الخليج في
مهرجان برلين
السينمائي الدولي (4)
جرأة تحتاجها السينما والمجتمع
"عمارة يعقوبيان" نوافذ على الفساد والبؤس
برلين- محمد رضا
“عمارة
يعقوبيان” المشارك في مهرجان برلين، يبدأ بمشاهد تسجيلية بالأبيض والأسود
تتحوّل الى الألوان وتسرد تاريخ العمارة التي بناها أرمني مهاجر الى مصر،
وكانت بمثابة انجاز معماري سكني كبير في الأربعينات. يخبرنا الفيلم ما آلت
اليه العمارة من انتهاء عصر الملكية الى الناصرية ثم المرحلة التي تلتها
وصولاً الى الآن حيث تبدأ أحداث القصة الروائية. وهذا تقريباً كل شيء
نستلهمه من أمر العمارة باستثناء ما يصيح به زكي الدسوقي (عادل امام) قرب
نهاية الفيلم مترحّماً على الماضي بأسره ناقلاً احساساً طاغياً بالخسارة
يؤلم الكاتب وحيد حامد كما برهن في معظم أعماله حتى الآن.
المخرج
مروان حامد، ابن الكاتب، يستند الى السيناريو الضخم الذي كتبه والده
ويحترمه. تأسيسه للفيلم كلاسيكي مفقود في حمى السينما الشبابية المألوفة
هذه الأيام، بل ان الفيلم بأسره يشبه كتلة ضخمة تحتل مكانها بقليل من
التلاؤم مع جمهور العصر، لكن “عمارة يعقوبيان” كان لابد من أن يفعل ذلك ومن
دون تنازلات على أمل أن يعيد للسينما المصرية بريق تلك الأفلام الكبيرة
التي درجت عليها في الستينات والسبعينات، وهو يلبّي الرغبة التي يكتنزها
العديد منا في مشاهدة فيلم لا يعترف، أسلوبياً، بالنتوءات التي خرجت بها
السينما المصرية في السنوات العشرين الأخيرة ليعيد هذه السينما الى المكانة
التي تستحق.
زكي
الدسوقي ورث وشقيقته (اسعاد يونس) الثروة والشقة الكبيرة التي يعيشان فيها،
لكن العلاقة بينهما حادّة، خالية من الحب خصوصاً من ناحيتها، فهي تريد
الاستيلاء على الشقّة لتورثها لأبنائها، ويتسنى لها ذلك حينما يفقد زكي
خاتماً كانت طلبت منه احضاره من عند الجواهرجي. كان قد وضع الخاتم في درج
مكتبه قبل وصول امرأة الهوى التي تعرّف اليها في حانة رخيصة (لا تناسب
مقامه لكنه كان دائم التردد اليها) وبعدما التقيا أفاق ليجد أنها سرقته.
بعد يوم تسرق منه شقيقته الشقة وتطرده منها فيأوي الى مكتبه الذي كان
بمثابة مخدع للغرام أيضاً. المشرف على شؤون البيت قبطي مصري اسمه فانوس
(أحمد راتب) وهذا لديه شقيق اسمه عبد الاله (أحمد بدير) ينتقل الى غرفة من
غرف السطوح ليحوّلها الى مشغل تطريز. عينه على الفتاة بثينة (هند صبري) لكي
تساعده في ترويج بضاعته. دور بثينة في الفيلم أكبر من دوري فانوس وشقيقه
معاً، فهي مخطوبة لشاب يأمل في أن يصبح ضابطاً اسمه طه (محمد امام) ومضطرة
للعمل في محلات أصحابها لديهم حيالها نيّة واحدة لا تتغيّر: اللمس وافشاء
الكبت بأي شكل. تنتقل هي من الرفض المطلق الى القبول بالأمر الواقع قبل أن
يجد لها عبد الاله عملاً كسكرتيرة لزكي الدسوقي على أمل أن تساعده في
الاحتيال عليه والفوز بتوقيع يحيل شقة المكتب اليه.
في
البناية ذاتها يسكن أيضاً الحاج عزّام (نور الشريف) كان يلمّع الأحذية في
الحي لكن أموره تحسّنت والقليلون يعرفون كيف. فجأة أصبح ساكناً في العمارة
وقادراً على الزواج مرة ثانية وفتح شقة أخرى وامتلك عشرات المحلاّت. يدخل
البرلمان (ولو أن الفيلم شاء عدم الدخول في عملية الانتخابات، مما جعل
الوضع يتغيّر فجأة).
