رجل السينما "الرقم 1" في المغرب يتحدث الى
"النهار" عن
طموحاته وتفاؤله العاق
نور الدين الصايل: ليس هناك خيال أكثر تطوراً من
السينما!
هوفيك حبشيان/ المغرب
من الصعب تناول سيرة نور الدين الصايل والكتابة عن تجربته من دون
الوقوع في فخّ المديح وتوزيع الاطراء. فالصايل هو اليوم رجل السينما "الرقم
1" في
المغرب. وليس من قبيل تضخيم الشأن، القول إن لا شيء يحصل في سينما تلك
البلاد من
دون أن يكون للصايل علاقة به سواء من قريب أو من بعيد. الى
الرؤية التي يمتلكها، هو
ايضاً حارس السينما المغربية الذي يحميها من أعدائها في الداخل وأولئك
الذين، في
الخارج، يريدونها "سينما مناسبات" تطل برأسها بين الفينة والفينة، قبل أن
تعود الى
سباتها العظيم والى عالمثالثيتها.
لكن، في رأس الصايل، ثمة مخططات أخرى، تحقق
جزء منها خلال الأعوام الستة الفائتة التي ترأس خلالها المركز
السينمائي المغربي،
اذ جعل السينما المغربية تهب هبة كبيرة مثيرة حسد بلدان عربية كثيرة
لديناميتها
المفاجئة غير المسبوقة. ولا شك ان تلك السينما تحتاج الى الكثير من
الرعاية،
جماهيرياً وفنياً ومهرجانياً وانتشاراً، وهي أحوج ما تكون الى
الحرية والاستقلالية
لفضح المسكوت عنه في مجتمع حافل بالتناقضات، يترجح بين التقليد والحداثة،
بين
الانفتاح على الغرب والتمسك بأصول واعراف اسلامية.
لا يزال هناك مشوار سينمائي
طويل أمام المغاربة، لكن على الأقل هناك نموذج انتاجي رصين
(مستوحى بتصرف من الصيغة
الفرنسية الشهيرة "سلفة على الايرادات")، يمكن البناء عليه من الآن وصاعداً
وبلورته. باختصار، التجربة المغربية جديرة بأن نرفع لها قبعتنا. فمع
استراتيجيا
الصايل، باتت سينما تلك البلاد تمر في مرحلة تاريخية "لذا يجب
ضبط أصولها حتى لا
يكون بناؤها مشوها".
الصايل مجموعة رجال في رجل واحد: ناقد سينمائي واستاذ فلسفة
ومدير تلفزيون سابقاً، ها نحن نراه اليوم يهتم بمهرجانين، أولاً طنجة حيث
يساير
المبتدئين؛ وثانياً مراكش حيث يرافق المشاهير. الأول نقيض
للثاني. وبين هاتين
المهمتين، يدير مركزاً سينمائياً بات مرجعاً، واليه يعود الفضل الأكبر في
رفع عدد
الأفلام المغربية المصنوعة في عام واحد من 5 الى نحو من 15، وربما أكثر في
سنوات
سابقة ولاحقة. أما خلف هذه السيرة الناجحة (success story
على الطريقة المغربية)،
فهناك رجل مثقف مدمن فلسفة وقراءة، وسينيفيلي أكول من المدرسة القديمة، كان
قد أسس
جمعية نوادي السينما في المغرب، وترأسها طوال عشر سنين (1973 - 1983)،
وساهم في
"مغربتها" وإدراجها في سياق وطني، قبل أن تأخذه الفرص المقتنصة الى
عوالم
التلفزيون، حيث اكتسب خبرة كاملة متكاملة، من خلال عمله في المحطة الفرنسية
المشفرة "كانال
بلوس أوريزون" في منتصف الثمانينات من القرن الفائت، مستفيداً من منصبه
ليشرع الابواب أمام سينمائيين من بلدان لا مراكز ثقل لها على الخريطة
السينمائية
الدولية. بيد أن مشروع انقاذ القناة الثانية المغربية جاء به
رئيساً، ثم عيِّن
مديراً للمركز السينمائي المغربي، ومذذاك لا يتطور مساره الا تصاعدياً...
