الذين رفضوا الهزيمة هم جيل الستينيات والسبعينيات. الجيل الذي تفتح وعيه
علي مجتمع يلتف حول برنامج حياة: تنمية اقتصادية، تخطيط، تنمية ثقافية،
السعي إلي الاكتفاء الذاتي، إعادة تشكيل الوجدان المصري ليصل إلي ديالتيك
الوحدة في قلب الاختلاف، أي: «الحداثة».
والحداثة تبدأ، في تاريخ الفكر الإنساني، بتحطيم النظرة الثنائية للواقع،
للإنسان، للطبيعة، النظرة الثنائية التي ورثها المفكرون من أرسطو، حيث
الكون يقابل الفساد، والخير يقابله الشر، وكل عنصر في الطبيعة كما في نفس
البشرية، قام علي صراع ضدين كلاهما علي نقيض الآخر. هذا هو فكر العصور
الوسطي.
وفي الدراما، ترجمته هي: «النمطية». أي رسم شخصيات أي عمل مسرحي (ثم
سينمائي بعد ذلك، وتليفزيوني، أخيرا) علي أساس أحادي: هذا هو الشرير (Vilain) وهذا هو الخير، وهذه هي العاطفية، وتلك هي ذات النزعات الحادة التي
تصل إلي قمة الشبق.. إلخ.. إلخ.
وفي تاريخ المعرفة الإنسانية، لا يبدأ الوعي بهذه الصراعات إلا عندما حل
مجتمع «الأفراد المتعاقدة» (وفق أفكار روسو) محل مجتمع الأرض ومن عليها ملك
السيد الإقطاعي، وهي ملكية وراثية، لأنها هبة من المولي سبحانه وتعالي.
الوعي بذاتية الفرد هو بداية عصر النهضة الأدبية من القرن 12 إلي القرن 16،
وفي الدراما، اتخذ ذلك شكل بؤرة هي خشبة المسرح «العلبة» أو ما يسمي «علي
الطريقة الإيطالية»، وقبل ذلك كان المسرح أحد أنشطة الكنائس، عبارة عن
ستائر يتحرك فيها القديسون والملائكة بالعرض، ويوصلون الأشرار إلي الجحيم،
والأخيار إلي جنة عدن، بينما الرابطة بين هؤلاء وهؤلاء هي الطاعة للسيد
الإقطاعي، وإخلاص فرسانه له، ومن هنا عبارات: «له مسلك الفرسان» و«سلوكه
نبيل».. إلخ.
ومع عصر الأفراد المترابطون في وحدة، هي «الدستور» مع احترام الاختلاف، كان
علي كتاب الدراما أن يعيدوا اختبار القيم السالفة علي خشبة المسرح: كل
شخصية تحلل نفسها، فيدرا عن چون راسين أحبت ابن زوجها ثيسيوس وأصبحت عشيقة
ايبوليت في غياب والده. يا للجرم الذي ارتكتبه؟
وهكذا تصبح فيدرا، ابنة الإله زيوس، ولا تجد حلا إلا بالانتحار، وتتأوه
ألما: «ما الذي يمكن أن تقوله، يا ابت، إزاء هذا المشهد البشع؟» وقبلها. في
1601، صاح هاملت ـ شكسبير: «الإنسان، أجمل ما فيه هو عقله»، وفي عام 1660
ترجم الفيلسوف الفرنسي ديكارت صيحة هاملت في كتابه الذي يفتح الطريق أمام
منهج تحليل جزئيات الظاهرة، أي ظاهرة، للوصول إلي تركيبتها النهائية، وأعني
به: «المقال في المنهج».
كل هذا المقدمة ضرورية لتحديد أين نقف، نحن، الآن، وبعقلية أي مرحلة من
مراحل المعرفة الإنسانية نعبر عن واقعنا. إذا كنا لانزال نتصور الكون،
والحياة، والإنسان، إنماطا متباينة، فنحن لم نخرج من العصور الوسطي بعد،
ومازلنا في حيرة بداية عصر النهضة. أما إذا أدركنا أن الخير والشر وجهين
لظاهرة واحدة، فنحن نعبر عن واقعنا من خلال منظور ديالكتيكي.
وفي تاريخ السينما المصرية، كانت بداية الخروج من الثنائية إلي الديالكتيك
هي حركة جماعة السينما الجديدة، التي كان لي شرف صياغة بيانها الأول في
1968. كانت الحركة معاصرة للتحولات السياسية ـ الاجتماعية ـ النفسية التي
طرأت علي مجتمعات العالم في ذلك الوقت: رفض شباب أمريكا النظام القائم علي
الحروب، الصغيرة، كوريا، فيتنام، الجزائر.. إلخ، ثم الدعوة إلي نظام يقوم
علي تفتيح ملكات الفرد، وتضييق الهوة بين الثري والفقير، بين ثقافة العامة
وثقافة الخاصة، وإعادة تكوين نسيج الحياة اليومية علي أسس جدلية.
في مصر، لم يبدأ هذا التحول الجذري في السينما، بل في مجال الإبداع
الروائي، سواء في القصة القصيرة أو الرواية. بدأ بقصة قصيرة لبهاء طاهر
بعنوان «الحفلة»، كما بدأ برواية ذات بناء سيمفوني، هي: «دوائر عدم
الإسكان» لـ «مجيد طوبيا»، وكذلك في «الزحام» لـ «يوسف الشاروني»، وفي كثير
من أعمال إدوار الخراط، لينتهي إلي صُنع الله إبراهيم والجيل التالي.
وفي السينما، كانت نقطة البداية هي: «الظلال في الجانب الآخر» لـ«غالب شعث».
وهي أول إنتاج «جماعة السينما الجديدة»، ثم بعد ذلك «أبناء الصمت» سيناريو
مجيد طوبيا وإخراج محمد راضي. وفي الوقت نفسه «زائر الفجر» لـ «ممدوح
شكري».
وأذكر أن مجيد جاء إلي بيتي ذات ليلة، وعندي كنا نلتقي باستمرار، محمد
راضي، مجيد، عمر خورشيد، مجدي الحسيني، ممدوح شكري، خيري بشارة مع أسرته.