الشاب
الفاشل في أن يصبح ضابطاً انتهى متطرّفاً.. يلقى القبض عليه ويضرب ثم تنتهك
رجولته فيزيده ذلك تطرّفاً وفي النهاية يعود لينتقم بعملية ارهابية يقتل
فيها الضابط الذي حقق معه. وأخيراً، ومن ساكني البناية أيضاً رئيس تحرير
صحيفة فرنسية (خالد الصاوي) شاذ يغوي عسكرياً (باسم سمرا) من الأرياف
متزوّج ولديه طفل ويبقيان معاً الى أن يعود للأرياف مع زوجته عقب وفاة ابنه
الصغير المفاجئة.
كان لابد
من تغطية كل هذه المحاور الصغيرة والخيوط القصصية الممتدة منها، لأن الفيلم
ينتهج هذا التعداد في الشخصيات والقصص ويمضي في كل خط من هذه الخطوط لفترة
قبل انتقاله الى خط آخر او الجمع بين بعضه (تحوّل بثينة الى العمل لدى
زكي). لكن ما يبدأ مؤسساً على نحو جيّد ومتآلفاً بشكل جميل، يفتقد بعد قليل
التوازن فيما هو معروض. في الصميم، زكي هو روح الفيلم ومأساته الوجودية
والألم الذي يعصره على مصر سابقة وحياة حلوة خالية من الشوائب شهدها وأصبح
أكبر سناً من أن يحافظ عليها كما هي او حتى يفهمها هي الألم الذي يحتاجه
الفيلم كثيراً لايصال باقي رسائله. هذا ما يخلق نبضاً غير متوازن، وحتى بين
القصّتين البارزتين هناك عدم مساواة. قصة عادل امام هي، كما ذكرت، روح
الفيلم أما قصة نور الشريف فقد وردت في أفلام سابقة (صعود وهبوط رجل
الحارة).
الأخطر من
كل هذا هو أنه في الوقت الذي حافظ فيه المخرج على أناقة شكلية جمالية
مطلوبة، تعكس ما يدور واقعياً انما من دون بشاعة، وفي الوقت الذي نفّذ فيه
المخرج المشاهد جيّداً، على صعيد ادارة الممثلين كما على صعيد توجيه
الكاميرا وقام باختيار الشكل الأسلوبي الصحيح لسرد الحكاية في مواقعها
الطبيعية،
فان قبضة المخرج تضعف على النواحي القصصية. بعد ثلاثة أرباع الساعة من عرض
يصل الى ثلاث ساعات، يبدأ الفيلم بصياغة حس بالميلودراما التي تحارب لأجل
انقاذ نفسها من السقوط في بحيرة التكرار والمألوف. وهي بالكاد تنجح في ذلك،
انما أن الفيلم يتسلل الى المشاهد بمثل هذا الحس وحقيقة أن التطويل يعمل ضد
الفيلم وليس لمصلحته فإنهما يجعلان العمل يبدو كما لو أنه كُتب وفي البال
مسلسل تلفزيوني قبل أن يتم تحويله الى فيلم سينمائي.
هناك
مشاهد اذا ما حُذفت لن تؤثر على مجرى الفيلم مطلقاً (لم نكن بحاجة الى
المشاهد التي تقع في الفلاش باك حين يتذكر رئيس التحرير كيف أهمله أبوه
واكتشفته أمه في أحضان الخادم الأسود) واختيارات عمل لو لم تتم لكان الفيلم
أفضل (عوض متابعة بعض الخطوط كان يمكن اختصارها بالنتائج). الفيلم بأسره
اختيار لممارسة أفضل الممكن من دون الخروج عن التقليد، وهذا الاختيار ينجح
في جانب لكنه كان بحاجة الى الجرأة الكافية للابداع حتى ضمن هيكله.
من نواح
أخرى، هذا أفضل دور مثّله عادل امام منذ “الحريف” وربما لأنه ليس دوراً
كوميدياً (يكاد يلجأ الى الكوميديا في بعض المواقف لكنه يلجم نفسه او يلجمه
التوليف لاحقاً). أما نور الشريف فتشعر بأنه الممثل الذي لا يرضى الا
بالبحث عن الجديد في الشخصية حتى ولو كُتبت لتكون نموذجاً منتشراً. الباقون
جميعاً جيدون، وكذلك التصوير والموسيقا (قام بالأول سامح سليم وبالثاني
خالد حمد). انه فيلم عن الفساد في الحكومة وكيف يولد الارهاب.. عن أخلاق
الناس التي تهاوت والحياة التي لا ترحم وخيبة الأمل في مصر.. المجتمع
والفرص وحتى الوطن. كلام جريء، السينما والمجتمع بحاجة اليه.