يقول
هذا الستيني الهادئ (والصدامي عند الحاجة) انه تعلم الحياة متفرجاً على
الشاشة
المستطيلة وانه كان هناك تكامل بين مهنته مدرّساً للفلسفة والسينما. معادلة
الحياة
-
السينما عند الصايل ذكّرتني بما قاله تروفو ذات مرة: "عندما نحبّ
الحياة، نذهب
الى السينما". لكن رجلنا يذهب الى ابعد من ذلك تأكيداً واصراراً على أن هذا
الفن
أنقذه من الحياة. ففي الحديث الذي اجريته واياه (بالفرنسية) في الدورة
الأخيرة من
مهرجان طنجة للفيلم المتوسطي القصير، اعترف لي بأن السينما
انقذته "من" الحياة.
وتابع جملته: "ساعدتني ألا أدخل الحياة من باب الواقعية، بل من باب الحلم.
السينما
جنّبتني مشكلات الحياة الحقيقية لأنني عشتها على الشاشة".
·
يمتلك المغرب حالياً استراتيجيا
سينمائية تبلورت في السنوات الأخيرة لتضخ
مجموعة من الأفلام وصلت محصلتها في بعض السنوات الى الـ15 أو
20 شريطاً سينمائياً
في عام واحد. كيف تقوّم هذه التجربة المغربية، انطلاقاً من كونك رئيساً
للمركز
السينمائي المغربي؟
-
نحن في المغرب الآن نعمل خلافاً لمنطق "تحفة كل عشر سنين".
أكثر من يهمها هذه الصيغة هي القوى السينمائية الكبرى حول العالم. قبل بضع
سنوات،
كان هناك سينمائي مالي أنجز فيلماً رائعاً، إسمه سليمان سيسه وفيلمه يدعى
"يلن".
كان ذلك في آواخر الثمانينات. الجميع صفقوا له، ثم نال جائزة لجنة التحكيم
في كانّ
وراح الكثيرون في الغرب يهللون له ويعتبرونه عبقرياً. هذه الجماعة التي
صفقت هي
نفسها تريد أن تتخصص الدول العربية والافريقية بالتحف الكبيرة.
فهذا ما يهمها.
يريدون وضع اليد على سوقك السينمائية ومن ثم التصفيق للعبقرية التي
اخترعتها، علماً
ان هؤلاء، بدورهم، ليسوا أكثر عبقرية منا في مجال العدد، لكن الفرق بيننا
وبينهم
أنهم ينجزون 500 فيلم كل عام تكسح أسواقنا وتعود عليهم
بالعائدات المالية الضخمة
جراء استثمارها في صالاتنا. باختصار، يضعون اليد على خيالنا وإمكان أن يكون
لنا
تعبير حر ومستقل. نتيجة هذه السياسة، تجد أن بلداً مثل مالي لم ينجز فيلماً
آخر، أو
على الاقل تحفة أخرى، بعد فيلم سيسه. أنا كنت فضّلتُ أن ينتج
المالي 20 فيلماً في
العام، ومنها فيلم لسيسه اسمه "يلن"، ولا يقتصر الانتاج في هذا البلد على
تحفة
كبيرة. من السهل أن تصفق المهرجانات لمخرجينا الكبار، وخصوصاً اذا كان عدد
هؤلاء
قليلاً. نحن بالطبع يعجبنا هذا الشيء كثيراً: أن ينتج أحد
بلداننا 3 أفلام كل 12
عاماً ويحصل على جائزة كبيرة في مهرجان برلين! هذا جيد للفنان. لكن في
المسألة شيء
من الهراء، لأن هذا يعني انه ليس عندنا ادنى فكرة عن كيفية دوران العجلة
السينمائية
العالمية. هذه مقاربة انتروبولوجية غربية للسينما: بلد لا يخرج
منه شيء منذ 20
عاماً، فجأة يأتيهم بتحفة فنية!