وقال لي مجيد وهو يتقد حماسا، علي غير عادته، فهو من النوع الذي «لا يعجبه
العجب لا والصيام في رجب».
قال مجيد: «لقد وجدنا الممثل الذي يجسد تصوارتنا لما ينبغي أن يكون عليه
الممثل». ويعني مجيد بذلك الخروج من النمطية (شرير علي طول الخط، مصاب
بالانفصام علي طول الخط... إلخ.. إلخ)، ثم تجسيد كيفية الحياة (لا التراكم
الكمي) وكيفية الحياة في السينما، هي أن تكشف لنا عن كيف يحدث هذا الحدث،
وهذه هي الحداثة، أما أن تبني الفيلم علي أساس: وبعدين، وبعدين، فهذا هو
عصر الحواديت، عصر اعتبار وجودنا حكاية مسلية.
وأضاف مجيد:
«له سمرة الفراعنة، وله القدرة علي أن يسرد ما في داخله بالإيماءة،
وبالنظرة». كان ذلك الشاب هو أحمد زكي.
عرفت أنه من أبناء الشرقية، تعلم في الزقازيق، وفي الثانوية الصناعية شاء
حظه أن يكون مدير المدرسة من مهندسي الديكور، وقد شيد مسرحا متكاملا في نفس
المدرسة، وفي هذا المسرح خاض أحمد زكي تجاربه الأولي: كممثل، ثم كمخرج،
وربما كان أول مخرج شاب يحقق مفهوم المسرح الشعبي (مسرح فيلا في فرنسا،
وبريشت في ألمانيا) أقول ـ بلا أدني مبالغة ـ ربما يكون أول من حقق مفهوم
المسرح الشعبي، لأنه عندما أخرج مسرحية «اللحظة الحرجة» لـ «يوسف إدريس»،
انتقل الخبر إلي المدن الصغيرة والقري المجاورة لـ «الزقازيق»، وطلبت منه
فاقوس أن يعرض العمل بمسرح متنقل، ومن فاقوس إلي باقي مدن وقري محيط
الزقازيق.
ولم يكتف أحمد زكي بالممارسة العملية، بل عكف علي قراءة كل ما كتب عن
المسرح، حتي التحق بمعهد الفنون المسرحية. وعندما «خيشت» الفكرة في ذهن
مجيد طوبيا، ازداد حماس محمد راضي لها، وإذا بنا نجد عند عرض «أبناء الصمت»
نبض الإنسان المصري الذي ينحدر من جذور التربة المصرية، جندي بسيط، إلا أنه
يعكس روح جيل بأكمله: يرفض القمع ويرفض الهزيمة.
وبعد محمد راضي، وجد جيل الستينيات، ابتداء من خيري بشارة حتي عاطف الطيب
ومحمد خان ومجدي محمد علي وغيرهم وغيرهم. أقول وجدوا في «أحمد زكي» إنسان
مصر الرافضة للهزيمة.
وإذا كان أحمد زكي يجسد من هم في القاع الذي تحتدم فيه صراعات كل يوم، كما
في «حواء علي الطريق»، السائق الميكانيكي، أو في «عيون لا تنام»، ثم وقع في
يد أبي السينما التجريبية المعاصرة «خيري بشارة»، فانتزع أحمد زكي من وضعه
وهو يئن تحت وطأة الصراعات الاجتماعية ليعطيه الكاميرا كي يري من أي زاوية
يجيء الفساد، وإلي أي زاوية علينا أن نتجه.
ثم ها هو الفنان المبدع محمد فاضل يضع أحمد زكي في مركز برنامج الحياة
المصرية منذ 1954 حي 1956، فإذا بـ «أحمد زكي» يصبح صاحب كل ما اتخذ من
قرارات حتي يونيو 1956، يصبح «جمال عبدالناصر».
ولو وضعنا «أبناء الصمت» بعد ذلك لرأينا أحمد زكي يخرجنا جميعا من الصمت،
يدفعنا إلي أن نصرخ: «كفي!»، ولكي يخرجنا من الصمت استنفد كل طاقته، وهكذا
مصير الشهداء.
عزائي لـ «هيثم».
وعزائي لكل أبناء الصمت.
ماجدة خيرالله تكتب:
البحث عن فضيحة فى حياة أحمد زكى
ماذا يفيد الناس من الحديث عن أم النجم الأسمر وتواضع عائلته؟!
هل إذا توفى واحد من كبار الصحفيين أو حتى صغارهم سيفكر أحد فى البحث عن
حقيقة علاقته بأمه؟ أحيانا يعطى أهل الصحافة لأنفسهم الحق فى الخوض فى
الحياة الخاصة جدا للفنان بحيث يتحول الأمر إلى موقف غير أخلاقى وغير
إنسانى فى الصراع المحموم الذى كان دائرا بين الجرائد والصحف على تغطية
الحالة الصحية للفنان الراحل أحمد زكى، سمح البعض لنفسه بأن يتجه نحو منطقة
أراها شديدة الخصوصية وهى علاقة أحمد زكى بأمه؟ هل كان يحبها؟ هل كان يصرف
عليها؟ هل زارته؟ هل.. هل؟ عشرات الأسئلة الغريبة والسخيفة.. أحمد زكى
الفنان الكبير المتميز لم نجد شيئا فى حياته وإنجازاته نتحدث عنه... إلا
علاقته بأمه. أحمد زكى مثل الملايين من أبناء الريف البسطاء كان من الممكن
أن يعيش ويموت دون أن يدرى به أحد... إلا أن موهبته الفذة، وكفاحه وعمله
الدؤوب ارتفع به من قائمة الحالات العامة إلى أن أصبح واحدا من الحالات
شديدة التفرد والخصوصية ومع ذلك ترك المتاجرين بآلامه وحياته كل التفاصيل
المهمة وتصوروا أنهم يقدمون إنجازا صحفيا عندما ينشرون صورة لأم أحمد زكى!!
