فيلم
أستطيع إكماله، وإلاّ يصبح الأمر صعباً للغاية. وعندما أبلغ منتصف الفيلم،
أتساءل
عن نهايته. هذا يُسهّل عليّ العمل. عندما تكون البداية
والنهاية معروفتين، وهذا أمر
نادر، أستطيع الاشتغال. عندما يُشاهد المتفرّجون هذا النوع من المقدّمات
يضيعون،
لأنه ما من شيء واضح ومعروف. هذا يجعلهم يفكّرون بأن شيئاً معيناً يبدأ،
فيتخيّلون
أو يتوقّعون ماذا سيكون عليه الفيلم. أنا لا أنظّم الأمور سلفاً. في «الزمن
الباقي»، ظهر التاكسي مجدّداً قبيل انتهاء الفيلم. في «يد
إلهية»، لم يعد هناك
وجودٌ لسانتا كلوز، والمرأة لا تظهر ثانية في «سجل اختفاء»، مع أنها لم
تكفّ عن
النميمة، وعن سرد حكايات يظنّ المشاهد أمامها أنه سيتابعها لاحقاً في سياق
الأحداث
الدرامية.
هذا نوع من كسر للسرد الروائي. ينكسر المشهد الأول، ولا أحد يعلم ما
الذي يُمكن أن يحدث.
كسر التقليد
·
هذا الكسر الذي تحدّثت عنه
موجودٌ في متون
أفلامك كلّها، وليس فقط في مقدّماتها. من يشاهد المتتاليات البصرية التي
تصنعها
يظنّ، لوهلة أولى، أن لا علاقة لبعضها بالبعض الآخر، قبل أن
تنجلي الأمور لاحقاً.
ـ لا أرغب في علاقة المناظر المتتالية بعضها مع بعضها الآخر بشكل
مباشر. عندما
أكتب مشهداً في السيناريو أصوّره، لكن العمل الأساسي كامنٌ في المونتاج،
ليس
بالمعنى الكلاسيكي. أعمل على عنصر المفاجأة. لا أريد أي شيء متوقّع، في كل
لحظة من
لحظات أفلامي. بل على العكس من ذلك، إذا كانت الأشياء متشابهة
في السيناريو،
ألغيها. أضجر عندما أشاهد أفلاماً يكون العنصر السردي فيها متوقّعاً
ومعروفاً. لا
أريد أن يخوض المتفرّجُ التجربةَ نفسها التي أعيشها في هذه الحالة. عنصر
المفاجأة
ينمّي الرغبة عند الجمهور في متابعة قصّة جديدة. يُفكّر في
علاقة هذه اللقطة بما
يسبقها ويلحق بها. ولهذه المسافة الزمنية نتائجها في مكان معين لاحقاً، ليس
بالضرورة في المنظر التالي مباشرة، بل في الخامس أو العاشر مثلاً. عندما
يشاهد
الجمهور هذا، يشعر بمتعة معينة. ثم إن السيرة في أفلامي واضحة.
يخرج المشاهدون من
الصالة بعد مشاهدة أفلامي ولا يتساءلون عمّا هو الفيلم. هناك تراكم. يخرجون
حاملين
معهم السرد الذي شاهدوه، والسرد الذي لم يُشاهدوه. هذا الأخير هو ما
تفاعلوا معه
أكثر. بهذا المعنى، شاركوا في صنع الفيلم. لا أقول إني أشتغل
على الذاكرة بل فيها،
لأني لاحظت أن الاشتغال فيها يجعل المشاهدين يتذكّرون أشياء أخرى خارج
الصورة. ماذا
يُشاهدون وماذا يتذكّرون في اللحظة نفسها التي يُشاهدون فيها. يأتي الناس
إليّ
ويقولون إنهم بمشاهدتهم هذا المشهد أو ذاك تذكّروا صُوَراً
معينة، واستعادوا أشياء
أخرى. هناك تفاعل بروستي. هذا ظاهر في «الزمن الباقي» أكثر من الأفلام
السابقة، لأن
فيه ذاكرة تعود إلى زمن معين.
·
اختلف «الزمن الباقي» عن فيلميك
الروائيين
الطويلين السابقين قليلاً، إذ بدا جزءٌ أساسي منه أكثر وضوحاً.
