إن نَعت المخرج
الدنماركي الطليعي لارس فون ترير بـ«مموِّن الاستفزاز» هو الأقرب إلى أوصاف
اشتغالاته السينمائية، التي تمتاز بخيانة التقليدي وهزّ قناعات
مشاهد أشرطتها
الكسول. لا يستأنس صاحب «أوروبا» (جائزة لجنة التحكيم الخاصّة بمهرجان
«كان»،1991)
و«رئيس الكلّ» (2006) إلى سجيّة دولية،
وينتصر دائماً لنخبوية أوروبية في المقام
الأول، الأمر الذي يضعه في مرام العيب والانتقاد والتحامل، من
دون أن يأخذ ذلك،
شخصياً، على محمل الجد. في مؤتمره الصحافي عقب العرض العالمي لجديده
«المسيح
الدجّال» في الدورة الأخيرة (أيار الفائت) لمهرجان «كان»، شتم الحاضرين
بطريقته
الباردة قائلاً: «أنا أعظم مخرج سينمائي في العالم». هذا
المبدع، الذي عزّز خطابه
الإبداعي على خطى صاحب «الآنسة جولي» الأسوجي أوغوست سترندبيرغ وظهر من تحت
معطف
الكاتب الذي أبصر قوة المرأة وقدراتها على مواجهة الكيد والمناكفة، لن يمنع
نفسه عن
التعالي.
ولم لا؟ فالذي هزّ القناعات في «تكسير الأمواج» (الجائزة الكبرى في
«كان»،
1996)، معتبراً الكنيسة بؤرة تبرير لزنى البطلة الشابة بيس ماكنيل قبل
محقها
الاجتماعي؛ وبعد إشاعته الدهشة في عمله الإشكالي «الراقصة في الظلام»
(«السعفة
الذهبية» في «كان»، 2000)، حيث تجد المهاجرة التشيكية إلى
واشنطن الستينيات سلمى
جيتشكوفي نفسها ضحية نذالة المحيطين بها وهي تفقد بصرها، قبل أن تنتقم من
الشرطي
الذي خان سرّها وسرق مالها ليصل حبل المشنقة إلى عنقها؛ أثبت لاحقاً في «دوغفيل»
(2003)
و«مندرلاي» (2005) للجميع أنه لا يعبأ كثيراً بأذواقهم، صافعاً الوسط
السينمائي باشتغال متقشّف بريختي النزعة، ومعتمداً على تغريبته، حيث لا
نوافذ
تُفتَح ولا أبواب تُوصد ولا شوارع تُحدِّد مسارات الشخصيات ولا
مباني تؤكّد معمار
(أو
عمران) مدينة ما. لم يكن في العملين سوى بطلتين تعانيان، على التوالي، عسف
عصابات قطّاع الطرق ومحن العنصرية الأميركية. تحكيان قصتيهما في مخزن فارغ،
وكاميرا
تدور بين خطوط وعلامات إيضاحية مرسومة ومكتوبة بالطبشور. إلى
ذلك، فمَنْ هو الذي
يغامر بروحية استفزازية كالتي لدى فون ترير، عندما جمع ثلّة من الممثلين
الشباب في «المغفلون» (1998) وعاث بالإيروتيكية
السينمائية إلى أقصى جنونها وعبثها.
آدم
وحواء معاصران
يصرّ فون ترير، الذي تكشّفت موهبته السينمائية في العام 1979 بعد
تخرّجه من معهد الفيلم الدنماركي، على تفاخره بأنه ابن شيوعيين
ملحدين رفضا إخضاعه
لـ «تقنين عاطفي أو مذهبي أو مُتعي»، وان ربّاه يهودي، مثلما إصراره على
علمانيته
الأوروبية التي حيّدت نظراته إلى السياسة والجنس والطبقات. ولعلّ «المسيح
الدجّال»
(يُفضّل
البعض إبقاء العنوان الإنكليزي «آنتي كرايست» كمرجع تأويلي أدقّ) أفضل
مُنجَز له، يعكس خوضه فيهما بجرأته المعهودة. في نصه الجديد، ذهب إلى شتم
المؤسّسة
العائلية من باب الدين وترميزاته، ومثلها العلائق بين الفرد
وبريته باعتبارها موئل
وحشيته المغمطة بالتحضّر المصطنع، كما هو تحامله على حرفة المرء الحداثي،
التي
تعقّدت أساليبها لكنها دفعته إلى التخلّي عن نبعه الصافي المتمثل بالإيمان،
وضربه
عرض الحائط بالتبريرات التي يرى أنها غير منطقية للإثم
والإرهاب الشخصي والجلد
الضميري والطروحات الربانية، في ما يتعلّق بالأحقية وطهارة الآخر. في مفتتح
العمل
التحريضي، نرى آدم وحواء معاصرين يرتكبان الخطيئة ذاتها وان كانت هنا
شرعية، عندما
يسبّقان لذتيهما على التزامها، المتمثّل بوليدهما الصغير
الوحيد الذي يسير نحو
حتفه.