الأفضل
هذا أفضل
دور مثّله عادل امام منذ “الحريف” وربما لأنه ليس دوراً كوميدياً.
####
الخليج في
مهرجان برلين
السينمائي الدولي
(4) ...(1)
"كابوتي" قمة اختياراته للأدوار
فيليب سايمور هوفمان: أستحق الفوز
بالأوسكار
محمد رضا
فيليب
سايمور هوفمان ليس الممثل الذي يثير اعجاب المراهقين. ليس عندنا وليس في
بلاده. انه بدين نوعاً ما، قصير القامة الى حد، وجهه معجون بملامح لا تنتمي
الى تلك التي تجدها في براد بيت وتوم كروز او جورج كلوني. رغم ذلك، واذا
كانت الوسامة آخر ما تعنيك، فان فيليب سايمور هوفمان، هو رجل الساعة هذه
الأيام. دوما ما كان ممثلاً فطناً وقديراً تتراكم فوقه الخبرات كما لو كان
في الستين من عمره، لكنه أقل من ذلك بكثير (38 سنة). لكنها موهبته هي
البادية في الأدوار التي أدّاها في 37 فيلما مثلها الى اليوم منذ أن ظهر
في دور صغير جداً في فيلم صغير جدا اسمه “تريبل بوجي” سنة 1991.
“كابوتي”
هو أحد الأفلام المرشحة للأوسكار والمعروضة في برلين والممثل هوفمان يلمع
فيه كما لم يفعل في أي دور من قبل. يتحدّث الفيلم عن جزء من حياة الكاتب
الصحافي والمؤلف (الراحل) ترومان كابوتي. المرحلة التي اختارها الكاتب
والمخرج بَنِت ميلر هي تلك التي أخذ كابوتي يجمع خلالها معلوماته الوثيقة
عن حادثة القتل التي ارتكبها رجلان حين دهما منزلاً ريفياً وذبحا جميع من
فيه وخرجا بحصيلة لم تزد على 28 دولارا فقط. البوليس ألقى القبض عليهما
والمحكمة أدانتهما وها هو كابوتي يريد تأليف كتاب عنهما وعن جريمتهما
ووسيلته الى ذلك استجواب أحدهما. لكي يفعل ذلك يوهمه بصداقته ولا يخبره عن
كتابه، ثم يتعرّض لتعذيب ضمير لاحقاً ولو أن ذلك لا يمنعه من المضي في نشر
الكتاب حاملاً عنوان “في دم بارد”.
وهنا حوار
دار مع هوفمان حول الفيلم والشخصية.
·
تبدو كما لو كنت ترومان كابوتي نفسه: الوزن وطريقة الحديث والملابس
والسلوك.. هل هذا صحيح أم لا؟
- الكثير
منه قد يكون صحيحاً. نقصت وزني، لكن كان علي أن أكون حذراً لأن كابوتي لم
يكن نحيفاً. وكان أقصر مني قليلاً، والباقي ربما كان الأسهل. ارتداء
الملابس بالألوان ذاتها والتصاميم ذاتها.
·
ماذا عن طريقة الكلام؟ كيف أتقنتها؟
- راقبت
شريطاً تسجيليا صُوّر عنه. وقابلت عديدين عرفوه ووصفوه لي وأخبروني كيف كان
يتكلم ويتصرّف، وكيف كان يضحك. عملت طويلاً وبجهد على هذه الأمور لكي تأتي
ترجمتي للشخصية أقرب ما يمكن.
·
هناك مسألة شذوذ كابوتي، التي لم يشأ الفيلم، وأنا معه في هذا الاختيار،
معالجتها بأكثر من ملامح في سماء الفيلم وفي بعض نظراته. من يعرف كابوتي او
قرأ له او عنه يعرف ذلك، لكن، من لا يعرف الشخصية مطلقاً لن يلاحظ سوى وحدة
كابوتي الشخصية.
- هذه
ملاحظة صحيحة تماماً، هناك في الفيلم ما يكفي في رأيي من مشاهد توضح حتى
لمن لا يعرف ترومان كابوتي او يعرف عنه شيئاً أنه كان شاذاً. هناك الطريقة
التي يتصرّف بها في المحافل الاجتماعية وهناك مشهدان او ثلاثة في هذا
النطاق. هناك كما ذكرت وحدته التي ليست وحدة أي رجل سوي.
·
الفيلم لا يمجّد الشخصية التي يقدّمها كما
يفعل الكثير من الأفلام “البيوجرافية” التي نراها.