هناك مقولة صينية رائعة تقول: بدلاً من أن تعطي
الفقير سمكة كل يوم، فالأفضل أن تعلّمه الصيد. نحن الآن قد
تعلّمنا الصيد. لكن
المشكلة أن ثمة الكثير من الانظار السلبية على كل سياسة مستقلة. تخيّل أنهم
في
اللحظة التي بدأنا نتعلم فيها الصيد، أفرغوا البحر من المياه. قوة الغرب
كامنة في
كونه يحدد قوانين السوق. يقولون لنا: "عليكم أن تنظّموا الأمور
بأنفسكم، لديكم
مواهب والخ". ثم عندما ندخل في مرحلة الانجاز، ينتبهون الى ان هذا الشيء قد
يعود
عليهم بالضرر، وهذا صحيح طبعاً. اذا أحصينا الافلام التي صدرت في الصالات
المغربية
في عام واحد (وعددها 350 فيلماً مصدرة من خارج البلاد)، نرى ان
المراتب الثلاث
الاولى في شباك التذاكر تحتلها أفلام مغربية. 300 ألف هو عدد مشاهدي الفيلم
المغربي
الذي يأتي في الصدارة، في حين انك تجد في المرتبة السابعة فيلماً أميركياً
واسع
الانتشار لا تتعدى ايراداته 50 أو 60 ألف مشاهد. هذه الأرقام
تشمل المغرب كله،
لأننا لا نملك الكثير من الصالات (80 صالة).
ثمة فيلم مغربي اسمه
Les bandits
جذب 500 ألف مشاهد. نحن نربّي الجمهور على الفيلم المغربي، لكن تبقى
المشكلة أن كل
الافلام التي تلي المرتبة الرابعة في قائمة الايرادات، هي أفلام أميركية.
وهذا من
شأنه أن يجعل الهيمنة الاميركية أقوى على مستوى مجموع الايرادات. لكن حصة
السينما
المغربية من السوق هي 15 في المئة، وربما هي 18 في المئة هذه
السنة، لكن هذا الوضع
لم يكن قائماً قبل فترة قليلة. أما حصة السينما الأميركية فلا تزال تدور
حول الـ40
في المئة، فيما الهند حصتها 20 أو 25 في المئة، ومصر حصتها 12 أو 13 في
المئة، اذ
يتراجع حضور سينماها تدريجاً. المشهد ايجابي، لكن ما يهم الغرب
هو أن يقولوا لنا
"انجزوا تحفة مرة كل عشر سنين، لكن انتبهوا: لن تكون لكم الحصة الكبرى
من السوق
المحلية منذ اللحظة الاولى". ولكن نحن نريد ان تكون لنا حصة من السوق ليس
فقط في
بلادنا بل في بلادهم كذلك. لِمَ لا. واذا قيل لنا لماذا، فسنكرر: لِمَ
لا؟
•••
·
هل ثمة كيمياء وانسجام بينكم
وبين السلطة المغربية؟
-
كل شيء يحصل من طريق
التفاوض. يجب إقناع الناس. الدولة المغربية اليوم تفتح مناقشات
جادة. حتى مبادرة
اقامة مهرجان مثل "مراكش السينمائي" جاءت من جلالة الملك شخصياً. لهذه
المبادرة
معانٍ كبيرة. هذه رسالة حقيقية تحتفي بالخيال الحرّ والتعبير الحرّ، كذلك
هي دعوة
الى تفتيح عيون المغاربة على ما هو دولي من خلال السينما.
لماذا السينما تحديداً؟
لأنه ليس هناك خيال أكثر تطوراً من السينما. لم نجد بعد ما هو أفضل منها.
ليس شيء
عادياً أن يكون الملك هو من طرح فكرة اقامة مهرجان سينمائي على ارض المغرب.
ونحن
يسرنا أن يكون على رأس سلطتنا شخص يمنح السينما هذا الاهتمام
الذي يمنحها إياه. مع
الدولة المغربية هناك مناقشة واسعة.
انها مسألة عامة. لا يتعلق الأمر بقرارات
يأخذها هذا أو ذاك، كلٌّ من زاويته. يجب اقناع الآخرين بما يجول في بالنا.