ـ ليست لديّ
استراتيجية مسبقة وواضحة قبل البدء بتنفيذ أفلامي. هذا منطبق على السرد
أيضاً، كما
قلت لك سابقاً. أنا أيضاً أريد أن أتفاجأ وأن أفتش. هذا فيلم ملحمي أولاً،
مع أني
أراه أكثر الأفلام التي شاهدتها لاملحمية. إن العام 1948 فترة زمنية
محدّدة. إنها
المرّة الأولى التي أشتغل فيها ضمن حقبة تاريخية، من منطلق
ذاتي لشخص ليس أنا وإن
كان قريباً الي، ولزمن لم أعشه ولطوبوغرافيا لم أعرفها، مع أني صوّرت في
الحارة
والبيوت نفسها التي عشتُ فيها وعرفتها. الرائحة والألوان، الإحساس الذي
يلمّ بك عند
ارتدائك هذا القميص أو ذاك البنطال. كانت لديهم طريقة معينة
لفعل هذا كلّه. إنها
المرّة الأولى التي أقوم فيها ببحث. شاهدت مئات الصوَر. قرأت كتباً عن تلك
الفترة.
ساعدني في هذا حنا بو حنا، الذي كتب كثيراً
عن تلك الفترة في الناصرة. ساعدني لأنه
وصف الناس الذين كانوا حوله بدقّة، وبشكل ذاتي.
سينمائياً، لم أكن أستطيع أن
أستعمل أسلوبي في «يد إلهية»، وأن أركّبه على حقبة لم أعشها.
فكّرت كثيراً في كيفية
تصوير شخص في الـ 48 لم أعش حياته. وقعتُ في حيرة. لا أستطيع الاحتفاظ
بأسلوب عملي
المعتاد، الذي يأتي إليّ بشكل طبيعي أصلاً، لأنه لم يأتِ إليّ هذه المرّة.
لتصوير
الناصرة في «الزمن الباقي»، عدتُ إلى الطريقة نفسها المستخدمة
في «سجل اختفاء»
مثلاً، لأن كل شيء مألوف لدي: موقع الكاميرا، ترجمة جغرافيا العاطفة
الموجودة،
البعد بين الكاميرا والشخص الذي أصوّره. أنت ترى الكاميرا، وهي
تحسّ الأشياء. إذا
قرّبتُ عدستها أكثر أو أبعدتُها قليلاً، لن تكون لديّ العاطفة نفسها. هي
العاطفة
نفسها التي يشعر المُشاهد بها. في الـ 48، لم تكن لديّ علاقة بهذا الزمن.
العاطفة
كانت إزاء سيرة ذاتية كتبها أبي، وحاولتُ من خلالها خلق هذه العاطفة/
التجربة.
رفضتُ استخدام الأسلوب السيـنمائي للطرح والتصوير المعتادَ لديّ.
في
السبعينيات، لا أقول الشيء نفسه. صارت المسألة أقلّ وضوحاً. كنت أعرف أن
الحقبات
التاريخية تتطلّب تفكيراً كهذا: أن يكون سردياً في الـ 48، وأقلّ سردية في
السبعينيات، ونوعا من تكسير السرد في الثمانينيات، وصولاً إلى
أسلوبي المعتاد مع
ظهوري في الراهن. أدخل من مكان سردي إلى مكان منتظم على الشعر أكثر.
الناصرة الآن
مع الأم مثلاً.
ألوان وإضاءة وتقنيات
·
أودّ التوقّف هنا قليلاً عند بعض
التفاصيل التقنية، وأبرزها بالنسبة إليّ اشتغالك على اللون. في الـ 48،
اللون أوضح
وأصفى.
ـ فتّشت كثيراً عن طرق معيّنة للعمل على اللون. في الـ 48، لم تكن
توجد
سيارات كثيرة ومصانع. كنتَ ترى النجوم. الألوان أكثر وضوحاً ولمعاناً. كانت
الهندسة
العمرانية مخطّطة بشكل واضح جداً للعيان: البيت. البستان. الزقاق. كان عليّ
الانتباه إلى هذا كلّه أثناء التصوير. ثم بدأ اللون يصبح،
شيئاً فشيئاً، لا لون. ما
فعلته في الـ 48 أقرب إلى المعنى المجرّد. هناك مجاز. للضوء في الخارج
علاقة
بالعنف. هناك ضوء كثير وباهر. عندما فُتح باب البيت مثلاً والكاميرا في
مواجهته،
كان اللون الأبيض مسيطراً على الخلفية كلّها. لا شيء واضحا
إطلاقاً. تشعر بأن
الخارج عنف والداخل دافئ، لأن الداخل مكان كان لا يزال محمياً بعض الشيء
حينها. في
الخارج، كان رجال الـ «هاغانا» يحتلون البلد.