وهى امرأة شديدة البساطة أغلب الظن أنها لم تكن تستوعب قبل وفاة ابنها أن
له كل هذه القيمة، ومعها حق فهى لم تغادر قريتها إلا مرات قليلة وإذا فكرت
أن تعيش فى القاهرة سوف تتوه وتدوخ.. وحياتها آمنة ومستقرة فى بلدتها وسط
أبنائها وأحفادها، لا شك أنها كانت تشعر أن أحمد زكى الذى ولدته ليس نفس
الشخص الذى أقام الدنيا ولم يقعدها عندما أعلن الأطباء عن حقيقة مرضه..
لماذا تترك الصحافة كل المحطات المهمة فى حياة الرجل وتبدأ فى إثارة الغبار
حول حياته للبحث عن فضيحة هنا أو هناك... أحمد زكى ترك لنا أكثر من خمسين
فيلما قدم خلالها خمسين دورا وخمسين شخصية تصلح كل منها للتحليل والبحث،
حياته كانت زاخرة بالإنجازات الحقيقية فلماذا لا يغرينا كل هذا بالحديث؟
لماذا نحاول الآن أن نضرب علاقته بأقرب الأصدقاء ونلوث المعانى الجميلة
بحثا عن سبق أو إنجاز؟ لقد بدأت نغمة تسرى بين بعض من يبحثون عن أى أزمة
مفتعلة، ليلقوا بوابل من الاتهامات على رأس عماد الدين أديب متهمين إياه
باستغلال مرض صديقه ليحقق نجاحا تجاريا لفيلم «حليم» شوف إزاى؟ هل كان من
الأفضل أن يقضى أحمد زكى عامه الأخير لا يفعل شيئا سوى انتظار الموت
الوشيك؟ هل خسرت السينما المصرية أم كسبت فيلما سوف يضاف إلى قائمة أعمال
هذا المبدع المتفرد... الكثير من الفنانين ماتوا قبل الانتهاء من تصوير أحد
الأعمال الفنية، ولم يغير ذلك من الأمر شيئا لأن هناك دائما حلولا لكل أزمة
مهما كانت فداحتها ولا أرى شيئا معيبا فى أن يضع فريق العمل لفيلم «حليم»
خطة بديلة تنفذ فى حالة وفاة أحمد زكى! فهذا ما تفعله شركات الإنتاج فى
هوليوود حيث تقوم بالتأمين على بطل الفيلم أو بطلته تحسبا لأى مفاجآت غير
محسوبة وتقليلا للخسائر المتوقعة، عندما توفيت الفنانة أسمهان فى حادث
سيارة قبل أن تصور المشاهد الأخيرة فى فيلم «غرام وانتقام» قام مخرج الفيلم
ومؤلفه بتغيير النهاية بما يتفق مع ما استجد من أحداث وخرج لنا فيلم من أهم
أفلام الأربعينيات. والممثل العالمى جيمس دين عندما مات فى حادث سيارة قبل
أن ينهى تصوير آخر أفلامه تحول حادث وفاته إلى نهاية جديدة للفيلم الذى نال
شهرة واسعة وحول جيمس دين إلى أسطورة لا تنسى... سواء كان القائمون على
إنتاج فيلم «حليم» لديهم يقين كامل بأنه سوف يرحل قبل إتمام الفيلم أو
لديهم مجرد احتمال فأعتقد أن من حقهم عمل خطة بديلة لتكملة الفيلم ليس فقط
لإنقاذ الملايين التى تكلفها إنتاج الفيلم، ولكن لإنقاذ آخر عمل فنى كان
يمثل الحلم الأخير لفنان عظيم... افتقدناه جميعا ولكن عزاءنا أنه لم يغادر
الدنيا قبل أن يقدم لنا قطعة من إبداعه فى فيلم «حليم».
ثلاث مسرحيات
وحضور طاغ
أحمد زكي علي
خشبة المسرح
عمرو دوارة
* لماذا غاب النجم الأسمر مسرحيا منذ منتصف السبعينيات؟
* من الممثلة التي يغار عليها مسرحيا... ومن الممثل الذي حسده أحمد زكي
وتمني منافسته؟
علاقة نجوم السينما بالمسرح علاقة مضطربة وتتسم دائما بالشد
والجذب، وغالبا ما يخشي نجوم السينما الكبار من مواجهة الجمهور، خاصة إذا
ما كانت بداياتهم الفنية بعيدة عن خشبات المسرح جماع الفنون، واعتمدوا في
نجاحاتهم علي تلك القدرات والمهارات التي تتطلبها الأعمال السينمائية
كصناعة يتدخل فيها الفنيون والآلة لتسجيل لحظات الإبداع المتقطعة وغير
المتواصلة.
لقد خشي عدد كبير من نجوم السينما الاقتراب من عالم المسرح وفي مقدمتهم
سيدة الشاشة، فاتن حمامة والسندريللا، سعاد حسني وسميرة أحمد والفتي الأول
رشدي أباظة وعمر الشريف وأحمد رمزي وكانت هناك محاولات لم تحقق النجاح
المنشود لنادية الجندي وأحمد مظهر وصلاح ذوالفقار ونبيلة عبيد ونادية
الجندي وحسن يوسف ولكن الحال يختلف مع النجم والممثل القدير أحمد زكي
فبداياته مسرحية ومن خلال المسرح وبالتحديد من خلال أعماله الثلاث بفرقة
المتحدين والتي بدأ معها أثناء مرحلة دراسته بالمعهد العالي للفنون
المسرحية وذلك بمشاركته في عرض «هاللو شلبي» ثم عرض «مدرسة المشاغبين»
و«العيال كبرت» استطاع أن يؤكد موهبته ويلفت الأنظار إليه وذلك منذ تجسيده
لشخصية الجرسون بالفندق الهاوي للتمثيل وتقليده لآداء الفنان حسن البارودي
والفنان محمود المليجي في نهاية الفصل الأول.
