بعيدا عن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في مهرجان كان،
عرض فيلمان اعتبرا من "التحف" السينمائية الكبيرة.
الأول هو فيلم "أجورا"
Agora للمخرج الإسباني اليخاندرو أمينبار، مع طاقم عالمي من الممثلين،
وبتمويل مشترك وامكانيات فنية هائلة.
وأعد للفيلم نسخة ناطقة بالإنجليزية، لضمان التوزيع في السوق
الأمريكية، وهي الأكبر في العالم. وقد عرض خارج المسابقة.
أما الفيلم الثاني فهو الفيلم الروسي "قيصر" للمخرج الشهير بافل
لونجين، وهو من التمويل الفرنسي وبامكانيات إنتاجية كبيرة تتناسب مع موضوعه
الكبير.
عرض الفيلم في قسم "نظرة خاصة" رغم أنه يتميز بمستواه الفني الكبير
على الكثير مما شاهدناه في المسابقة الرسمية.
الفيلمان يشتركان في أكثر من سمة، الأولى أنهما من الأفلام
"التاريخية"، أي تلك التي تدور في الزمن الماضي البعيد، أو مما يطلق عليها
period films.
أما السمة الثانية فهي أن كليهما يتعرض بشكل أو بآخر، لموضوع التعصب
الديني أو التفسير الخاطيء للدين عندما يصبح مبررا للقمع والإرهاب وإنكار
"الآخر" وشطبه.
في الاسكندرية القديمة
"أجورا" كلمة يونانية معناها "الساحة" التي كان يجتمع فيها المثقفون
والشعراء والعلماء في أثينا القديمة أو في الاسكندرية في زمن الامبراطورية
الرومانية بعد انقسامها حول عاصمتين: روما والاسكندرية.
أما الشخصية الرئيسية في الفيلم فهي شخصية هيباتيا.. تلك العالمة
الاغريقية الأسطورية التي أثارت سخط الكنيسة القديمة التقليدية، كنيسة
الاسكندرية، بسبب نبوغها العلمي وتأثيرها الكبير في المجتمع رغم كونها
يونانية "وثنية" رفضت الانصياع للتعاليم الجامدة للكنيسة في تلك الفترة من
القرن الرابع الميلادي.
وهيباتيا بالمناسبة، هي إحدى الشخصيات الرئيسية في رواية "عزازيل"
للكاتب المصري يوسف زيدان الفائزة بجائزة جونكور العربية لعام 2009. وهي
التي ينتهي مصيرها في الرواية والواقع بالقتل بطريقة تقشعر لها الأبدان،
على أيدي المتعصبين، الذين يبيحون قتل الآخرين باسم الدين، بل ويحرقونها
وهي مازالت حية.
وقد قدم زيدان في روايته وصفا تفصيليا أدبيا رفيعا لحادث اغتيالها في
"الساحة" الرئيسية بمدينة الاسكندرية وهي في طريقها لإلقاء محاضرة على
جمهورها.
وهيبا- من هيباتيا- هو الإسم الذي أطلقه على بطل الرواية، الراهب
المصري الذي جاء من الصعيد إلى الاسكندرية للتزود بعلوم اللاهوت، وبدلا من
ذلك انساق وراء التعلم من تجارب الحياة ذاتها. وقد تسمى باسم هيبا تحية
وإعجابا بالعالمة اليونانية العظيمة التي راحت ضحية التعصب والتزمت والجهل.
أما فيلم "أجورا" فهو الأول في تاريخ السينما الذي يتناول شخصية "هيباتيا،
وقد جرى تصوير الفيلم في جزيرة مالطا، حيث شيدت ديكورات هائلة لمدينة
الاسكندرية القديمة التي كانت العاصمة الثانية للإمبراطورية الرومانية في
تلك الفترة، بفنارها الشهير، ومكتبتها التي اعتبرت مهد العلم والمعرفة في
العالم القديم.