الصوت أيضاً، استعملته بالطريقة
نفسها. عند اعتقالهم فؤاد، أردتُ تسجيل أصوات صراصير «الزيز»،
وإظهار الطقس حاراً
مع هبّة هواء. وعندما رموه من فوق السور، كان الصوت انعكاساً للمرارة. لعبت
على صوت
الهواء وأصوات الناس وهي تمشي، على صوت دعسات الجندي في حاكورة الزيتون وهو
يمشي
على الحشيش، فتسمع انكسار الحشيش تحت جزمته. هذا كلّه في الـ
48، بهدف خلق الجوّ
الخاصّ بلحظة سقوط الناصرة. الشيء نفسه حدث في كل حقبة.
·
تساءل أحد الأصدقاء،
إثر مشاهدة «الزمن الباقي»، عمّا إذا كانت الناصرة نظيفة وجميلة إلى هذا
الحدّ في
تلك الحقبة.
ـ أنا لم أجمّل ناصــرة الـ 48. عــدتُ إلى الكتب والأرشيف لأرسم
صورتها الحقيــقية. القــصة صارت في الحارة، في بيت أهلي المبني إلى جانــب
بيت
جدّي. الحارة هي نفسها التي عشت فيها لاحقاً. أحياناً كانت
تحدث صدف أثناء التصوير:
مثلاً، عنــد سقــوط الجريح، صوّرت اللقطة في المكان نفسه الذي سقــط فيــه
الجريح
في الـ 48.
أخبرني أحد شهود الواقعة أن آثار إطلاق النار لا تزال موجودة في
الحائط، وأراني إياها. هناك المرأة التي قُتلت أيضاً: اكتشفتُ أني صوّرت
اللقطة في
المكان نفسه أيضاً. هذه صدف جعلتني أصوّر أشياء كثيرة في أمكنة
حدوثها. هذا كلّه
ناتجٌ من تفكيري بكيفية تركيب المناظر، خصوصاً تلك المقبلة من الذاكرة
والتجارب
الذاتية. هذا ليس إصراراً، بل لأن الذاكرة بدأت هناك.
·
هل يُمكننا التحدّث
قليلاً عن الممثلين، عن كيفية اختيارهم والتعامل معهم، عن أولئك الذين هم
غير
ممثلين أساساً.
ـ ما يهمّني هو رؤية الناس من حولي. لا أشتغل كاستنغ على
الممثلين فقط. أثناء التحضير لتصوير «تكريم بالقتل»، كنتُ أبحث عن شخص
يشبهني، لأن
الفيلم يتحدّث عنّي وعمن حولي أثناء حرب الخليج الأولى. تساءلت حينها:
لماذا أبحث
عمن يُشبهني ليتحدّث بالنيابة عنّي؟ لماذا لا أكون أنا أمام
الكاميرا؟ هذا أول
كاستنغ فعلي قمت به في حياتي المهنية. بدأت أشتغل أمام الكاميرا ووراءها.
في «سجل
اختفاء»، خفت أن أطلب من والديّ تمثيل نفسيهما. في السيناريو، كانا
موجودين. تطلّب
الأمر منّي وقتاً طويلاً، وصرتُ أخاف أكثر، لتقدّمهما في
العمر، ولثقل السنين
عليهما.
هناك كاستنغ ثان قمت به: المكان الذي وقعت الأحداث فيه. أين يعيش
الناس
كي أضع الشخصيات هناك. كاستنغ صُوَر لأناس كثيرين، بالإضافة إلى صُوَر
ممثلين
محترفين شكّلوا نحو خمسة بالمئة من مجمل عدد الممثلين. كانت لديّ مشكلة مع
الممثلين
المحترفين، لأنهم جاءوا من خلفية مسرحية كلاسيكية، تعتمد
كثيراً على تعابير وجه
مُبَالغ فيها. لا أحبّ أبداً الدراما على الوجوه، لأنها موجودة في المشهد.