نحاول ان
نكون موضوعيين في عملنا، والقرارات لا تنم عن مزاج اصحابها. ننظر الى
العالم ونقول
انه في وسعنا أن نفعل ما تفعله كل البلدان التي تحترم الجمهور
وتحترم الثقافة. لم
يعد عندنا حاجة الى القول "ابتكرنا كذا وكذا"، بل ما نريده هو أن نرفع
أنفسنا الى
مصاف ما ينجز من اعمال دولياً.
·
لكن من هو عدوّكم الأكبر في داخل
المغرب
اليوم؟
-
قلة الطموح هي عدوّنا الأكبر. وهذا ليس عدوّنا في
المغرب فحسب،
بل في البلدان العربية والافريقية كلها. دائماً نخفي أنفسنا خلف ضيق
الامكانات. قد
يكون ضيق الامكانات من الأسباب الجوهرية، لكن هذه الاسباب سرعان ما تتحول
ذرائع.
مَن الذي يدعم الأفلام القصيرة المعروضة هنا في المهرجان؟ هل تعتقد ان
الدولة هي
التي من المفترض أن تموّل هذه الأفلام؟ لقد سُنَّ القانون المغربي المتعلق
بهذا
الموضوع وهو يطبَّق الآن: على كل شركة انتاج أن تنجز ثلاثة
أفلام قصيرة كي تشرع
نشاطاتها وتتمكن من التحالف مع علب انتاج أخرى. كنا ننجز 10 أفلام قصيرة
سنوياً
فصرنا فجأة ننجز 80 فيلماً قصيراً بسبب هذا القانون. في هذا النظام، ليست
الدولة
مَن يدفع، كل ما تفعله هو أنها تخلق الحوافز. وهذا أفضل من أن
تعطي المال. في وجود
القوانين والحوافز والاقتناعات، لا بد من أن نصير أشخاصاً طموحين. والا
لنجرد
أنفسنا من كل طموح ونسلّم أمرنا الى الحتمية والعبث، ونذيّل كلامنا دائماً
بـ"ما
الفائدة من فعل هذا أو ذاك؟". عندي، أن كل مباراة لم تنته بعد، لا نستطيع
أن
نعتبرها خاسرة أو رابحة.
·
ثمة سينمائيون مغاربة أظهروا
أخيراً جرأةً ما في بعض
أفلامهم. لكن دينوا من متطرفين. في هذا المناخ، هل يجوز الذهاب الى ابعد؟
-
أنا
ضد النموذج الأوحد. فقط بالتناقض تستطيع أن تذهب الى الأمام. ليس من الجائز
أن
ننتظر كي يتفق الكل مع الكل. عندما يفكر البعض مثل البعض الآخر، فهذا يعني
أن لا
أحد يفكر.
·
لكن حين تصبح مادة المناقشة قبلة
في فيلم، فهذه المناقشة غير مفيدة
سينمائياً...
-
في المغرب لم نعد نناقش هذه المسألة. اذا كانت هناك حاجة في
فيلم
الى تصوير قبلة، فليكن. وفي حال وجوب تصوير مشاهد أكثر جرأة وعنفاً، فهناك
هيئة
لمراقبة الأفلام ومنع عرضها لمن هم دون الـ12 أو الـ16. لكن،
لا أتفهم المنع الكلي
لفيلم. لماذا تمنع فيلماً ما دام يُعرَض في صالة وما دام مشاهدوه قد دفعوا
المال
وقصدوا الصالة لمشاهدته. الا اذا كان في الفيلم تحقيراً للقيمة الانسانية
أو
تحريضاً على العنف والكراهية العنصرية والاتنية. حتى في
الولايات المتحدة، قد يحدث
أن تعترض جمعية سرية على ظهور نهدي امرأة في فيلم. يؤخذ على الممثلات
المغربيات
انهن يقبّلن في افلام أجنبية، لكن لا ينتبه هؤلاء الى ان الممثلات
المغربيات يقبّلن
أيضاً في الأفلام المغربية. في "ياسمين والرجال"، الممثلة الرئيسية تقبّل
لأن النص
يفرض عليها ذلك، والقبلة هي ذات معنى في سياق الفيلم، ولا تأتي في غير
مكانها. في
"حجاب الحب"، البطلان يقبّلان أحدهما الآخر، لأنه كان ينبغي اظهار هذا
التناقض من
الداخل. مع ذلك كله، ان يكون هناك ناس ضد هذا الشيء، فهذا يعني أننا نعيش
في بلد
حي. أحترم رأي الآخر، ما دامت المناقشة على مستوى معين. اما اذا تحولت
المناقشة
عنفا جسديا وابتزازا، فإننا نكون بذلك قد خرجنا على قواعد
اللعبة. أحترم رأي الآخر،
حتى لو كان هذا الآخر جاهلاً. المسألة بهذه البساطة: يجب منح هذا الآخر
الثقافة
المطلوبة. على الذي يعترض على شيء ما، أن يكون مطلعاً على هذا الشيء. كثر
يعترضون
على أفلام لم يشاهدوها. في امكانك أن ترفض مشاهدة فيلم، لكنك لا تستطيع منع
الآخرين
من مشاهدته.
