لا يُخطئ المعلّم
السينمائي الإغريقي ثيو أنغلوبولوس هدفه المتمثّل بالتاريخ، الذي أخلص في
استقرائه
على مدى ثلاثة عشر نصاً، عدّ جلّها من كلاسيكيات السينما
الأوروبية المعاصرة.
فالرجل، البالغ السادسة والسبعين من عمره، والمتمتّع بحسّ التاريخية
وسردياتها
المتداخلة والمتشعّبة، جعلته حرفيته العالية الجودة صنواً لأرباب الملحميات
القدماء. وفيما خلدّ هؤلاء أساطيرهم بلغة الفخامة الألوهية،
جال أنغلوبولوس على
منوالهم، عبر كاميرا بطيئة إلى حدّ الحلم، ومتفرّسة إلى حدّ الجرح، في
انقلابات
الأرض والحياة والسياسة ورموزها ومواراتها.
يستنفر جديده «غبار الزمن» (خارج
المسابقة الرسمية في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين في شباط الفائت) حزمة من
الروابط
الإنسانية، التي تلتف كشرنقة سحرية حول أبطاله الثلاثة، وتحصّنهم من
الإفراط في
البعاد عن الأرض ـ الأم وذاكرتها وزمنها، وحتى تخيّلها كأرضية
نشأة وقبور موت.
والمخرج المخضرم، المغرق بإغريقيته، يحوّل يونانه إلى مُرضِع إيديولوجي،
سُمَّي
الوشائج. فالجميع يعرف الكل، والفرد جزء من عائلة كبيرة تُبقي
على كينونتها
الاجتماعية، على الرغم من المنافي وقسر التهجير، وعلامتها الباهرة، بحسب
أنغلوبولوس، التمسّك بدقائق الشخصية القومية، وفي أولها الشعر
ولغته واصطلاحاته،
وآخرها الزي وموضات أثنياته. في «غبار الزمن»، يتكوّن الضمير الإغريقي عبر
القهر
بصنوفه. هنا، يستكمل ما بدأه المعلم الكبير في نصّه الإشكالي «إعادة بناء»
(1970)،
الذي قارب جريمة صغيرة لزوجة خائنة أتمّتها بمساعدة عشيقها،
حيث اللعنة تطارد
الزناة، مثلما طاردت أبطال مأثرته السينمائية «الممثّلون الجوّالون» (1974/
1975)
وأحالتهم الى مؤدّي نص مسرحي يعجزون عن
إكماله فوق الخشبة، وبدلاً من ذلك، يعيشونه
واقعياً ضمن اختلاطات ذاتية تشتمل على الخيانة والجريمة والعسف
الشخصي. وهي ثيمة
تجد صداها في سردية فيلمه المجيد «أيام العام 36» (1972)، عندما تتحوّل
التهمة
الزُوْر التي يواجهها مخبر عادي إلى عصيان مسلح نادر، يُجبر فيه عشيقه
السياسي
النافذ على تمثيل دور الرهينة، قبل أن تحوّله رصاصة القناص إلى
شاهد على فساد
الأمّة والدم الذي يلطّخ تاريخها. وهو الدم نفسه الذي يرشَح من جراح جثة
الوطني
الشهيد، التي اكتشفتها فرقة «الصيّادون» (1977)، حيث يُفضح تواطؤ النخبة في
إثم
الحرب الأهلية.
يطوّر أنغلوبولس نظرته إلى هذا التواطؤ عندما يحيله إلى تهمة
قهرية، تعتمد على مرجعية «ألكساندر العظيم» (1980)، الحداثي
المتلبّس سحنة ستالين
وردائه العسكري وإصراره على استيلاد الشيوعي في كل عصر. وعلى الرغم من
شاعرية فيلمه «رحلة إلى كيثيرا» (1983)، فإن العسف الجمعي
ينصبّ بقوة لا مثيل لوحشيتها على ذلك
الحزبيّ العاجز، الذي يقف وحيداً ومقصيّاً على الخشبة الطافية
وسط أمواج المنفى
البحري، كتورية بليغة عن تلك الأرض التي ترفضه، وسفن الحريات التي تمرّ به
ولا تشفق
عليه. كما هي حالة البطل سبيريوس في «مربّي النحل» (1986)، الساعي في أرض
اليونان
بحثاً عن زمنه، لتكشف له الشابة التي التقطها في طريق نائية عن
خواء روحه وشيخوخته.
وتعود شخصية الشابة على هيئة صبية في «طبيعة سديمية» (1988)، وهي ترافق
شقيقها
الأصغر ألكساندر بحثاً عن والدهما المهاجر، لتُقهر جنسياً باغتصابات
متعدّدة؛
فالأوغاد لا يبرّرون خزيهم.