واستخدم المخرج آلاف الممثلين الثانويين، في المشاهد التي تستخدم فيها
الجموع، خاصة المشاهد النهائية في الفيلم، وذلك على نحو يذكرنا بالأفلام
التاريخية الملحمية الكبيرة التي كان يخرجها سيسل دي ميل، أو الأفلام
الكبيرة التي خرجت من هوليوود في الخمسينيات والستينيات. أساس موضوع الفيلم
هو ذلك الصراع الشهير الذي ميز العصر الأول بعد اعتناق الإمبراطورية
الرومانية المسيحية التي أصبحت الديانة الرسمية للدولة، والسماح لمسيحيين
بالدعوة لديانتهم والتحرك بحرية في أرجاء البلاد.
لكن من بين هؤلاء من استخدموا الاعتراف الرسمي بديانتهم من أجل إرغام
الآخرين على اعتناق المسحية، حتى أولئك الذين لم يكن يمكن اعتبارهم من
الذين يقفون في معسكر أعداء الديانة بأي شكل من الأشكال.
وعلى رأس هؤلاء بالطبع "هيباتيا" عالمة الفلك والرياضيات والفيلسوفة
الشهيرة التي اعتبرت الأم الروحية للعلوم الطبيعية الحديثة. رمز الحكمة
ويصور الفيلم هيباتيا ابنة رئيس مكتبة الاسكندرية العالم الكبير
"ثيوس" الذي يكن له الجميع الاحترام والتقدير، باعتبارها رمزا للحكمة
والتسامح، وبتركيز خاص على أبحاثها المتعلقة بوضع الإنسان في الكون، وموضع
كوكب الأرض بالنسبة للشمس، وهل الأرض كروية أم مسطحة، وما الذي يبقي الأرض
سابحة في الفضاء.
في الوقت نفسه يصور الفيلم علاقتها بشخصية "متخيلة" هي شخصية
"أوريستوس" الروماني الذي يتدرج في السلك العسكري والسياسي إلى أن يصبح
الحاكم الفعلي للمدينة وممثل الامبراطور الروماني بعد انشقاق الامبراطورية
وإشرافها على التفكك، مفسحة الطريق لنظام عالمي جديد مع انتشار المسيحية.
هناك علاقة عاطفية واضحة بين هيباتيا وأوريسيوس، الذي يقف مدافعا عنها
إلى ما قبل النهاية عندما يستسلم لمنطق القوة مثل أي سياسي في عصره، ويتخلى
عن حمايتها أمام تشبثها بفكرة الحرية: حرية العقيدة والاختيار.
ومن جهة أخرى هناك أيضا "دافوس" العبد الذي يتحول تدريجيا إلى اعتناق
المسيحية، وتمنحه هيباتيا حريته، لينطلق وينضم إلى الجماعات المتطرفة التي
يقودها رجل الدين "أمونيوس" (يقوم بدروه أشرف برهوم الممثل الفلسطيني في
فيلم "الجنة الآن").
يحرض "أمونيوس" على الاستيلاء على معابد الرومان والاغريق إلى أن نصل
إلى اقتحام مكتبة الاسكندرية من جانب الجماعات المهووسة بالدين كما يصورها
الفيلم، حيث تأخذ في هدم وتدمير المحتويات بدعوى أنها تنتمي إلى التراث
الوثني، وتهدم التماثيل وتسقط الرموز الفنية وتحرق الوثائق والأبحاث
العلمية والخرائط.
بعد ذلك يبرز دور الأسقف "سيرل" وتتصاعد الدعوة إلى ضرورة الفتك
باليهود المقيمين في الاسكندرية والتنكيل بهم وهو ما يصوره الفيلم في مشاهد
هائلة: تحطيم المحلات التجارية والاستيلاء على أموال اليهود ونهب بيوتهم ثم
قتلهم بأكثر الطرق وحشية فيما يصرخ كبير الحاخامات: "لو لم يكن اليهود لما
كنتم أنتم أيها المسيحيون.. لقد كان المسيح يهوديا"!