أنا ضد
هذا النوع من التمثيل. اشتغلتُ مع بعض الممثلين المحترفين وقتاً أطول بكثير
من ذاك
الذي تطلّبه العمل مع غير الممثلين، كي أتوصّل في النهاية إلى
تخفيف أكبر قدر ممكن
من الدراما لديهم. في المقابل، أطلب من الممثل غير المحترف، أو من غير
الممثل
بالأحرى، أن يؤدّي هذه اللقطة بهذا الكَمّ من البرود مثلاً، فيفعل هذا
ببساطة.
في «الزمن الباقي»، كان الكاستنغ صعباً جداً. هناك 105 شخصيات،
وإمكانيات
قليلة، وقتاً ومالاً. ازدادت الصعوبة في اختيار من سيؤدّي شخصية الأم في
مرحلتين من
عمرها: عندما كانت في الأربعين، وعندما شاخت. هناك الولد الذي هو أنا: في
العاشرة
أو الحادية عشرة من عمره (زهير أبو حنّا)، ثم في سنّ المراهقة
(أيمن اسبانيولي)،
قبل
بلوغ المرحلة التي ظهرتُ أنا فيها. يجب أن يشبهوا بعضهم البعض. أظنّ أني لم
أخيّب أمل أحد. هناك من قال لي إن الصبي الصغير يشبهني. هذه
المرّة، تعاونت مع عدد
من الممثلين أكبر من فيلمي السابقين. الممثل الرئيس هو صالح بكري (فؤاد).
إنه ممثل
رائع جداً، بكل معنى الكلمة. اللاممثلون كانوا رائعين أيضاً. أخت فؤاد،
ناديا
(ياسمين
الحاج) مثلاً ليست ممثلة. الأم في الأربعين من عمرها محامية أصلاً (سمر
قدحا طنوس). خالتي شفيقة بجّالي أدّت دور أمي في الثمانين.
عندما يخوض المخرج
تجربة فيها مخاطرة فظيعة، كأن تضع نفسك كلياً في البلاتوه، وأن تعطي نفسك
للناس،
فهذا كلّه أمرٌ خطر فعلاً. لكن، ما يعطيك إياه هؤلاء الناس في المقابل هو
الذي يصنع
الفيلم. إياك أن تعتقد أن كل ما فعله صالح بكري أمام الكاميرا،
نابعٌ مني. أن تعطي
نفسك للناس حولك، ألاّ تفكّر بأحــادية، عندها يملأ الناس الفراغات التي
تكون
خائفاً منها أحــياناً. إنهم يدخلون ذاتك وخيالك. الفيلم مصنوع بفضل انخراط
أفراد
طاقم العمل جميعهم في المشروع. يعطونك أحاسيس. صالح بكري ظلّ
حاضراً في بلاتوهات
التصوير، حتى عندما لم يكن لديه تصوير. كان يتابع التفاصيل. كان يساعد طاقم
العمل
أيضاً.
تهكّم
·
ماذا عن التهكّم الذي تنضح
أفلامك به: هل هو ابتكار سينمائي
أم جزء أساسي منك؟
ـ هذا شيء خاص بي بالتأكيد. لكن، تبيّن لي أنه موجود لدى
أناس كثيرين. الدليل على ذلك، أنه إذا لم ينوجد لديهم هذا الحسّ الساخر
والضحك
المرّ، لَما تفاعلوا وأفلامي، ولما عبّروا عن تأثرهم بها. أشبه
أناساً كثيرين،
والناس يكتشفون أشياء فيّ، وأنا أكتشف أن الناس يشعرون بأنهم موجودون داخل
الفيلم،
لأنهم مصابون بالجرح مثلي. نحن مجروحون جداً. أخبرتَني قبل بدء الحوار عن
مشهد
الدبابة (شاب يخرج من منزله لرمي النفايات، فيرن جرس هاتفه
الخلوي، وعندما يتحدث مع
المتصل به، يروح جيئة وذهاباً أمام فوهة دبابة تلاحقه في مشيته): نحن
مجروحون من
الدبابة وتوابعها كلّها.
طبعاً تبدأ القصص من شيء خاص بذاتي. المبدع كالاسفنجة
يمتصّ كل شيء حوله: الواقع، المرارة، التهكّم، الضحك المرّ. هل من المعقول
مثلاً أن
تقف دبابة أمام بيت في شارع ضيق؟. أنا أضحك كما ضحكتَ أنت من مشهد سانتا
كلوز،
مثلاً.