لقد تعامل «أحمد زكي» في هذه المسرحيات الثلاث مع ثلاثة مخرجين كبار
اكتشفوا قدراته الأدائية وهم بالترتيب الزمني سعد أردش وجلال الشرقاوي
وسمير العصفوري واستطاع الفتي الأسمر أن يبرز وسط كوكبة من نجوم الكوميديا
في مقدمتهم عبدالمنعم مدبولي وليلي فهمي وسهير الباروني وحسن مصطفي
وعبدالله فرغلي ونظيم شعراوي وكريمة مختار ومن الأجيال التالية عادل إمام
وسعيد صالح ويونس شلبي، وانطلق أحمد زكي من خشبات المسارح إلي الشاشة
الفضية والشاشة الصغيرة ليجسد العديد والعديد من الشخصيات الدرامية المركبة
والثرية وليحقق نجاحات متفردة لا مثيل لها ولكن يبقي السؤال المستمر ألم
يشعر بالحنين إلي خشبات المسارح وما أسباب ابتعاده عنها خاصة أن كثيرا من
نجوم السينما قد اجتذبتهم أضواء المسارح مرة أخري ومن بينهم عادل إمام ونور
الشريف ومحمود عبدالعزيز وفاروق الفيشاوي وحسين فهمي ومحمود ياسين وشادية
ويحيي الفخراني ودلال عبدالعزيز وصفية العمري وذلك في محاولة للهروب من
المشاركة بأفلام المقاولات التي انتشرت حينئذ، وأيضا لإعادة الحياة إلي
المسرح باجتذاب الجمهور المصري والعربي واستغلال مواسم السياحة العربية.
رفض أحمد زكي جميع إغراءات المنتجين بالمسرح ولذلك شعرت بالغيرة كمسرحي
لعدم إمكانية الاستفادة من إمكانات هذا الممثل العملاق مسرحيا، وعدم
الاقتراب من عالمه الفني الخاص حتي أتيحت لي فرصة اللقاء الأول معه بفندق
هيلتون رمسيس ـ حيث كان يقيم ـ في نهاية الثمانينيات وذلك بتكليف من المخرج
القدير كرم مطاوع والذي رشحه لبطولة عرض «عودة الأرض» عن نص الكاتب الكبير
ألفريد فرج وبطولة المبدعة سهير المرشدي وهو العرض الذي تشارك به وزارة
الثقافة في احتفالات أكتوبر وافتتاح قاعة المؤتمرات وكان ذلك بالتحديد عام
1989، ولم أكن أتصور أن حرارة استقباله لي كمخرج منفذ وحرصه علي معرفة جميع
تفاصيل العرض سوف تنتهي بهذا الاعتذار المهذب عن المشاركة لقد استمرت
الجلسة أكثر من ساعتين أعلن فيها عن إعجابه الشديد بكتاباتي النقدية وبنصوص
وإبداعات ألفريد فرج وبطرافة الموضوع الذي يعالجه وهو عودة الوعي والذاكرة
للمقاتل المصري في 1973 بعد أن فقدها عام 1967 وعن عمق التناول وجودة
الحبكة الدرامية كما أعلن عن تقديره الشديد للفنان كرم مطاوع وحرصه علي
التعامل الفني معه ومع مجموعة المبدعين المشاركين بالعمل وفي مقدمتهم
الشاعر الكبير سيد حجاب والموسيقار جمال سلامة ومجموعة الممثلين ومن بينهم
سهير المرشدي والعم عبدالحفيظ التطاوي والفتي الرصين الممثل شريف صبري كما
أطلق عليهما، ولكنه في النهاية فاجأني باعتذاره الحاسم والذي جاء في صيغة
سؤال محدد:
هل يرضيك أنت يا عم دوارة وأنت مسرحجي أبا عن جد أن أشارك في عرض يقدم
لليلة واحدة؟ معقولة بعد طول الحرمان عن معشوقتي لا أستمتع بالبقاء معها
لأطول فترة؟ معقولة تحرموني من الاستمتاع بفترة البروفات والمعايشة ونقدم
عرضا كبيرا زي ده بعد ثلاث أسابيع فقط؟
يومها شعرت بالأسي لعدم توفيقي في إقناعه ولإحساسي بالورطة بالرغم من
إيماني بعبقرية الأستاذ كرم مطاوع وقدرته علي الإبداع مع الاحتفاظ بسرعة
الإيقاع والتوظيف الدقيق للزمن ولم أستطع الإجابة علي تساؤلاته فقط اكتفيت
بالابتسام والوعد بتكرار اللقاء.
مرت الأيام مسرعة ولم يتكرر مثل هذا اللقاء الحميمي معه إلا في بداية
الألفية الثالثة وبالتحديد عام 2003 عندما شرفت بإخراج رائعة الكاتب القدير
محفوظ عبدالرحمن السلطان يلهو بمسرح الغد وفوجئت بمدير دار كرم أحمد يخبرني
بأن أحمد زكي واقف أمام شباك التذاكر ويسأل عن قيمة أعلي تذكرة ومعه خمسة
ضيوف وأصر أحمد زكي علي تسديد قيمة التذاكر ورفض جميع محاولاتي لاستضافته
قائلا: يا عم عمرو مع غلاوتك مش هاتكون أغلي عندي لامؤاخذة من العم محفوظ
وبرضه مش أغني من عم محفوظ عبدالرحمن اللي تقدرتعمله فقط هو أنك توافقني
علي استرداد اللي دفعته لو ماعجبتنيش المسرحية اللي كل النقاد والصحفيين
اختاروها أفضل عرض في الموسم.
والحقيقة أنه برغم نجاح العرض وإشادة النقاد به وتحقيقه لأعلي الإيرادات
بمسرح الغد إلا أنني جلست بجوار المطرب والصديق أحمد إبراهيم لرصد انطباعات
ومشاعر هذا الفنان القدير وكم كانت فرحتي عندما أصر علي التعبير عن إعجابه
بالعرض علنيا وقيامه بتحية المشاركين فيه والتصوير معهم ودعوته لجمهور
الحاضرين بضرورة اتخاذ المواقف الإيجابية والمشاركة في الدعاية لهذا العرض
الذي يجمع بين المتعة والفكر ويبتسم بالجرأة والمواجهة مع مجموعة العرض بل
أصر أيضا علي اللقاء معهم وقضاء السهرة بينهم، وفي ضيافة الصديق شريف
عبداللطيف مدير المسرح حينئذ وبمكتبه دار الحوار الذي استمر لأكثر من
ساعتين مع نجوم العرض أحمد راتب وسميرة عبدالعزيز وخليل مرسي وسامي مغاوري
وزين نصار وانتصار وبدأ حديثه بتلك الدعابة معي حول كيفية تجميع وقيادة هذه
الدستة من الأشرار المبدعين، وكم كانت ملاحظته دقيقة حيث يضم فريق العرض
أيضا كل من عادل أنور ومحمد دسوقي ويوسف رجائي ومحمود عبدالغفار وسمير ربيع
وصديقه الكوميديان عهدي صادق.