ومع اشتعال حمى رفض الآخر والفتك بكل من يختلف مع "الجماعات" التي
تدعي احتكار الحقيقة المطلقة، تتجه دعوة الأسقف سيرل إلى منع الاستماع
للنساء، بل وحظر بروز المرأة في المجتمع والعمل على إعادتها للمنزل، وحظر
اشتغال المرأة بالفكر أو التدريس، بل والتحريض على قتل هيباتيا باعتبارها
"وثنية" معادية للديانة الجديدة رغم دفاعها عن حق الآخرين في الاعتقاد كما
يشاءون.
يقبضون عليها ويسوقونها بعيدا ويجردونها من ملابسها، ويستعدون لحرقها
في الساحة، إلا أن الفيلم لا يصور النهاية الحقيقية التي انتهت إليها
هيباتيا في الواقع كما تحفظ كتب التاريخ، أي تمزيق جسدها ثم حرق أشلائه.
بدلا من ذلك نرى عبدها السابق "دافوس" الذي يكن لها حبا ممزوجا
بالاشتهاء، وهو يحتضنها بقوة ثم يقوم بخنقها بينما هو يتمزق ألما وحسرة
عليها، حتى يجنبها مصيرها البشع المحتوم. ولاشك أن المصير الذي تنتهي إليه
هيباتيا له تأثيره، لكن تغيير المسار الصحيح يبدو غير مفهوم في سياق
الفيلم.
أصداء معاصرة لاشك أن الفكرة الأساسية وراء الفيلم هي فكرة ذات أصداء
معاصرة تماما. وكما تستخدم رواية "عزازيل" التاريخ للإسقاط على الواقع
الحاضر، يستخدم الفيلم قصة "هيباتيا" للتطرق إلى معالجة فكرة التعصب
الديني، ورفض التعايش مع الآخر، ونبذ المرأة واستبعاد دورها وتقزيمه،
واحتقار العلم بدعوى تعارضه مع الدين، وغير ذلك من الأفكار المعاصرة تماما
والتي تتسق مع ما يحدث في عالمنا حاليا.
ولاشك أن الفيلم يعبر عن رؤيته الفكرية باستخدام أقصى ما تسمح به لغة
التعبير المرئي في السينما: التجسيد البصري للأماكن والأحداث والشخصيات،
خلق حبكة تدور من حولها الدراما دون أن تكون الحبكة مقصودة في حد ذاتها،
الاستخدام الموحي للتكوين وحركة الكاميرا وزوايا التصوير التي تتنوع
وتتباين حسب مزاجية المشهد وما يحتويه، الموسيقى التي تغلف الصورة وتلعب
دورا مباشر محسوسا تحت جلدها.
وعلى العكس من أفلام سيسل دي ميل التوراتية أو الأفلام التاريخية التي
خرجت من هوليوود حديثا مثل "المصارع" وغيره، ليس الهدف من تصوير تلك
الدراما الهائلة الإبهار أو إثارة المشاعر، بل أساسا، الدعوة إلى التأمل:
تأمل الماضي للاستفادة من دروسه.
ولذا، يفرد الفيلم مساحات واسعة يتوقف خلالها ويركز على الفضاء،
والكواكب السابحة في السماء، ويصور علاقة هيباتيا بالعالم من خلال بحثها
فيما وراء العالم المحسوس المرئي والمباشر.
عندما يهددها رجل الدين "أمونيوس" بالموت إذا لم تعتنق المسيحية، تقول
أمام الجميع في بساطة وعفوية مخلصة إنها تؤمن بالفلسفة.
القيصر
لكنه يسخر من تلك "الفلسفة" ومن قدرتها على إنقاذ صاحبتها من الموت.
وهذا نفسه، وإن على صعيد آخر، ما يصل إليه فيلم مختلف كثيرا في موضوعه
وبنائه وإن لم يختلف في جوهره هو الفيلم الروسي "قيصر"
Tsar.
نحن هنا أمام سيناريو شديد الرونق والإحكام، يدور أساسا حول شخصيتين:
القيصر الروسي الشهير باسم إيفان الرهيب من القرن السادس عشر (1565
تحديدا)، والرجل الطيب الورع فيليب، صديق طفولة القيصر الذي يعينه رئيسا
للكنيسة الروسية بعد استقالة رئيسها في أعقاب هزيمة الجيش الروسي أمام
القوات البولندية.
