* يجيد خالد يوسف صنع المانشتات السينمائية.. كما يجيد أيضا ملء الهوامش
وما حول الموضوع الأساسي المفضل له وهو أوجاع مصر المتزايدة اليوم فهو بين
صناع السينما المصرية الآن مثل "مدير التحرير" الصاعد بقوة مدفوعاً بموهبته
وقدراته المهنية. وتزكية "الأستاذ" القديمة. وفي "دكان شحاته" نحن أمام
فيلم يحمل هذا. الموهبة والصناعة والصنعة. الحماس للفكر الممتد من أيام
الأستاذ. والرغبة في البوح بكل شيء برهافة أحيانا وبفجاجة كثيرا. كل شيء
موجود في الفيلم. حتي التمثيل الجميل المتقن والالتزام بتفاصيل التفاصيل
لدي أغلبية الممثلين والممثلات.. إلي الالتزام بالنجومية أولا لدي هيفاء
وهبي.. أقول كل شيء حاضر.. عدا التحليل.
كتب الفيلم السيناريست ناصر عبدالرحمن الذي اكتشفه يسري نصرالله في فيلم
"المدينة" ووصل إلي مرحلة النضج في "هي فوضي" ولكنه هنا في دكان شحاته يعود
إلي قصة مستوحاة من قصة سيدنا يوسف بإيحاءات وتفسيرات عصرية حول شحاته
الصغير الذي ماتت أمه عقب ولادته وأخذه أبوه حجاج "محمود حميدة" بواب قصر
مؤنس بك "عبدالعزيز مخيون" ليربيه مع أولاده الثلاثة من زوجة تركته وهجت
وهم طِلب "صبري فواز" وسالم "محمد كريم". ونجاح "غادة عبدالرازق". ولأن
البك رجل طيب ومحب ووحيد بعد استقرار ابنه في أمريكا. فقد وهب بوابه قطعة
أرض في حديقة الفيلا لبناء حجرة إضافية لأولاده وبجانبها دكانة صغيرة يبيع
فيها فائض فاكهة الحديقة. يهلل حجاج ويسمي الدكان باسم الصغير الذي جاء
الخير علي قدومه لكنه في نفس اللحظة يكون قد وضع بذرة الحقد في نفوس ابنيه
الأولين تجاه شحاته. وليكبر هذا الحقد والكره مع نموه وشيخوخة الأب وتغير
الأوضاع بعد عصر الانفتاح. ويموت الدكتور بعد أن يقنع حجاج بتوزيع ما يملك
بين أبنائه الثلاثة بعد زيادة عداء الكبار للصغير. ومع هذا فإن العداء يصل
إلي ذروته بموت "الأب" وتلفيق تهمة للصغير تلقيه في السجن ليلهف طِلب وسالم
وزوج الأخت الموالس "طارق عبدالعزيز" مليون جنيه.. من "محمود" الذي عاد من
أمريكا بعد موت والده ليبيع القصر خالصا لسفارة أجنبية في مصر.. ويخرج
شحاته بعد سنوات سجنه "لا يحددها الفيلم ولا يحدد تاريخ. سوي عام رحيل
السادات ومولد شحاته" وقد تغيرت الأوضاع. فقد أثري أخويه من تجارة السيارات
وتزوج سالم من بيسة "هيفاء وهبي" حبيبة شحاته زواجاً أقرب إلي الاغتصاب. تم
بفضل ضغوط شقيقها الوحيد البلطجي كرم "عمرو عبدالجليل". يفشل شحاته في
معرفة مكان اخوته الذين رشوا كل المعارف لإخفاء مقارهم الجديدة عنه. مما
يدفعه للتجول في كل الأماكن القديمة وأحياء القاهرة الشعبية ليراها وقد
تحولت إلي أوكار للعنف والبلطجة والغلب. وفيها يضع يده علي من يوصله إلي
شقيقته التي تبكي لأجله! وإلي شقيقها كرم وحبيبة القلب. يخفي الجميع عنه
أمر زواجها من شقيقه. لكنه يعرف بعد حركة جدعنة دافع بها عن فرفور قديم
ردها له فذكر الحقائق. ويذهب شحاته إلي اخوته باحثا عن المحبة والدفء! وفي
وسط زفاف ابن "طِلب" الاكبر يخرج له شحاته من جيبه ما احتفظ به طوال سنوات
سجنه. بطاقة أبيه الشخصية وشريط السيرة الهلالية لكن سالم يعاجله بطلقات
رصاص في الظهر في اللحظة التي يكتشف فيها طِلب انه لم يكن يقصد بها شرا..