·
أريد أن أسألك عن جانبك الشخصي.
لا نعرف عنك الكثير...
-
لم
أحرص يوماً على أن تكون شخصيتي متلفعة بالسرّ. لا أحد يسألني، وأعتقد أن لا
حاجة
اصلاً الى ذلك. استطيع أن اقول إنني ولدت في طنجة، ثم غادرتها حين كنت في
الخامسة
عشرة. درستُ الفلسفة وعلّمتها في مرحلة لاحقة. في فترة من
الفترات، عشت في بيروت
التي كنت اعتبرها أجمل مدينة في العالم. ومن أكثر الأشياء التي لم استوعبها
في
حياتي، كيف لناس يعيش البعض منهم على الرصيف المقابل للبعض الآخر أن يشهروا
السلاح
في وجوه بعضهم البعض. بيروت ما قبل الحرب كانت مدينة التسامح.
إحدى روائع الانسانية
كانت العيش المشترك بين اللبنانيين. وذات يوم يأتيك خبر بأن هؤلاء الناس
يتقاتلون
بوحشية. لسنوات لم تطأ قدماي بيروت. لم أكن اريد رؤيتها مجدداً. ودامت هذه
القطيعة
حتى عام 2002. تجربة مثل تجربة الحرب اللبنانية تعلمك بألا
تقول "لقد فهمت كل شي".
حتى اليوم، هناك من يستفيض في شرح وقائع ما حصل خلال الحرب. أشبّه هؤلاء،
بالمحللين
الذين يفسرون عام 2006 ما حصل في عام 2000. ليس هذا ما نطلبه. هل هناك أحد
كان
استطاع أن يقول، في عام 1974، ان حرباً ستقع وهي لن تنتهي؟
·
الا تحنّ الى
طفولتك في طنجة؟
-
لا، لا اشعر بعاطفة تجاه الحجر. ارتباطي أكثر هو بالوجوه
والاصدقاء. اتنقل مع العالم الذي في داخلي والفلسفة هي التي علّمتني هذا
الشيء.
الفلسفة والسينما تشاركتا في تأهيلي. عندما عبرنا في كتابات سبينوزا،
وقابلنا هيغل،
وطوّرنا سبل المعرفة مع نيتشه، وتعلمنا أسس تطبيق نظريات فرويد، وعدنا بعد
هذا كله
الى النصوص التأسيسية للاسلام الحقيقي، ودائماً باتباع منطق
المسافة، فهذا كله يجعل
الانسان أكثر تطوراً.
·
قل لي، ماذا تفعل في أوقات
الفراغ؟
-
الوقت الفارغ
أنتزعه. أقرأ كثيراً. أجالس الاصدقاء. برفقة زوجتي نعيش حياة زوجية حقيقية.
ليست من
النساء اللواتي ينزوين في مكان ما ويجعلن أزواجهن ينزوون بدورهم. هي زوجتي
الثانية
وقريباً سأصبح أباً. انا شمولي في التفاؤل وأؤمن بالحياة.