هذه الملخّصات تجعل من أنغلوبولوس راءٍ واسع
البصيرة إلى إغريقيته، التي نابت عليها ضروب المحن. حين استكفاها، وجد في
أوروبيته (التي دخلتها اليونان متأخّرة بعض الشيء)
ملاذاً درامياً ذي أردان تاريخية فضفاضة،
قادرة على لمّ ملحمياته السينمائية التي ركّزت على البطل
العائد. فثلاثيته الجديدة
حول الهجرة والحدود تفلسف الجيلان الأوروبي باعتباره شهادات على تحوّل
السياسة من
لعبة تطوّر مدارك، كما أرادها أرسطوطاليس، إلى منابت قوة واستغلال ومحق،
كما أرادها
الثنائي النازي هتلر والفاشيستي موسوليني. ففي المقطع الأول من
ثلاثية الحدود «المرج
الباكي» (2003)، يكون على الحبيبين الشابين أن يلوذا بالحدود هرباً نحو أرض
الأمان. بيد أن أنغلوبولوس لا يضمن لمشاهده الحكاية كعطية درامية، بل يذهب
به نحو
التواريخ منذ العام 1919 إلى مفتتح الخمسينيات التي تشهد
محاكمات القتلة الأوروبيين
والشروع بالوحدة السياسية. ان انفصال البطلين الحبيبين وعوداتهما المتقابلة
إلى
الوطن المغيّب، ثم الهروب من اعتقالات الفاشي، صيرورات مرمّزة لبلدان
القارة التي
قرّرت محو فصول الحروب من كتاب تاريخها الضخم؛ أي عودة الأرض الواحدة
للمواطن
الموحّد.
يأتي «غبار الزمن» ليؤكّد على العودات وإسقاطاتها التاريخية. فما إن
يصل المخرج الأميركي من أصل إغريقي، الذي رُمِّز له بحرف «أي»
(الممثل ويليام
دافو)، وهو الامتداد الشرعي لصنوه في «تحديقة عوليس» (1995) المهووس بفهم
حرب
البلقان ومعاني الحدود الجديدة والدول الوليدة، إلى مكان تصوير فيلمه
الجديد حول
والديه اللذين فرّقتهما الحروب والتحزّب والديانات، حتى يقع في
التباس ذاتي بين
ضياع ابنته في برلين، وواجب أرشفة العزم الجبّار لوالده، الذي قاده إلى
كازاخستان
بحثاً عن الحبيبة أليني (الفرنسية إيرين جاكوب)، إثر لقائهما في حفل راقص
عند نهر
قرب مدينة ثيسالونيكي، قبل أن تُعتقل وتُهَجّر إلى قرية
إغريقية أشادها ستالين
لمعارضيه اليونانيين، ثم ترحيلها إلى سيبيريا، حيث تقع في حب الناشط
اليهودي ليفي (الممثل النمسوي برونو غانز). يختار
أنغلوبولوس لحظة الإعلان عن موت القائد الذي
هيمن على صروف الحياة في سوفيات الروس في العام 1953، ليكافئ
الحبيبين باللقاء
المتأخّر.
لن يُغيّب أنغلوبولوس، على مدى مئة وخمس وعشرين دقيقة، حلقة الحب
الثلاثية كاحتفاء بوحدة مضمرة لمدينة استنكفت الموت مثل برلين،
وهي تستقبلهم في
العام السابع من الألفية الثالثة. إنهم جوّالوها الذين لا يكفّون عن إعادة
بناء
تواريخهم، ومن ضمنها كرونولوجيا أوروباهم. من هنا، سيكون على البطل «أي»،
الذي يحلّ
مكان المخرج الأصلي، واجب توثيق حروب القارة وسقوط الجدار السيىء الصيت،
مروراً
بحرب فيتنام وإزاحة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، ما يثبت
إلى نحو ما «أوروبيته
المتأمركة». هذه الشخصية التي تحقّق شريطها من دون أن تُكرّس وجودها
الأوروبي،
تتماثل وأقرانها في الاشتغالات السابقة لأنغلوبولوس، كالسياسي الذي اختفى
ونسي
أصوله قبل أن يكتشفه صحافي وافد إلى منعزله الحدودي في «الخطوة
المعلّقة للقلق»
(1991)، ويتماهى بطل «غبار الزمن» مع نظيره ألكساندر في
«الأبدية ويوم واحد»
(1998)، الذي يبحث بدوره عن منطق للإنقاذ الشخصي. يتجسّد
هذا الأخير، بتخليصه الصبي
من سماسرة الإتجار بالبشر عند الحدود الألبانية ومرافقته
الطويلة إلى أهله، فكرة
شعرية عن تداخل الزمان والمكان. ويجد البطلان «أي» الجواب على تعريف غدهما،
بأنه قد
يكون يوماً واحداً وربما أبدية مطلقة.
في «غبار الزمن»، لا يعلّق أنغلوبولوس
كثيراً على إنسانية أبطاله، أو إنهم مجرّد أفكار على الشاشة. فالأساس في
هذا العمل
كامن في أن حكايات الحب المتداخلة تمثّل أموميات عائلية مقتطعة، أي إن
الأبوين
الأوّلين أضاعا الابن الذي يضيّع ابنته بدوره، والذي يضيع
فيلمه، وهكذا. ينجح
المخرج «أي» في أمر واحد، هو فهمه معنى الافتداء الذي يستخلصه أنغلوبولوس
باجتماع
الحب الثلاثي، قبل أن ينتحر ليفي اليهودي في نهر الشبريه، وما رحيله سوى
استكمال
لعزلته التي تكرّست بعودة الحبيبين الأصليين إلى هويتهما، بعد
أن نفخا عنها غبار
الزمن.
)لندن(
السفير اللبنانية في
30/04/2009 |