غير أن القيصر يتجه رويدا رويدا إلى اعتناق الخرافات باسم الدين،
وينتقي من الدين ما يدعم سلطته ويكفل لها أن تظل سلطة مطلقة استبدادية.
وهنا يبدأ وينمو الصدام بينه وبين الأسقف فيليب.
الفيلم مقسم إلى عدة فصول يحمل كل منها عنوانا مثل "حرب القيصر"
و"تضحية القيصر" و"ساحة ألعاب القيصر" وما إلى ذلك.
جنون إيفان
ويصور الفيلم كيف يتحول القيصر تدريجيا في اتجاه الجنون المطلق عندما
يبدأ في الاعتقاد بأنه امتداد للإله، أو "ظل الله على الأرض"، ويأخذ في
إصدار تعليماته بالتنكيل بالجميع: الأمراء الذين يتهمهم بالخيانة بعد هزيمة
الجيش، قواد الجيش الذين يأمر باعدامهم، بل وأفراد الشعب إذا لم يحضروا
لمشاهدة تنكيله بخصومه علانية في ساحة المدينة.
ويصل إلى الصدام مع صديقه القديم، أسقف الكنيسة الروسية، بسبب رفض
الأخير الانصياع لرغبات القيصر وإدانة الأمراء بتهمة الخيانة، التي يعرف
أنهم أبرياء منها.
يعترف القيصر في إحدى المواجهات بينه وبين الأسقف فيليب، أنه كإنسان
من الممكن أن يخطىء، بل ويظلم الآخرين، أما كقيصر فكل أحكامه صحيحة لأنه
يستمد قوته وشرعيته من الحكم الإلهي نفسه. ولا يفتأ يكرر أن الله أمر بطاعة
الحكام وتنفيذ أوامرهم.
هذا أساس الصراع العنيف هنا بين مفهومين للدين: مفهوم يرى الدين مجسدا
في العدل والتسامح والحب، ومفهوم آخر يراه في القوة.
يقول القيصر متسائلا في استنكار: هل تريدني أن أنتظر أن يحاسب الله
هؤلاء الأمراء؟ ومن الذي سيحمي البلاد إذن من الخونة والمتآمرين؟ إن هذا
دوري في الحفاظ على الدولة وإلا انهارت.
هذا التبرير للاستبداد يصل إلى أقصاه عندما يُعتقل الأسقف، ويُسجن
داخل دير، وتُقيد يداه، ويتعرض للإذلال من جانب خصومه من رجال البلاط الذين
كانوا يرفضونه ويخشونه من البداية بسبب تعارض منطقه القائم على إحقاق
العدل، مع منطقهم في تغليب القوة.
وينتهي الفيلم بالنهاية المنتظرة المؤجلة أي باعدام الأسقف خنقا، ولكن
دون أن نرى المشهد مجسدا على الشاشة لأنه من تحصيل الحاصل هنا. ميزات
السيناريو بطبيعة الحال ما يميز الفيلم إلى جانب السيناريو الدقيق الذي يعد
اعادة تسليط للأضواء على شخصية القيصر "إيفان الرهيب" الذي يعتمد على عكس
ما توصل إليه أيزنشتاين في فيلمه بالعنوان نفسه حول دور رجل الدين في دعم
الاستبداد، هناك أسلوب ولغة الإخراج التي تعتمد على حركة الكاميرا والتكوين
والتشكيلات البصرية والأداء التمثيلي الفذ المبهر حقا، والموسيقى وإعادة
تجسيد ديكورات الفترة وأزيائها.
ومن ضمن الجوانب الثرية التي يرسمها السيناريو جيدا ويجسدها المخرج
بعبقريته الفريدة بالاستعانة بالطبع بامكانيات تصميم المناظر، ذلك الجزء
الذي يحمل عنوان "ساحة ألعاب القيصر".