وحول أسباب ابتعاده عن المسرح أجاب بأنه يفضل أن يوجه جهده للسينما فهي
الذاكرة الباقية ويشاهدها أكبر عدد ممكن خاصة مع استمرار ذلك العداء الخفي
والمستمر بين الثقافة والإعلام وعدم إذاعة المسرحيات الجادة وكذلك عدم
تسجيل المسرحيات الجديدة.
وإذا كان الجميع قد أعجبوا وأثنوا علي بساطة هذا الفنان الكبير وتلقائيته
وقدرته علي إثارة جو من المرح والسعادة بقفشاته وانتقاداته اللاذعة وقدراته
ومهاراته في التقليد، والتشخيص والتقمص فإنني قد اندهشت من ذاكرته الحديدية
وتذكره للقاء الأول بيننا بعد مضي خمسة عشر عاما حينما عاتبني ضاحكا لماذا
لم تعرض علي المشاركة بأداء دور «أبوالعيون» بدلا من ترشيحي لعرض يقدم ليلة
واحدة.
والحقيقة أن اختياره لدور أبوالعيون بعيدا عن دور الملك أو الوزير يوضح
بجلاء مدي حساسيته ودقته في اختيار الأدوار التي ينجح في تجسيدها وحتي لا
يترك أي مجال للتفسير أوضح بأن ذلك لا يقل من تألق زين نصار في أداء هذا
الدور بل أضاف بأنه قد شعر بالغيرة لوجود مثل هذا الممثل الذي يمتلك جميع
مفرداته ونجح في أداء هذه الشخصية المركبة الصعبة بصورة رائعة.
وتضمنت تلك الجلسة الحميمية الرائعة التعبير عن مشاعره الفياضة ورغبته في
تقديم عرض غنائي استعراضي بإمكانات حقيقية تقارب إمكانات المسارح في برود
واي والعالم الغربي، كما أعلن عن إعجابه بأداء جميع الممثلين وبهذا التناغم
الفني الذي تفتقد كثير من العروض الحالية وفي النهاية أشاد بأداء وحساسية
الفنانة سميرة عبدالعزيز والتي يعتبرها أمه الحقيقية برغم تقارب السن
بينهما وذلك لحساسيتها ورقتها وتميزها بأداء دور الأم لجميع الشخصيات
الشهيرة وإن كان له السبق حيث جسدت دور والدة طه حسين بالمسلسل الذي قام
ببطولته.
رحم الله الفقيد الغالي جزاء ما أمتنعا وأسعدنا وأخلص في عمله وأدخله فسيح
جناته.
مصطفي محرم
يكتب في وداع بطل خمسة من أجمل أفلامه:
شائعات وهتافات
وسخافات في جنازة أحمد زكي
* التفسيرات السياسية التي راجت عن الجنازة وصاحبها.. والتساؤلات
السينمائية التي تدور عن الفيلم الأخير وبطله
* الشيخ الذي قام بتغسيل جثمان أحمد زكي طلب من السفير السعودي «ماء زمزم»
فأحضر لهم مشكورا 50 جركن من الماء المبارك
* وزير الصحة شدد علينا أثناء الجنازة أن نتوقف عن التدخين وشرح لنا مضاره
وكوارثه الصحية.. فقلت له إن والدي كان يدخن ثلاث علب سجائر يوميا ومات في
الـ87 من عمره! كنت مثل غيري من الملايين أتابع أخبار أحمد زكي من خلال
الصحف المصرية والعربية، انشغلت الصحافة بتفاصيل مرض الممثل الأسمر ونهايته
المحتومة في دأب شديد، تحاول كل جريدة أن تتسلل داخل أسوار المستشفي
البعيدة التي يرقد فيها أحمد زكي تتسلل إلي داخل كل من يكون قريبا منه في
أيامه الأخيرة تريد أن تعرف المزيد من التفاصيل لتدعي السبق. أستطيع أن
أزعم بأن هذا الاهتمام البالغ لم يحظ بمثله أي نجم من قبل في ميدان التمثيل
أو مطرب في حقل الغناء أو أي فنان أو كاتب مهما علا شأنه.لا أستثني في ذلك
عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب وأم كلثوم أساطير الغناء
وأستطيع أن أزعم بأن عبدالحليم حافظ قد زاد شهرة علي شهرة أثناء مرض أحمد
زكي وارتباط هذا المرض بأدائه دور عبدالحليم حافظ في فيلم «حليم» هذا
الفيلم الذي لم يكتمل تصويره ويعلم الجميع بأنه لم يكن سيكتمل ويعلم ذلك
الأمر أحمد زكي نفسه. ولذلك فإن السؤال الذي يثير الحيرة في نفوس الكثيرين
من العقلاء هو لماذا قررت الشركة المنتجة التي علي رأسها الإعلامي عماد
الدين أديب، أن تبدأ بتصوير الفيلم وهي علي يقين من الناحية الطبية أن أحمد
زكي إنسان محتوم صرح الأطباء في الخارج والداخل بأنه سوف يموت في غضون ستة
أشهر ونحن نؤمن كل الإيمان بأن الأعمار بيد الله، ونؤمن بأن عمر الإنسان لا
يزيد لحظة أو ينقص مقدار ثانية إلا بإذن الله الذي لا رد لقضائه. ولست أزعم
أن الشركة التي تقوم بإنتاج فيلم «حليم» رجالها أقل منا إيمانا ولكن كان
هناك إصرار غريب علي البدء بتصوير الفيلم رغم أنه أمام هذه الشركة بديل
آخر، بديل يتمسك به كل صاحب مال عاقل هناك سيناريو كامل عن مطرب مازال يعيش
في وجدان الناس حتي الآن ويحظي بشهرة طاغية، وهناك ممثل مهما بلغت عبقريته
في التمثيل ما بلغت ولكنه ليس أمامه سوي أيام قليلة لا تكفي لإكمال الفيلم
الذي يتكلف ملايين قد تتجاوز العشرة ملايين، إن البديل لهذا الموقف هو
التريث الحكيم إذا مات أحمد زكي فهناك من يستطيع غيره وربما أقل كفاءة
وربما أكثر فلا أحد يستطيع أن يجزم بهذا الأمر. بتمثيل دور المطرب
عبدالحليم حافظ يساعده في ذلك فن الماكياج الذي تطور تطورا كبيرا في
السنوات الأخيرة كما تطور فن السينما في العالم إلا في مصر وقد يجنبهم هذا
البديل الخسارة الفادحة وكذلك سوف يستفيدون من سيناريو نال من الشهرة ما
ناله رغم أنني لا أعرف في الواقع قيمته الفنية لا أحد يجد إجابة شافية لهذا
التساؤل.
