* تدب مظاهر الفرح في بيت الأسطي زينهم. وتجمع أمه جاراتها في الحارة لعمل
الكحك ويهيص الأولاد والبنات عند حضور العفش. ويأخذ زينهم ما ادخرته أمه
لدفنتها ليكمل مصاريف الفرح. ويأتي المعازيم للسرادق المنصوب في طول الحارة
وعرضها للتحية والتنقيط. ثم تتم الزفة ويذهب الجميع إلي حاله إلا صاحب
الفرح زينهم الذي فقد أمه في منتصف الليلة. وفقد زوجته. وفقد حقيبة
النقوط.. أي فقد الماضي والحاضر والمستقبل من خلال تأمل ما حدث له من
تفاصيل. "الفرح" هو أحدث أفلام ثنائي هما المؤلف أحمد عبدالله والمخرج سامح
عبدالعزيز. وقد تألقا معا من قبل في فيلم "كباريه" الذي اعتبره الكثيرون
بداية جديدة لكليهما. ففيه قدما دراما أقرب لمفهوم السركازم لمشاهد من
الحياة المصرية الآن. لكنهما هنا يمضيان إلي ما هو أبعد في إطار رؤية
تتجاوز متناقضات الحياة التي يعيشها كثير من المصريين إلي مفاهيم جديدة
صُنعت من خلال خبرة الناس بالحياة وقدرتهم علي التكيف معها ومنها مفهوم
الاستعارة أو المراوغة من أجل تغطية النفس وستر عوراتها اتقاءً لفضيحة
وانتظارا لفرج لا يعرف أحد متي يأتي.. انها حياة مؤجلة ورهان مميت علي
الوقت والظروف يعيشيه الملايين الآن في ظل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية
التي أضفت ظلالها علي كل شيء. ومن هنا نكتشف من خلال المشاهد الأولي للفيلم
أن "الفرح" كله ما هو إلا "عملية خداع" من أجل جمع النقوط من الآخرين حتي
يشتري زينهم بها الميكروباص الذي يحلم به ليعيل أسرته. والنقوط سلف ودين.
ولهذا يخطط لليوم ولا تخفي نواياه علي البعض خاصة صديقه هلهول الذي يتفق له
هو والمعلم حبشي علي كل التفاصيل. بما فيها تأجير عريس وعروس للزفة. العروس
مفروض انها أخته التي تعيش بعيدا عنه. وهنا يصبح ذهاب "العفش" بعد حضور
عربية في الحارة مبررا. وكذلك ذهاب العروس نفسها بلا عودة..
اننا إزاء دراما عصرية تشبه البكائيات اليونانية القديمة في طرح أحزان
البشر التي لا تستند أحيانا إلا علي الخوف والقهر من أفكار الآخر. ويصل هذا
إلي ذروته في قصة "جميلة" و"عبدالله" اللذيين قاما بدور العروسين المؤجرين.
فهما عروسان حقيقيان مع إيقاف التنفيذ من سبع سنوات حين تم كتب الكتاب. ولم
تتم الدخلة بسبب عجزه عن ايجاد شقة أو حتي حجرة تؤويهما. ورفض أخيها
إيواءهما في غرفة بشقته المتواضعة. يضاف إلي هذا عذاب لسعات ألسنة أهل
الحارة والجارات مما يتسبب في خناقة ودماء تنتهي بإصرار شقيق جميلة علي
اتمام الزواج. بالطريقة البلدي. في اليوم التالي. وهو ما يضعها في مأزق
العار حين تفشل في "امتحان العذرية" التي فقدت من خلال مشاعرها هي وزوجها
الذي لا يعترف به أحد إلا ومعه الشقة.. وفي لحظة فشل ويأس يصرخ عبدالله في
الشارع وهو يحتضنها لتهدئتها: دي مراتي يا عالم.. مراتي.. معبرا عن مأساة
الملايين من أمثالها من شباب وبنات هذا البلد..
الفيلم .. والملحق
* ومن خلال "الفرح" أيضا. يطرح علينا الفيلم صوراً أخري للبشر الذين
نلقاهم. أو ندركهم في زحام اليوم. مثل "الصييت" الذي أحيا الفرح بميكرفونه
وملأه بالحيوية ليكشف عن جرح بداخله تسبب فيه أبوه ذات يوم مخلفا في وجهه
ندبة قبيحة. والمنولوجست الذي مازال يتشبث بمهنة لم تعد مطلوبة. وحين يقف
أمام المعازيم بعد طول انتظار يفقدهم حالة الاندماج والمزاج بكلمات ومعان
قديمة فيسخرون منه. وبائعة البيرة التي تخفي ملامحها وراء زي العربان حتي
تمارس مهنة أبيها الراحل وتعول الأسرة. ومع ذلك لا تسلم من عيون قناص.