ولا ينتهي الفيلم بعدها إلا باختراق جيش "الشارع" الحفل بالسكاكين لتتفجر
الدماء وتتطاير الشرارة إلي شوارع المدينة وأحيائها بفعل خروج الجماعات
الكامنة من جحورها في انتظار يوم "الفوضي" لتنطلق.. اننا هنا ازاء رؤية
كابوسية للصراع الاجتماعي في مصر لا تنفصل عن رؤية للصراع السياسي الذي
قدمه المخرج في البداية من خلال فوتومونتاج لعناوين الجرائد المصرية علي
مدي ثلاثة عقود. تعود بنا من الزمن الحالي لتتوقف عند تولي الرئيس السادات
ثم موته واعلان حظر التجول وهي ليلة بداية الأحداث الدرامية بمولد شحاته
وموت أمه "ريم حجاب" وعودته مع أبيه لعاصمة خلت من المارة تماما في تلك
الليلة.
هل كان هذا الربط ضروريا بين موت السادات وموت الحب والرحمة في قلبي طفلي
"حجاج" تجاه شقيقهما الأصغر؟ لا يوجد رابط موضوعي بين الحدث السياسي هنا
والحدث الاجتماعي. بل ان علاقة المودة والرحمة بين صاحب القصر الدكتور
وحارس بيته يُخمد أي احساس بالغضب والثورة لدي الأبناء. إضافة إلي ان
انحياز الأب للصغير لم يكن بالشكل الظالم الموغر. انه غضب بلا سبب قوي.
وإذا كان هذا مذكوراً في الكتب السماوية ضمن قصة يوسف عليه السلام. فإن
اعادة تقديمه علي الشاشة يحتاج لتفسير عصري مقنع اكثر من القسوة المبالغة
للاخوين والطيبة المبالغة لشحاته. حتي تخلي الاخت عنه طوال سنوات سجنه
نذالة مبالغ فيها وليس حبا وخوفا وهذه الآفات الشخصية لم تكن مقنعة تماما
لما رأيناه بعد خروج شحاته من السجن من مظاهر تردي حقيقي مثل معارك الخبز
وصراعات الفتونة في الشارع. ومن الطبيعي بعد كل هذا أن يصير مآل شحاته هو
الموت. فلا مكان للحب وسط هذا المناخ الفاسد. ولكن شحاته استحق الموت لسبب
آخر لم يقدمه الفيلم وهو ضعف بصيرته وقلة حيلته وهو المتعلم الوحيد بين
أخوته وكان من المفترض. والبديهي. أن يقاوم كل هذا الظلم والقهر والعسف.
مهما تعذب قلبه. وألا يرفع الراية البيضاء سريعا ومن البداية.. وأن يحذر
اخوته الأشرار وأن.. وأن..
يلفت النظر في الفيلم إلي جانب طوله سخاء الانتاج وتذبذب مستوي التصوير بين
أجزائه وان استطاع أيمن أبوالمكارم وضعنا في اطار ألوان داكنة ومشحونة
تتلامس مع سخونة الأحداث غير أن شريط الصوت حاصرنا بصوته العالي أولاً.
وبكل ما يتضمنه من أغان ومواويل وحكي لدرجة الاحساس بالحاجة إلي الصمت
أحيانا. حتي من أجل تأمل أسلوب المخرج في د فع الصراعات وإدارة ممثليه إلي
مساحات جديدة من الاجادة. خاصة محمود حميدة وعمرو عبدالجليل وغادة
عبدالرازق.. إضافة إلي اعادة ممثل قدير مثل عبدالعزيز مخيون وانصاف ممثل
آخر هو صبري فواز وتأكيد قدرات عمرو سعد نجم السنوات القادمة. وكذلك محمد
كريم. أما هيفاء وهبي في دور "بيسة" فقد وضعت قدما داخل نسيج الفيلم
والشخصية. وقدما أخري خارجهما. ربما خوفا من الفشل في التمثيل وبالتالي
أصرت علي ملبس وماكياج النجمة مع انها كان يمكن أن تكون إضافة حقيقية لو
احترمت الشخصية الدرامية ونسيت نجوميتها.. والمشهد الوحيد الصادق لها كان
وهي مضروبة من كرم وآثار الضرب علي وجهها!
magdamaurice1@yahoo.com
الجمهورية المصرية في
04/06/2009 |