وفيه يستعرض القيصر أمام رعيته من سكان موسكو الكثير من وسائل وأساليب
التعذيب المبتكرة التي صممها له أتباعه وعلى رأسهم الرجل ذو السحنة
الشيطانية الذي يتلذذ بابداء ازدرائه للأسقف وأفكاره، ويتمرغ في مداهنة
القيصر وتزيين الشر له، إلا أنه ينتهي بالموت حرقا بعد أن يسخر من القيصرة
الشابة بدعوى أنه لا يردد سوى "الرؤية" المستمدة من صحيح الدين!
ويجسد الفيلم البراءة في طفلة صغيرة تعاني من اعتلال صحي يتبناها
القيصر (في اطار تناقضاته الشخصية) ويمنحها صورة للمسيح والعذراء، لكنه لا
يستنكف أن يأمر باطلاق دب متوحش لالتهام الأمراء الذين أدانهم بالخيانة.
وعندما تحاول الفتاة وقف اعتداء الدب تلقى مصيرها في مشهد مثير للرعب. درس
في الأداء ولعل الأداء التمثيلي في هذا الفيلم تحديدا يعد من أفضل ما
شاهدناه في هذه الدورة حتى الآن بل ربما الأحسن والأرقى على الإطلاق.
إن أداء الممثل العظيم بيوتر مامونوف في دور القيصر نموذج مبهر
للمدرسة الروسية في التمثيل: إنه يعبر بالعين وبحركة الرموش والجفنين،
وارتجافات الشفتين، وتشنج اليدين، والتلوين في الصوت، والحركة الفسيحة
الواثقة الموحية للجسد في الفراغ، كأعظم ما يكون الأداء السينمائي، وبحيث
يتوارى تماما الفرق بين الممثل والشخصية. إنها مدرسة ستانسلافسكي في أرقى
مستوياتها في التعبير بالتقمص.
وعلى الناحية الأخرى لا يقل أداء الممثل الكبير أوليج يانكوفسكي في
دور فيليب، بصمته المعبر الآسر الحزين، وصموده بصبر على الألم، والتعبير عن
الألم بنظراته وإيماءاته وليس بحركات جسده الخارجية.
يستخدم لونجين الإضاءة بحيث تجسد الظلال القاتمة في جوانب الصورة،
ويحيط المناظر الخارجية بالضباب، ويعبر عن ذروة بلوغ المأساة قمتها في مشهد
حرق الكنيسة التي يرفض رهبانها إعطاء جنود القصير جثة الأسقف.
يقول المخرج لونجين: "لقد كان إيفان الرابع رجلا مثقفا ذكيا، ربما
أكثر الرجال معرفة وعلما في عصره، وكان كاتبا وشاعرا. ولكن ليس هناك ما هو
أسوأ من الفنان وهو في السلطة. لقد كان وحشا، منع دخول روسيا عصر التنوير
مبقيا عليها في العصور الوسطى. ونحن لازلنا نعيش في العصور الوسطى على نحو
ما، حتى الآن"!
بالنسبة لفيلم "انتقام" كانت الأنظار مشدودة إلى أداء جوني هاليداي
النجم الذي يتربع على عرش غناء الروك في فرنسا منذ أربعين سنة والذي سبق له
التمثيل في بعض الأفلام من دون أن يثبت تفوقاً كممثل، وعليه لم ينتظر
النقاد منه التألق بعد هذا العمر، لكن أداءه في هذا الفيلم الصيني كان
مفاجئاً رغم بعض الافتعال في المشاهد الأولى. وهو يجسد في "انتقام" شخصية
طباخ وصاحب مطعم فرنسي جاء إلى هونغ كونغ كي ينتقم لابنته التي تعرضت
وعائلتها لاعتداء أسفر عن مقتل زوجها وولديها وإصابتها بالشلل. وفي رحلة
انتقامه التي يصطحب فيها مجموعة من القتلة المأجورين يسترجع ماضيه حين كان
بدوره قاتلاً مأجورا ومع تتابع الأحداث يسترجع الطباخ مهارة القاتل السابق
في إطلاق النار ويتمكن من تحقيق انتقامه. الفيلم الذي أخرجه الصيني جوني تو
يعرض الأحداث بشكل خاص وبدرجة من الكاريكاتورية المحببة تجعل الفيلم أنيقاً
مسليا وأقرب إلى قصص المجلات المصورة، لكنه لا يرقى بالطبع إلى درجة
التنافس في المسابقات الرسمية.