يسعى فون ترير عبر التضخيم الشبقي للمواقعة الجنسية بين الزوجين تحت زخات
الماء إلى اعتباره مجازاً لطهارة ناقصة لعملية شديدة
الاعتيادية، وقعت في الزمن
الخطأ والمكان الخطأ؛ والتفاصيل الدقيقة التي صوّرها أنتوني دود مانتلي
(الذي أنجز «سلامدوغ ملينير»، باللفظ الإنكليزي) لطرفي
الفاجعة تترسّم عمرين، ينتهي زمن الأول
في مبتدئه (الطفل)، والثاني يطول عذابه حتى تحقيق العقاب
الكبير الدامي. نرى
الإكسسوارات داخل الحمام وهي تتهشّم وتتناثر، في وقت يختفي صوت الطفل
وصراخه عنهما،
كأن لهاث المجامعة الذي لن نسمعه بسبب الصوت الأوبرالي المؤدّي للوصلة
الدينية هو
فعل منقطع عن الحياة الفانية. إنه تفصيل خصوصي قد لا يحق
لآذاننا سماعه، وهو أيضا
صَمَم الطبيعة التي ترى فيه إنذاراً لغباء كائنين لم يصبرا قليلاً على
شهوتيهما.
يقرّر الزوجان الانعزال إثر الفاجعة في كوخ
وسط غابة نائية، وحشية، بكر يسميانها
عدن؛ بيد أن هذه الجنّة تتحوّل حسب كوابيس الأم إلى جحيم يُضاف
إلى تهويماتها
المتداخلة مع عناصر بحثها المعقّد حول فظاعات الكنيسة خلال القرون الوسطى
ومحاكمها
التي اعتبرت المرأة معصية وشيطاناً وعورة يجب تعذيبها وحرقها. تتحوّل
المعارك
الثنائية بينهما وسط النأي إلى دم وتعذيب قاس، ضحيته الزوج
(الأميركي ويليم دافو)،
الذي حاول تطبيق نظريات سيكولوجية لمساعدتها، وأول جزء بدني
ينال الضربة الأولى هو
عضوه التناسلي، كونه الأداة التي قادتهما إلى محنتهما، قبل أن تثقب قدمه
اليمنى
وتحكمها إلى حجر سنّ سكاكين ضخم تُعجزه عن الحركة والفرار. إنه أحد أشكال
التعذيب
الذي مورس في القرون القديمة. لا يبقى أمام الضحية سوى التعجيل
بالحلول البسيطة،
التي تقوده إليها حيوانات برّية هي أنثى آيل يتدلّى ولدها منها كفعل ولادة
ناقص،
وغراب و ثعلب. ولئن تحامل فون ترير على الكنيسة وقوانينها في «تكسير
الأمواج»، فانه
يضيف هنا تعييراً أعقد في مستوياته الإيديولوجية، من حيث وضع بطليه وسط
حيّز يراه
مدنّساً برؤى وإشارات دينية تبرّر الانتقام ودماءه. وكلّما
أرادت البطلة (أداء قدير
للفرنسية شارلوت غانسبور) الإيعاز إلى جسدها بالرضوخ لألم أكبر، تذهب
مباشرة إلى
المضاجعة الجنسية العصابية، قبل أن تقطع بظرها استكمالاً للتطهّر من خطيئة
جسدها.
تتوضّح معاني عنوان «المسيح الدجّال» في إصرار البطلة على سنّ قانونها
العنفي
بنفسها، والقائم على عشرات الصفحات من دراستها حول العقاب
بتصريفاته الكنسية
القديمة. وما تصفيتها على يد الزوج سوى إقرار الحق بأن العالم تغيّر، ولا
يمكن
العودة إلى توريقات العقلية المتزمتة، التي تحاول جهات إعادة بثّ الحياة
فيها،
الأمر الذي يُبرّر الخاتمة الملحمية التي اختارها فون ترير
لعمله الصادم هذا، الذي
مزج فيه الكثير من البورنوغرافيا بالصورة الوحشية للعائلة، حيث يصوّر بطله
الهارب
من جحيم عدن وهو يواجه بشراً طُمست معالم وجوههم وهم يسيرون إلى قلب الغابة
الوحشية، أي إلى ساحة معاركهم الحداثية، بغية التطهّر ثانية،
حتى لو تطلّب الأمر
تعذيباً وموتاً لن يقعا إلاّ في الخيال المستفَزّ لحفيد سترندبيرغ.
)لندن(
السفير اللبنانية في
11/06/2009 |