كثرت الأقاويل هناك من يقول إن الموضوع له بعد سياسي هو محاولة لإلهاء
الناس في هذه الفترة الحاسمة في تاريخ الوطن فترة تحتدم فيها النفوس وتحتقن
في نفوسهم الرغبة في تغيير المسار السياسي. وكعادة الأنظمة في مصر علي
اتباع هذا الأسلوب اتجاه تشتيت الانتباه هذا. جري أسلوب الحكم في مصر منذ
عهد عبدالناصر علي إقصاء المواطن المصري بعيدا عن بؤرة الأحداث السياسية
التي قد تثير تساؤلاته واعتراضه، استطاع النظام أيام عبدالناصر أن يقسم
الشعب المصري إلي حزبين وهي حزب النادي الأهلي وحزب نادي الزمالك ويكافئ
الشعب كل أول الشهر بحفل غنائي لكوكب الشرق المطربة العظيمة أم كلثوم ويرفع
ترمومتر التأييد الشعبي لكل إنجازاته بأغاني عبدالحليم حافظ عن الحرية
والأمل والانتصار أغنيات فقدت مصداقيتها الآن لأن عبدالناصر فشل في تحقيق
كل هذه الأماني ونجح في إلحاق هزيمة ساحقة لمصر في حرب 67 ثم توالت أحداث
مختلفة في أيام السادات وإذا ما اشتدت الأزمات شغلوا الناس بأحداث جانبية
وإلقاء الضوء عليها من جانب أجهزة الإعلام خاصة كتاب الصحف القومية
الجاهزين لمثل هذه الأمور ومازالوا جاهزين حتي الآن.
وورث النظام الحالي هذه السياسة، ولذلك انتهز النظام فرصة مرض هذا الفنان
الكبير الذي يلقي حبا من الشعب في مصر ومن بعض الناس في العالم العربي
لتفريغ غضب الشعب المصري وسخطه علي الأحول الاقتصادية والسياسية في البكاء
علي هذا الفنان بحيث يمتص هذا الشعور الحزين شحنة الغضب هذه. أو هي تهدئة
للنفوس الظامئة للحرية والديمقراطية ووصلت المبالغة ببعض الكارهين للنظام
للادعاء بأن أحمد زكي مات قبل إعلان وفاته، وأفتوا بأن التأجيل هذا لكسب
أكبر قدر من الوقت وللشائعات عن رغبة السلطة في استغلال الجنازة من باب كسب
إرضاء الجماهير وكنوع من الدعاية الانتخابية وهناك من يقول إن العملية كلها
من أولها لآخرها عملية تجارية سوف تربح الشركةمن ورائها الكثير تقوم بعملية
مونتاج بارعة حتي ولو استلزم الأمر تصوير أجزاء جديدة لم تكن حتي موجودة في
السيناريو البائس بدون أحمد زكي، يصبح الفيلم في النهاية أقرب إلي السيرة
الذاتية عن هذا الفنان الذي نال مرضه وموته من الدعاية التي كانت قد تكلف
الشركة عشرات الملايين لو كانت مشيئة الله أمدت في عمر هذا الفنان، وهناك
من يقول إن الصداقة التي كانت بين أحمد زكي وعماد أديب هي صداقة من نوع
نادر سوف تظل مثالا رائعا وقدوة تحتذي علي مدار الزمن فقد أراد عماد أديب
الصديق الوفي الذي سبق أن كتب لأحمد زكي قصة فيلمه «امرأة واحدة لا تكفي»
أن يحقق أمنية غالية لصديقه الفنان العاشق لفنه وهو أن يموت أثناء قيامه
بدور كان يتمني أن يمثله، تماما مثل الممثل عاشق المسرح الذي يتمني أن يموت
وهو يعمل علي خشبة المسرح.
كل هذه الأقوال قيلت منذ أن شعر أحمد زكي بالمرض ودنو الأجل ومنذ أن بدأ
تصويرفيلمه الأخير «حليم» وربما يقال غيرها فالناس مشغولة أشد الانشغال
بأحمد زكي الذي لن يلبث أن يتحول إلي أسطورة من الأساطير الفنية مثل أسطورة
جيمس دين أو رودلف فالنتينو، وسوف يتباري النشطاء في التفسير والتعبير
ويحاول كل واحد منهم بما أوتي من مهارة وحنكة في الكتابة أو الكلام أن يقنع
القارئ أو المستمع أو المشاهد في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية
والمسموعة بأنه كان الأقرب لأحمد زكي والأقرب أيضا إلي أصحاب صنع القرار،
وهذا ما حدث ومازال يحدث مع عبدالحليم حافظ وسعاد حسني.
دارت كل هذه الأفكار في رأسي بعد أن تلقيت خبر وفاة أحمد زكي كم حزنت كثيرا
رغم أنني كنت أتوقع حدوث الوفاة منذ إصابته بهذا المرض اللعين وعلمت أن
الحالة متأخرة وكيف لا أحزن وهو إنسان عاشرته كثيرا وكتبت له خمسة أفلام
سينمائية وهي «الباطنية ـ الراقصة والطبال ـ الحب فوق هضبة الهرم ـ درب
الهوي ـ الهروب».