•••
·
توقفت عن الكتابة. ألا تشتاق
اليها؟
-
الكتابة فعل حقيقي. لا نكتب ونحن
ننتظر الاوتوبيس. لا اشتاق في الضرورة الى الكتابة، لكن أعرف
انه سيأتي يوم أكتب
فيه. في المقابل، أقرأ كثيراً. عام 2007، قررت أن أقرأ
Les Rougon-Macquart
الذي
يتألف من 20 رواية كتبها اميل زولا. تطلّب مني قراءتها سنة كاملة. كان هذا
شيئاً
مدهشاً، اذ اكتشفت واحداً من أهم كتّاب العالم. أما السنة الماضية، فقرأت
كل مؤلفات
دوستويفسكي، وأدركت أن قراءة هذا الروائي بحسب تاريخ صدور
مؤلفاته شيء يمكن أن
يغيّر حياة انسان. القراءة تحتاج الى فكر تنظيمي. قبل الذهاب الى المكتب
صباحاً،
فأنا أحتاج الى ساعة ونصف الساعة من القراءة المتواصلة.
·
ما هي ملذات الحياة
اليوم بالنسبة اليك؟
-
أن أجالس صديقاً لتبادل وجهات النظر. هذا شيء لا يثمَّن.
التقنية المثالية هي الا تلتقي طوال الوقت
اصدقاءك، بل أن تلتقيهم حين تشتهي ذلك.
ألاحظ الآن وانت تسألني هذا السؤال أنني لست شخصاً معقداً. عندي، أشياء
بسيطة قد
تشكل مصدر بهجة.
·
هل المسؤولية الملقاة على كتفيك
كبيرة الى هذا الحدّ في ظل
امتلاك سلطة كهذه؟
-
بداية، يجب ألاّ نبالغ في امتلاكي السلطة. هناك مقولة
فحواها ان "السلطة تبعث على الجنون والسلطة المطلقة تبعث على الجنون أكثر
وأكثر".
أنا قارئ نهم للفيلسوف كانط، وهو كان من الذين أثّروا فيَّ كثيراً عندما
كنت ادرس
الفلسفة. مع كانط يجري الكلام دائماً "عن" مكان ما. عندما يتكلم المرء،
يُسأل: "من
أي مكان تتكلم؟". اذاً، يتوقف الكلام على المكان الذي نتكلم منه. أنا احاول
مخاطبة
الآخرين على قدم المساواة. اعرف أن هذا كله نسبي، ولا يبقى الا حقيقة ما
قررنا أن
نفعله جماعياً. ولا يبقى الا ما نتركه، اي القرارات التي نتخذها والتي لا
مجال
للعودة عنها، وايضاً الاخطاء التي نرتكبها والنجاحات التي
نحرزها. هذه هي الأشياء
التي تبقى. ما إن تُعطى سلطةً ما، حتى تصبح التجربة قوية. كثيراً ما أتخذ
قرارات،
إما تنال الاعجاب وإما لا. نتيجة ذلك، تصبح، ولمرحلة من الزمن، رجلاً
مكروهاً عند
الذين لم تعجبهم قراراتك. اذا كنت تريد المحافظة على حسن
علاقاتك مع الجميع،
فالافضل الا تأخذ أي مسؤولية على عاتقك، وان تذهب للعيش في الصحراء، وهذا
ليس ما
أطمح اليه، كوني مناضلاً. نحن في المغرب نعمل وفق نظام "منح السلفة على
الايرادات"،
هناك مثلاً 15 مشروعاً يجري تقديمها، نختار خمسة منها، والباقي يُلغى. هذا
يعني
أنني سأكون مكروهاًَ لفترة معينة من جانب الذين رُفضت مشاريعهم، وهذه
الفترة تتوقف
بحسب ذكاء الشخص أو غبائه، فاذ كان غبياً فستطول الفترة، واذا كان ذكياً
فستقصر.