موقع
"الـ BBC العربية" في 18
مايو 2009
####
فيلمان بريطانيان في مهرجان كان السينمائي
أمير العمري/ كان ـ بي بي سي
حتى الآن عرضت ستة أفلام في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في
الدورة 62 لمهرجان كان السينمائي هي فيلم يمثل الصين هو "حمى الربيع"،
وفيلمان من بريطانيا هما "حوض الأسماك" و"نجمة لامعة"، وفيلم "عطش" من
كوريا الجنوبية والفيلم الأمريكي "الاستيلاء على وودستوك"، والفيلم الفرنسي
"نبي".
فيلم "نجمة لامعة" للمخرجة النيوزيلاندية المتميزة جين كامبيون التي
حصلت على السعفة الذهبية في 1993 عن "البيانو"، جاء في نظر الكثير من
النقاد هنا، مخيبا لآمال.
نجمة لامعة
التساؤل الأولي الذي يخطر على البال بعد مشاهدة هذا الفيلم الذي كتبته
مخرجته بنفسها هو: ما هي الحدود الفاصلة بين عالمي الأدب والسينما؟.
أو بالأحرى، هل يكفل الارتكان في السيناريو على شخصية مرموقة في عالم
الشعر مثل بطل فيلمنا هذا الشاعر الانجليزي من القرن التاسع عشر جون كيتس،
التوصل إلى فيلم جيد، ممتع، معاصر، يشبع أغوار الشخصية كما يمتع جمهر سينما
اليوم؟
والسؤال التالي المنطقي هو: هل من الممكن أن تعتمد معالجة فيلم من هذا
النوع على ترجمة الشعر الذي يكتبه جون جيتس أو التعبير عنه بالكلمات أو
الحديث عنه كما في الحوارات الطويلة المرهقة بين بطلي الفيلم؟.
الرأي السائد أن السينما لها عالمها الخاص الذي ينسج أساسا من الصور،
ومن اللقطات، ويعتمد على التكثيف أكثر من الإسهاب والشرح، كما أن
المخرج-المؤلف عادة ما يسعى لتقديم "رؤية" شخصية معاصرة لوقائع وأحداث
أصبحت الآن في ذمة التاريخ، وهي مدونة في كتب التاريخ الأدبي بتفاصيلها.
ولا يوجد مبرر لتقديمها في السينما سوى من خلال "رؤية" جديدة أو سباحة
سينمائية حرة داخل عالم الشخصية الرئيسية المراد الحديث عنها، وليس من خلال
"ترجمة" الشعر أو تلخيصه أو تقديمه للمشاهدين عبر علاقة الحب التي ربطت
الشاعر بجارته المقدامة الجريئة "فاني بروان" التي كانت تصمم ملابسها
بنفسها.
مشكل هذا الفيلم أنه يكتفي بالالتزام الحرفي بالمنهج القديم في معالجة
هذا النوع من الأفلام، أي منهج الدراما التاريخية التي تهتم كثيرا جدا
بالأزياء، وبمطابقة الديكورات والاكسسوارات، نمط الإضاء، وطريقة الحركة
والأداء، أي باختصار، مراعادة المقاييس "الكلاسيكية" حرفيا.
هذا الجانب لاشك أن مخرجة الفيلم نجحت فيه، ولكن السؤال الذي لا يفتأ
يطرح نفسه عليك: وماذا بعد، وأين رؤيتك الخاصة للموضوع ومغزاه؟ وما الجديد
الذي يمكن اضافته إلى أفلام أخرى بريطانية كلاسيكية اكتسب سمعة عالمية
كبيرة لعل أشهرها من هذا النوع نفسه "حجرة تطل على منظر طبيعي" لجيمس
إيفوري (1985).