- وليس
هناك من ذم أيضاً. المقصود لم يكن اغماره بالضوء الساطع ليظهر كما لو أننا
نحتفي به لذاته، وليس من ناحية أخرى تحقيق فيلم يناصبه العداء.
·
كيف تتعايش مع الشهرة التي حققتها منذ بضعة أشهر عندما خرج هذا الفيلم
للعروض للمرة الأولى؟
- سأكذب
اذا قلت: انني لست سعيداً بها. لست مهتماً بها او مُثارا بسببها. انها من
المرّات القليلة التي ينال فيها الممثل الشهرة من دون أن يصفع أحداً في
الفيلم او يتعرّض لمطاردة او يشترك في قتال، لكني لا أتغيّر ولا أنوي أن
أعيش على سحابة.
·
إذا فزت بالأوسكار، ماذا يكون شعورك؟
- أمر
رائع -اذا حدث- وربما أستحقه.
·
ما هو الفيلم الذي انتهيت من تصويره؟
- أنا في
“المهمة مستحيلة: 3” مع توم كروز.
·
يا لها من نقلة!
- صحيح.
·
لديك 37 فيلما سينمائيا مثلتها منذ بدايتك
قبل خمس عشرة سنة. أليست هناك أزمة اختيار.
- طبعاً
ليست كل الأفلام من صنف واحد، لكن الممثل عليه أن يوازن. “كابوتي” هو القمة
بالنسبة لصنف الأدوار الخاصة التي تهمّني، لكني سمحت لنفسي ببعض الترفيه
أيضاً.
####
الخليج في
مهرجان برلين
السينمائي الدولي (4) ... (2)
المفكرة ... متفرج داخل الفيلم
محمد رضا
سائق آخر،
ورائي في الصف الطويل من المنتظرين فتح باب الدخول للقاعة الكبيرة. لجانبي
في المقعد. على الطاولة القريبة... المنتجة التي شاركتني التاكسي وقسمنا
الكلفة بيننا.... الحديث نفسه وهو ليس عن المهرجان وأفلامه ومخرجيه بل عن
الاسلام والمسلمين والرسوم الكرتونية والمظاهرات والارهاب وهذا الموقف صحيح
وذاك خطأ الى آخر ما هناك. انه كما لو كانت جبهة قتال مشتعلة في الوقت الذي
نجلس لنشاهد فيه فيلماً عن خمسة مغنين خائبين او عن شاب ناجح وشقيقه الفاشل
او عن اسطورة فانتازية من صنع الصيني تشن كيجي. ما الذي يحدث؟
وسط ذلك،
فتاة شابة ترتدي الحجاب، وتدخل القاعة الخارجية لصالة السينما.. تحمل على
كتفها حقيبة كتف صغيرة.. تمشي كما لو كانت تتنزّه ثم تنضم الى الصف الطويل
المنتظر دخوله. ظاهرياً، لا أحد يعيرها الاهتمام غيري، لكنك تعلم أن الجميع
يفعل، وكل يذهب بفكره بعيداً. متى سيأتي الوقت الذي ينقض فيه جمهور مذعور
على حقيبة الفتاة ليفتحها وليتأكد من خلوّها من متفجّرة؟ او متى ستنهار
معالم الحداثة والمدنية ويكشر لها الواقفون عن أنيابهم ويطردونها من الصف؟
هل الخيال
يجنح بي بعيدا؟ ربما، لكن وجودها يذكّرني بكم هو الضغط الذي لابد أن تعيشه
الجالية المسلمة في العواصم الغربية.
طبعاً
الفيلم التالي يعيدني الى الواقع، انه كما لو أن هذه الحياة التي أعيش هي
الخيال. الكابوس. والفيلم بات عندي هو الحقيقة. كنت دوماً ما أريد أن أقوم
من مكاني في الصالة. أتقدّم الى الشاشة خلال عرض الفيلم. أصعد المنصّة
وأدخل الفيلم في مشهد معروض لأتحوّل مباشرة الى أحد شخصياته. بعد قليل
تلفّني آلة العرض وأتحوّل الى صورة تعرض في ذلك المشهد كلما عُرض الفيلم.
يعاودني هذا الخاطر وأنا أشاهد فيلم الأمريكي “روبرت ألتمان”، ثم حين كنت
أشاهد فيلم الصيني تشن كيجي. مع هذا الأخير أدركت شيئاً: اذا ما كان عليّ
القيام بذلك فعلي أن أختار الفيلم المناسب والجيد والذي استطيع فهم اللغة
المحكية فيه، على الأقل لكي يكون لي دور ناطق.
|