·
أيّ مصير تتوقع للمغرب بعد عشر
سنين من الآن؟
-
نمر بمراحل صعبة، سواء في
المغرب أو في البلدان العربية. ما يجري قد يدفعنا الى القاء
نظرة متشائمة على
واقعنا. الأزمة الاقتصادية الحاصلة الآن لا تسهّل الأمور. أعتقد أن ما
نفعله اليوم
في المغرب جدير بالاهتمام، وهو نهج قد يزعج. حظنا كبير ان الملك محمد
السادس ينظر
الى الصعاب مباشرةً ووجهاً الى وجه، ويرفع الكلفة في حديثه مع التاريخ. لا
يضع رأسه
في الرمل بل يواجه. وكل من يتحلى بالطموح لا بد ان يجد في الملك الرجل
المناسب. لن
نستطيع الخروج مما نحن فيه من دون الطموح. وانا ابقى على
تفاؤلي، وهو تفاؤل العقل.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
خارج الكادر
حكي نقّاد
صديقي الناقد،
أمس
تذكّرتكَ فجأة وتذكرتُ أنكَ اتصلتَ بي قبل فترة. لم أكن واعياً عندما كنتُ
احادثك.
اعتقد أنني تحدثتُ معك وأنا نائم. لا اتذكر
ما قلته لك، اتمنى الا أكون اعطيتك
أسراراً كبيرة. رقم حسابي في احد المصارف السويسرية مثلاً. الا
اذا كان الهدف
نبيلاً: تأسيس مجلة للسينما مثلاً. فأنت صديقي قبل أن تكون صحافياً، لكنك
أحياناً
صحافي قبل أن تكون صديقي. وعندما تذكرتكَ، قلتُ لنفسي سأذهب الى مدوّنته
لأقرأ ما
كتبته ووجدت رسالة تلك السيدة المرسلة اليك والتي اضحكتني كثيراً.
•••
أضحك كثيراً حينما اسمع كلاماً عني. يأتي هذا من
اعجابي الشديد بغروشو ماركس، الذي كان يضحك على نفسه عندما لا يجد احداً
يضحك عليه.
فأنا لا آخذ نفسي على محمل الجد، على رغم انني أعمل بجدية. وأعتقد ان
الكتابة عن
السينما يجب أن تمر أحياناً عبر الطرافة (كما تفعل أنتَ بين الفينة والفينة.
للمناسبة أنت ربما تكون الوحيد يفعل ذلك في العالم العربي). ففي صحيفة
"ليبيراسيون"
مثلاً هناك زاوية اسبوعية يكتب فيها ناقد عن افلام الـ"سيري بي"، بأسلوب جد
ساخر،
حتى انه في احدى المرات كان يتحدث فيها عن فيلم، اقترح أن يضعه (الفيلم) في
الحمّام
ويسحب السيفون. فهذا المكان يليق به، قال. فلو كتبتُ الشيء
نفسه عن فيلم هابط
يُعرَض في إحدى صالات الحمراء المعفنة، وأنا مقتنع ان هذا مكانه الحقيقي،
لكان
ذبحني القراء قبل المخرج. فالكل هنا مترابطون بحلقات أخلاقية لا نعلم أين
تبدأ، لكن
نعرف اين تنتهي وكيف! اذاً، المشكلة ربما هي في اللغة العربية التي لا تأخذ
فيها
راحتكَ وأنت تشتم. لا شتيمة أنيقة في لغتنا، كما في لغات
أجنبية اخرى، بل يتحول
النقد الساخر او الكاريكاتور سبّة واهانة. لذا، أقول للسيدة: طبعاً أنتِ
على حق لأن
اسلوب الاستهزاء ليس متداولاً في النقد العربي، وهنا لا اقول انني اخترعت
شيئاً،
لكن ينبغي البدء من مكان ما. في النهاية نحن نتكلم عن سينما.