قبل أن أغادر منزلي للمشاركة في الجنازة جاءتني مكالمة تليفونية من صديق لي
وهو شاب متدين حتي إننا نناديه دائما بالشيخ رضا مراد قام الشيخ رضا
بتعزيتي وأخبرني بأنه انتهي من تغسيل جثمان أحمد زكي كما طلب منه الأخ وطني
وهو الذي كان يتولي مسئولية أحمد زكي أثناء التصوير والعناية بمظهره بأن
يتولي عملية تغسيل جثمان الفنان الكبير.
طلب الشيخ رضا إحضار ماء زمزم وأوصاهم بأن يتصلوا بالسفير السعودي أحضر لهم
السفير السعودي مشكورا من السعودية حوالي خمسين «جركن» من ماء زمزم وقام
الشيخ رضا بتغسيل جثمان الفقيد غسلا جيدا، في حضور ابنه هيثم ووطني وضمخ
هذا الجثمان بالمسك أخبرني أن وجهه كان هادئا مبتسما وطلب الشيخ رضا من
هيثم أن يقبل وجه أبيه فهذه هي المرة الأخيرة التي يري فيها هذا الوجه ومال
الشاب المفجوع علي وجه أبيه وقبله ثم بكي ولكن الشيخ ألقي بالطمأنينة
والهدوء إلي نفسه من خلال بعض آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية
الشريفة.
كنت في طريقي إلي مسجد مصطفي محمود القريب من مكان بيتي فأنا أسكن في منطقة
نادي الصيد بالمناسبة سمي هذا المسجد باسم الطبيب الأديب والمفكر مصطفي
محمود رغم أن الذي أقام هذا المسجد هو اخوه والذي حظي بالشهرة الخالدة
الكاتب والأديب الذي قد تندثر مؤلفاته في يوم من الأيام وينصرف الناس عن
ذكرها ولكن لن يكفوا عن تذكر اسمه باسم مصطفي محمود، كلما قصدوا الجامع
للصلاة، كان الطريق في غاية الصعوبة وكان المفروض أن أصل بسيارتي بعد عشر
دقائق ولكن استغرقت ما يقرب من النصف ساعة وجدت قوات الأمن تحاصر المنطقة
حصارا من الصعب اختراقه عندما تنتشر قوات الأمن في أي منطقة تسود فوضي
المرور وتزدحم الشوارع بالسيارات أدركت في البداية أن السبب هو الوزراء
الذين سوف يشتركون في الجنازة، ولكن ما لبثت أن أدركت السبب الحقيقي وهو
الخوف من الانفلات الجماهيري وأن تتحول الجنازة إلي مظاهرة سياسية مثلما
كان يحدث مع الاحتلال الإنجليزي في أيام ثورة 1919، والخوف من أن يهتف
المتظاهرون كالعادة هذه الأيام هتافات معادية للنظام. كان السبب في هذا
التبريرهو المظاهرة التي أقامتها جماعة الإخوان المسلمين في اليوم السابق
علي الجنازة وكاد أن يحدث تصادم لا يحمد عقباه بين قوات الأمن وأعضاء
الجماعة. وقبضت مباحث أمن الدولة علي العشرات من قيادات الإخوان المسلمين
ومن بينهم أمين عام اتحاد الأطباء العرب.
انتهز هذا الطبيب المرموق استراحة المؤتمر السنوي وانضم إلي المظاهرة قبضوا
عليه واحتجزوه لمدة 6 ساعات آثار غيابه تساؤل الأطباء المؤتمرين من شتي
الدول العربية ولكن هذا لا يهم.
عندما اقتربت من الحواجز الكثيرة التي وضعتها قوات الأمن داهمني اليأس
بأنني لن أحضر الجنازة ومن الأفضل لي أن أعود إلي بيتي كان رجال الأمن
الذين يقفون في تحفز خلف هذه الحواجز ينظرون إلي في شراسة واستنكار وأنا
أتقدم ناحيتهم لم ينقذني سوي مجموعة كبيرة من محرري الصحف ومصوري القنوات
الفضائية العربية والتليفزيون المصري أحاطوا بي كما اعتادوا أن يحيطوا
بكبار رجال الدولة من رئيس الوزراء ورئيس مجلس الشعب ومجلس الشوري والوزراء
بعد أي اجتماع أمطروني بعديد من الأسئلة المتلاحقة عذرت وقتها كبار
المسئولين الذين يتعرضون دائما لمثل هذا الهجوم الذي لا يرحم من رجال
الإعلام، لا أعرف ماذا قلت لهم ولا أتذكر الأسئلة التي دارت حول الفقيد
الراحل، بالطبع أحس رجال الأمن بأهميتي حتي إنهم بعد انتهاء الحديث سارعوا
من تلقاء أنفسهم وأزاحوا الحواجز لكي أمر مرور المنتصرين.
أخذت أدور بنظراتي أبحث عمن أعرفهم إلي أن وقع بصري، علي ممدوح الليثي وهو
يقف مع الدكتور فوزي فهمي وشريف الشوباشي وكيل وزارة الثقافة للعلاقات
الخارجية ورئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، لم يكن هناك من المشيعين
الذين أعرفهم سواهم بعد العناق وتبادل العزاء انضممت إليهم ننتظر خروج
النعش من المسجد توافد عدد من الفنانين الأصدقاء كان الوجوم يسود بيننا لم
نكن نتبادل سوي كلمات قليلة أكثرها بلا معني. فجأة وكأن الأرض انشقت وجدنا
أمامنا وزير الثقافة ومعه وزير الصحة، تبادلنا المصافحة والعزاء وقف وزير
الصحة يتحدث معي وشريف الشوباشي عن تطور حالة الفنان الراحل أخبرني أنه
طبيب أمراض صدرية أخذ يحذرنا من التدخين وخطورته وأن السبب في إصابة أحمد
زكي هو التدخين سارعت وأخبرته بأنني توقفت عن التدخين منذ حوالي خمسة عشر
عاما. أخبره شريف الشوباشي أيضا بأنه لا يدخن وكأننا بقولنا هذا نبعد عن
أنفسنا شبح هذا المرض اللعين ووجدت نفسي أخبر وزير الصحة بأن أبي مات في سن
السابعة والثمانين وكان يدخن ثلاث علب سجائر في اليوم منذ أن كان في
السادسة عشرة من عمره أخبرني بأن لكل قاعدة استثناء حذرنا الرجل أيضا من
التواجد وسط المدخنين نسبة احتمال الإصابة هي ثلث احتمال الشخص المدخن،
خشيت أن يكون وزير الصحة بعد كل هذه التحذيرات مدخنا، تعودت كلما ذهبت إلي
أطباء الصدر مثلا أشكو لهم علة في صدري أن يحذروني قبل كتابةالدواء من
التدخين اكتشفت بعد ذلك أن الطبيب الذي يحدثني وينصحني يمسك بين أصابعه
بسيجارة يدخنها وأن أمامه علبة سجائر علي وشك الانتهاء، أجد المنفضة التي
علي مكتبه مليئة بأعقاب السجائر.