الفيلم لا ينجح في تجاوز قصة الحب الجميلة المأساوية بين الشاعر كيتس
وجارته فاني التي تبدأ أولا على استحياء شديد في ظل التقاليد المتزمتة في
الريف الانجليزي ومع رفض وتهكم بل ومحاولة تمييع من جانب رفيق كيتس وراعيه
على نحو ما الاسكتلندي الساخر المتهكم دائما الذي يتورط هو نفسه في اقامة
علاقة مع خادمة في منزل براون تحمل منه وتنجب له ولدا يضطر للاعتراف به.
علاقة الحب بين كيتس وفاني يتم التعبير عنها من خلال لمسات اليد
والتهامس والأحضان المتباعدة وليس من خلال العلاقاة المكشوفة الملتهبة التي
قد يتوقعها مشاهدو اليوم.
أما المشكلة الرئيسية هنا فهي أن الفيلم نفسه، بايقاعه البطيء وخلو
حبكته من أي مفاجآت أو مشاهد خاصة تثير الخيال، تجعل من قصته التي تنتهي
بموت الشاعر وتألم الحبيبة، قصة معروف سلفا ما ستنتهي إليه.
وأخيرا "نجمة لامعة" هو بالمناسبة عنوان قصيدة شهيرة كتبها جون كيتس
لحبيبته في اطار تغزله فيها، وقد كانت لها أيضا اهتماماتها بالشعر ورغبة
عميقة في فهم عالم الشعر والاقتراب الحسي منه.
وقد حاول هو أن يصف لها إحساسه بالشعر على صعيد يختلف تماما عن
"الحسي" ويقرب من "الروحاني".
حوض الاسماك
أما فيلم "حرض الأسماك" للمخرجة الانجليزية أندريا أرنولد فهو شديد
الاختلاف في موضوعه ومعالجته عن "نجمة لامعة" فهو يدور في بريطانيا
المعاصرة، في أوساط الأسر المهمشة المنبوذة اجتماعيا التي تقطن مساكن
الدولة التي تدنت وبلغت حالة من التدهور تعبر عما وصل إليه المجتمع نفسه
حاليا.
بطلة الفيلم فتاة مراهقة في الخامسة عشرة من عمرها: مقتحمة، جريئة،
تمتليء في داخلها بكل ذلك التوتر الذي يشوب فترة المراهقة والبحث عن الذات،
كما يملؤها أيضا غضب على الواقع، ورفضا عنيفا لمحيطها الخالي.
إنها "ميا" التي تعيش مع أمها المنفصلة منذ زمن عن والدها، وشقيقتها
الصغيرة "تيلر".
لكن أمها لا تبدي أي اهتمام حقيقي بالاقتراب من ابنتها، بل تعيش أسيرة
رغبة مستمرة في الاستمتاع بالحياة، بالشراب، بالحفلات، بالصحبة، وبالجنس مع
رفيقها الجديد "كونور" الذي يعمل حارسا في شركة للنقل.
"ميا" تبدو وقد سئمت الحياة نفسها حتى قبل أن تبدأ النفاذ إليها بشكل
جدي.
إنها ترفض امها، ومحيط علاقاتها، كما ترفض الاختلاط بغيرها من الفتيات
اللاتي تجد أنهن فارغات لا يصلحن لشيء، وترفض المدرسة التي انقطعت عنها
وتقاوم بكل السبل العودة إليها تحت كل الضغوط.
وهي تهب بنفسها، تقتحم شقة خالية في إحدى البنيايات المجاورة، لكي
ترقص على أغام الموسقى التي تحبها. ويتخذ رقصها الانفرادي هنا مرادفا
للرغبة في التحرر والانطلاق بعيدا عن كل القيود.
لكن حياة ميا تنقلب عندما تجد لدى كونور، صديق أمها، كل تفهم ولطف،
فهو يعاملها برقة، يتحاور معها، يبدي اهتماما بأمرها ويناقشها فيما تريد أن
تفعل مستقبلا دون أي محاولة للقيام بدور الأب.