طبعاً هي قضية وثقافة
وكل ما يترتب عليها من اعتبارات، لكن نحن لا نتكلم اقتصاداً ولا رياضة،
ولسنا موظفي
مصارف! "شوية خروج على اللياقة والديبلوماسية ما بتضر". صحيح انه يمكن ان
ترى
نوعاً من الاستهزاء في الكلمة التي استخدمتها، لكن هذه عقيدة، وكل عقيدة
تناقَش،
ويمكن أن تكون مادة تمجيد او ازدراء. السيدة الفاضلة تقول إني
أشخصن النقد. أسألها
كيف؟ لو ذكرتُ ان أنف المخرج طويل وينبغي أن يجري عملية جراحية لتصغيره،
لكان ذلك
هراء، وفي هذه الحال كان يمكنها القول انني اتكلم عن شخصه لا عن عمله.
عندذاك أقبل
أن ترجمني السيدة الفاضلة بحجر.
•••
لا أريد أن ألهيكَ عن عملكَ مع رسالتي هذه، فتضطر
أن ترّد وتضيّع وقتك الثمين. لكن "منيح بعد في أنت" نتواصل معه، لأن العقول
كلها
صارت متحجرة، وكل واحد يكتب من زاوية تريحه ويهيمن عليها، ويعتقد انه يخلق
العالم
من جديد. شيء مقرف حقاً. أكتشف يوماً بعد يوم ان الناس
العاديين الذين يحبّون
السينما هنا في أوروبا (ألقّبهم بالسينيفيليين، كلمتي المفضلة) أكثر فهماً
أحياناً
من بعض حاملي الأقلام في الصحف العربية الكبرى. وأرجو أن لا تفهم خطأ، فأنت
تعرف
عمّن أتكلم. على الأقل، هؤلاء يناقشون. لا يهزّون رؤوسهم
ويمشون، ولا يقتصر النقد
عندهم على ثنائيات بليدة "حلو، مش حلو"، "عجبني، ما عجبني". فلا سينما من
دون
مناقشة. السينما هي دعوة الى المناقشة.
•••
على سيرة آلان رودولف، في الأمس كان ثمة لقاء جماعي
معه هنا. كانت لي مقابلة معه، لكن السيدة التي ترافقه، وفي رغبتها للاتصال
بي، اتصلت بالرقم الخطأ. وهكذا كان. عندما رويت هذه القصة
لناقد آخر يشارك في
المهرجان، لم يستطع إخفاء الفرحة على وجهه. وكأنني ملّكته الدنيا. على
الاقل هذا
زميل صادق، يشهر كراهيته في وجه الآخر!
•••
غداً، انشر تعليقاً عن مبادرة أحد النقاد، فيه بعض
الملاحظات تشمل خطوته السوريالية، لكني جمّلته قليلاً، كي لا يستاء مني.
هذه المرة
الاولى أكتب فيها عن زميل عربي. لا اعرف ماذا يكون رد فعله اذا
قرأ التعليق -
العقصة. على كل حال، الكتابة عن الزملاء ونصوصهم يجب ان تكرَّس وتصبح جزءاً
من
المناقشة المفتوحة، وهو شيء صحي جداً، لكنه مغلّف بنوع من تابو عندنا، يجب
اسقاطه
يوماً ما. ألم يكن اعضاء "الموجة الجديدة" في فرنسا الستينات
يناقشون المسائل
السينمائية الكبرى، وتصل بهم الحال أحياناً الى حدّ الشتيمة والعداء؟ نحن
لا نفتقر
الى العداء في ما بيننا، لكن ليست عداوات من أجل جوهر السينما، بل عن أشياء
تدور
حولها. أكرر مرة ثانية: وحده الميت لا يناقش.
•••
يا صديقي، لا يزال بعض الصحافة العربية المتخلفة
مصراً على كلمة "عالمي" في وصفه بعض الفنانين والسينمائيين والممثلين.
العربي اذا
نجح في الخارج، يصبح عالمياً، أما الآخرون عندما ينجحون في بلدانهم، فلا
داعي للقول
عنهم إنهم عالميون لأنهم يولدون عالميين. هل هناك انسان عالمي وآخر غير
عالمي؟ أو
"أنتي" عالمي؟ أرجوك أكتب مقالاً في هذا الشأن! مهلاً: دعك من هذه
التفاهات. انسَ
الموضوع!
سأعود اليك...
هـ. ح.
النهار اللبنانية
في
03/12/2009 |