أعتقد أنه سيلتهمها فتدافع عن نفسها وتقتله. وهي تبكي فيه حلما انتهي قبل
أن يبدأ. ثم المصور. حامل كاميرا الفرح المركزة علي الصييت والنقوط ولمامها
وحامل الحقيبة. وغيرهم. وفي المنزل. يكتمل الفرح بمأساة أم زينهم التي
أغضبها بلجوئه للمنكرات مثل البيرة والرقص فتحاول تطفيش الراقصة وتفلح ثم
تأتي غيرها لتكتشف الأم مأساة لا تعرفها. وترحل مخلفة اللوعة لديها. والغضب
لدي زينهم وادراكه أنه أغضبها قبل موتها. ومأزق إنهاء الفرح قبل انتهاء
النقوط.. ينتصر مبدأ "الحي أبقي من الميت". ويتحول الفرح إلي مأتم. بنفس
ملامح المكان عدا عقود الأنوار. وليجلس زينهم حزينا بعد أن تركته امرأته
غاضبة من كتم خبر موت أمه ومنعها من اعلان الحزن.. لعل أكثر مشاهد الفيلم
تأثيرا. بدون كلمات. هو مشهده وحده وحيدا حزينا خاسرا. أي خالد الصاوي في
دور "زينهم" في نهاية تذكرنا بأفلام عديدة من أحلام السينما المصرية
والعالمية. لكن للأسف. فإن هذه النهاية لم تقنع صناع الفيلم أنفسهم كما
يبدو. فقدموا لنا "ملحق" مع تيترات النهاية وما بعدها. عالجوا فيه سلوكيات
الأبطال. فزينهم "في الملحق" كان يجب أن يوقف الفرح ويعلن وفاة أمه.
والصييت "ماجد كدواني" كان يجب أن يصالح أباه وهكذا. ونحن لسنا أطفالا
كمشاهدين. ولا نحتاج لكتاب شرشر لشرح الموضوع. فالدراما تكفي. والتصوير
والاضاءة الرائعان "محمد زكي ود. ماهر راضي" يكفيان. وادارة الممثلين
المونتاج والماكياج والديكور وكل عناصر الصورة تكفي للفهم. أما الممثلون
فهم في حالة من الانسجام والابداع مهما تفاوتت مساحات أدوارهم بداية من
الممثلة الكبيرة كريمة مختار التي تكشف عن تنويعات مذهلة في أدائها
وبساطتها. والقديرة سوسن بدر في دور الراقصة المضروبة والمغصوبة ودنيا سمير
غانم بائعة البيرة المسترجلة التي تؤكد تقدمها بثبات وجومانا مراد في دور
جميلة التي اقتربت فيه أكثر من روح الشخصية وأزمتها وروجينا -زوجة زينهم-
الذي أدته بحرفية وإن اخطأت توقيت هجر الزوج.. وهذا خطأ الكاتب.. علي
الجانب الآخر. يؤكد "الفرح" علي أهمية موهبة وجدارة كل من خالد الصاوي
وماجد كدواني فهما ممثلان مستحقان للأفضل بكل جدارة. ويحتفي بقدرات "صلاح
عبدالله" في دور صلاح ورده المنولوجست برهافته. أي الفنان. وإن كانت
الشخصية تستحق اهتماما اكبر من الكاتب والمخرج. أما ياسر جلال "عبدالله"
فهو فنان يكشف دائما عن قدرات اكثر مما نتوقع ومشهده في الشارع يهزنا بعنف
بصدقه وهو يهتف للمجتمع "مراتي يا عالم". باسم سمرة في دور "حسن" السباق
الأنيق مع بائعة البيرة يؤكد موهبته العالية. محمود الجندي "حبشي" وجود
مميز وكذلك سليمان عيد "هلهول" وإن فقد تلقائيته المحببة.. اننا أخيرا أمام
فيلم يطرح أمامنا رؤية تتشابه مع الفيلم السابق في رصدها لحالة الانفصال
بين المادي والروحي. تجمع بين الأسود والأبيض في اطار من الصدق الفني..
ولولا "الملحق" لأصبح الفيلم أفضل بالطبع ولترك للمشاهد حرية للتفكير
واستخلاص العبر بنفسه.. وهذا هو الغريب مع مخرج يتقدم علي هذا النحو ويقترب
من منطقة تقديم سينماه الخاصة.
magdamaurice1@yahoo.com
الجمهورية المصرية في
11/06/2009 |