جاء بعد ذلك أمين الحزب الوطني ورئيس مجلس الشوري الأستاذ صفوت الشريف حرص
الرجل علي مصافحة كل الفنانين الموجودين لم يلاحظ وجود وزير الثقافة إلي
جواره.
ربت فاروق حسني وزير الثقافة عليه ليلفت نظره إلي وجوده مبتسما وعلي الفور
صافحه صفوت الشريف علي الفور يتباري وزير الثقافة ورئيس مجلس الشوري في
أناقة الثياب لم أر من بين المسئولين من هو في مستوي أناقتهما وحسن الذوق.
بدأت أعداد المشيعين تتكاثر خلفنا فجأة تحرك الحرس الخاص بالوزراء بحيث
عزلونا عنهم وأصبحنا خلفهم فأدركنا أن الجنازة علي وشك أن تبدأ وبالفعل
شاهدنا النعش وهو يخرج من المسجد بعد الصلاة عليه ملفوفا بعلم مصر بعد أخذ
موافقة رئيس الجمهورية، أصبح أحمد زكي أول فنان يحاط نعشه بعلم مصر بناء
علي طلبه قبل أن يموت.
بدأ الوزراء في التحرك ونحن خلفهم نشعر بدفع الجماهير صاح بي فاروق
الفيشاوي بأن أتأبط ذراع من علي يميني ومن علي يساري من الأصدقاء لم أستطع
أن أفعل هذا من قوة التدافع خلفي، حاولنا أن نسير بضع خطوات في خشوع ولكن
ما لبثنا أن أفقنا علي أصوات الدعاء والتكبير تهدر حولنا التفت برأسي لأعرف
مصدرها بعد أن أخذت تتباعد اكتشفت أن المشيعين وحملة النعش قد ساروا في
طريق معاكس لطريقنا نحن والوزراء أصبحنا وكأننا نسير في مظاهرة صامتة مثل
التي يستجديها زعماء أحزاب المعارضة في مصر ويرفض وزير الداخلية أن يمنحهم
هذا الحق الوطني، لذلك جاءت الصورة التي التقطت للوزراء ومندوب رئيس
الجمهورية ونشرتها الصحف القومية له صورة خالية من النعش. عمت الفوضي لتدخل
الأمن.
أسرع بعض لواءات البوليس الموجودين بإصدار أوامرهم بالإسراع بوضع النعش في
السيارة والانطلاق بها. وقف الناس القاصي والداني في ذهول قد جاءوا لتشييع
الجنازة ووداع نجمهم المحبوب فلم يحققوا هذه الرغبة، أجهض الخوف الذي يسيطر
علي النظام السياسي في مصر هذه الجنازة.
قصيدة
أحمد كسب الرهان
بعد وفاة الفنان الكبير أحمد زكي اختفت الفنانة رغدة ولم
تظهر في مقدمة مودعي صديقها المقرب ، لم تتكلم رغدة عن ذكريات ولم تقف أمام
عدسات ودعته في صمت وكتبت له قصيدة ننشرها في إيلاف نقلا عن جريدة "صوت
الامة" لأنها في رأينا أفضل ما ظهر حتى الآن في وداع فنان مصر الكبير.
كلمات قصيدة:
أحمد كسب الرهان
أخر قطرة ماء عندي
أخر منديل أبيض
ماء زمزم فيه،وبعض من وجهك الأسمر
أخر قبعة قطنية
تلوذ فيها أخر حبة عرق من رأسك
وبقايا رائحتك
............
الأحد من مارس
والوقت صباح
الكل نيام إلا أنا
خارج أسوار المبنى
الجو فراغ
إلا من بعض البسطاء
وبعض من شجر أخضر
وشمس مطلعها حنان
تلمس وجهك
توضئة ،لنقرأ بعض الآيات
............
رشفة ماء لا أكثر
تتلوها آه
ظلمة عينيك تسجيني
يدك الممدودة تناديني
أمسكها
اطرد خوفك ومن حولك
بعض ذباب
............
حكايات النوم تنشدها
كطفل مصري أسمر
آه
ما أقسى النوم
............
خذيني من هنا
فالوقت أزف
والجرح نزف
والموت ..مباح
وددت لو أنشر وجهي
شراعا لك
وقلب الحياه أشقه
للرحيل بك
لو أمرق بك عاصفة
في كثبان رملية
منسية
..........
الوقت يضيع
صوتك الواهن
جسدك الناحل
وجهك المدون في آخر صفحة الذاكرة
عيناك رغم ظلمتها
تملك الرحيل
ترفض الوادع
...........
قبل آذان الظهيرة
قطرات المنديل الأبيض
فوق زجاج الوجه
اسحب عنك القبعة القطنية
بضعة أمتار
رحلتنا لظلال خميلة
كتفي الأيسر في يده يهتز
إنى أرحل
لا .. لن ترحل
..........
رشفة ماء أخرى
ورهان
ودموع في حدقات البسطاء
تكبير وتسبيح الخالق
أمل .. ودعاء
.....
إنى أرحل
لا .. لن ترحل
ورهان منه
ومنى رهان
أوقن أن المسافة بيننا
تحفر له عمقا
خندقا
عتمة أخرى
يسقط مني أحمد
يسقط أخر النبلاء
أحمد راهن يا سادة
يا سداة
أحمد كسب الرهان
• عن جريدة صوت الأمة
|