·
كيف خرجت من إنجاز «الزمن
الباقي»؟
ـ استخلصت بعض المعاني من تجربة
كهذه. هناك شيء ما غيّرني. اكتشفتُ، في هذا الفيلم، أني قادرٌ
على الاقتراب أكثر
فأكثر من اللحظات الحقيقية سينمائياً، إذا كانت لديّ نيّة كبيرة أن أكون
صادقاً مع
نفسي. على مستوى التجربة السينمائية، هناك مسألة أراها مهمّة: الرغبة في
التعبير عن
لحظة معينة، من دون القدرة على إظهار هذا التعبير في الصورة.
هناك أشياء صوّرتها،
شعرتُ بأنها خطأ فرميتها. هناك التقطيع أيضاً، إذا كان خاطئاً أرميه. في
المقابل،
هناك أمر جيّد: بقدر ما كنتُ في حالة «صراع من أجل البقاء» لإكمال الفيلم،
كنتُ
أشعر بأن لديّ خلايا دماغية لم أستخدمها سابقاً. كل يوم، كنتُ
أعثر على عشرين
بالمئة من الأشياء التي أطلبها. أو خمسين بالمئة. لكن ليس كل شيء. لا
إمكانيات.
أُجبرت على ابتكار أشياء عدّة بما لديّ من
إمكانيات. في البداية، كان هذا نوعاً من
المعاناة. أو خيبة أمل. بعد فترة، اكتشفتُ أني أحقّق أفضل
الممكن من الأشياء
القليلة التي أملكها. كانت تجربة رهيبة. أشعر بأنها تجربة روحانية. لكن،
إذا سألتني
عمّا إذا كنتُ أعيد التجربة نفسها ثانية أم لا، أقول لك: التجربة المقبلة
ستكون
مختلفة. هذا ليس عمود التجارب أو مقياسها. ما حدث معي في
«الزمن الباقي» حدث للمرّة
الأولى.
·
هناك حالة سينمائية عربية جديدة،
لبنانية تحديداً، بدأت تنمو في صناعة
الأفلام، ترتكز على اختيار مخرجين عديدين، خصوصاً في المجال الوثائقي، لأحد
أفراد
عائلاتهم (أب، أم، جدّ، جدّة، أقارب قريبين جداً) مادة درامية لنتاجاتهم،
للانطلاق
منها إلى مشهد عام. كيف تنظر إلى هذه الحالة، علماً بأنك من
البارعين في الارتكاز
الدرامي والجمالي على سيرتك الذاتية في صناعة أفلامك، والذهاب بها إلى
الإنساني؟
ـ لا أستطيع إجابة وافية، لأني لم أشاهد أفلاماً كثيرة في هذا الإطار.
لا فكرة
لديّ عن الموضوع، خصوصاً الأفلام اللبنانية والجيل الجديد. أنا في حالة
تفتيش دائم.
أحبّ أن أشاهد ما الذي تنتجه السينما عندنا
دائماً. أبحث باستمرار عن مخرج لديه
حيوية الابتكار. عن فيلم فيه شيء طازج وموح.
طبيعي جداً أن الوضع تغيّر. صار
هناك سينيفيلية أيضاً. لكني لم أعثر على نفسي في المنطقة هنا
سينمائياً، مع أن بعض
اللحظات مشتركة بيني وبين أفلام أخرى. سأجد نفسي مع جيل جديد يصنع سينما
ليست
مبتذلة، فيها نوع من الصدق الذي أبحث عنه أنا أيضاً. يجب أن تكون هناك
صُوَر
سينمائية أيضاً.
ربما انقلبنا من حالة تاريخية موجودة حكماً ومجسّدة بثرثرة
سينمائية وتجارة بالشعارات، إلى مرحلة متّسمة بتفتيش ذاتي. أشعر بنفور
الجيل الجديد
من أنواع الشعارات كلّها. أهذه بداية، أم مجرّد لحظة عابرة؟ سنرى لاحقاً.
ربما هناك
أشياء من هذا النوع، أفلام أكثر سينمائية، أكثر إنسانية، لا تكون مسألة
الهوية فيها
طاغية عليها. هناك سينما، إمكانــيات أنسنــتها موجودة أصلاً،
وهي تعبر الحدود
والحواجز؛ فلماذا نقوقعها داخل حدود وحواجز؟
السفير اللبنانية
في
11/12/2009 |