في البداية تقاوم ميا الاقتراب منه، لكنها تجد نفسها تدريجيا مشدودة
إليه، ليس فقط كنموذج للأب البديل، بل وتبدأ في الإحساس نحوه بمشاعر أخرى
أقوى وأكثر حسية.
وذات يوم، يقع المحظور بين الاثنين، وصاحبنا تحت تأثير الخمر، وتكون
النتيجة أن يختفي كونور تماما خشية من عواقب تلك العلاقة "الخطيرة" مع فناة
في الخامسة عشرة من عمرها.
تطارده ميا، وتذهب إلى منزله، وتتسلل أثناء غيابه لتكتشف أنه متزوج
ومنفصل وإن لديه ابنة صغيرة، بل وتشاهد الأسرة الصغيرة التي تعود فجأة إلى
المنزل أثناء وجود ميا فيه، فتهرب الفتاة وتكمن ثم تستدرج ابنته الصغيرة،
وتحاول الانتقام من أبيها في شخصها وتكاد تقتلها غرقا في النهر القريب.
هذا فيلم ينتمي حرفيا للمدرسة الواقعية البريطانية الأصيلة، إلى أفلام
عالم أفلام المخرج مايك لي: دقة السيناريو، تلقائية الأداء التمثيلي،
السيطرة المدهشة على الإيقاع العام، التحرر في استخدام الكاميرا (المحمولة
المتحركة المهتزة في الكثير من المشاهد)، والاختيار العبقري لمواقع التصوير
بحيث تكون العلاقة حاضروة دوما بين الشخصية والمكان.
إنه على نحو ما، دراسة بالكاميرا في نمو وعي "فتاة تحت السن" بالعالم
والدنيا، وبموقعها الذي ترفضه داخل الهامش: هامش المعزولين اجتماعيا،
والمهمشين اقتصاديا في بريطانيا المعاصرة: البطالة، الفراغ، تشرد الشباب،
المخدرات، التكدس في مجمعات سكنية عتيقة بنيت بفلسفة ورؤية أخرى فيما بعد
الحرب العالمية الثانية ,اصبحت اليوم مرتعا لكل الأدران الاجتماعية دون حسب
أو رقيب.
وتتعمد المخرجة عدم تصوير وجه الأم كثيرا بل تتجنب مواجهتها
بالكاميرا، فهي شخصية تعيش في عالمها المغلق الحزين بسبب الوحدة رغم جمالها
الذي يوشك على الزوال وخشيتها بالتالي من الزمن.
الأم موجودة في الصورة وغير موجودة في الفيلم إلا للتعبير عن ضعف
تأثيرها الإيجابي القوي على الابنة-البطلة-المتمدة، التي تبحث عن عالم أكثر
رحابة ربما لن تتمكن من الوصول إليه إلا بعد أن تترك تلك الضاحي الصغيرة
وترحل مع صديقها المتشرد الحائر مثلها وإن كان لا يتمتع بنفس قوة الشخصية.
اهتزاز الكاميرا يعكس الاهتزاز القائم في الواقع، والاستخدام المتميز
للاضاءة غير المباشرة طوال الفيلم يخلق ظلالا قاتمة حول الوجوه أحيانا، أو
يجعل الصورة ضبابية كما هي أمام بطلتنا الصغيرة "ميا".
أما ميا نفسها فلعل أبرز عنصر في الفيلم هو تمثيل الممثلة الجديدة
كاتي جارفيس التي اكتشفتها المخرجة من خارج عالم التمثيل الاحترافي- التي
تناسب الشخصية تماما، تبتعد عن الافتعال والمبالغة، وتمزج السخرية والتهكم،
بالرقة المفاجئة، قبل أن ترتد إلى توحشها الذي يخفي قلقها وخوفها من الدنيا
كثر مما يظهر رغبة في الامتثال للعنف.
المخرجة أندريا أرنولد التي حققت مفاجأة بفوزها بجائزة لجنة التحكيم
عن فيلمها الأول "الطريق الأحمر" في كان 2006، ربما تعود هذا العام فتحصل
على جائزة رئيسية في كان 2009.. فمن يدري!.
موقع
"الـ BBC العربية" في 17
مايو 2009
|