الكثير من الافلام المنتجة حديثا تبدو في ظاهرها احيانا وكأنها مقتبسة عن
أعمال أدبية، سيرة ذاتية أو رواية، لكنها فعليا كتبت للسينما بشكل مباشر.
ورغم أن الاقتباس قد صار ركنا أساسيا بالنسبة الى اللانتاج السينمائي
ولاسيما في انتاج هوليوود – إلا أن أفلاما كثيرة نجحت وحققت تميزا بفضل
انشغالها بتفاصيل الفيلم وأسلوب معالجة القصة التي كتبت خصيصا للسينما.
هذا الفيلم الذي عنوانه "الزائر" يبدو للوهلة الأولى وكأنه قد اقتبس عن
رواية أدبية، لكنه ليس كذلك فهو قد كتب مباشرة للسينما، لنفس مخرجه توماس
مكارتي، والذي اشتهر سابقا باخراج فيلم واحد وهو "عميل المحطة" وكان فيلما
متميزا من حيث موضوعه، حيث التواصل والتقارب بين الجماعات المتباينة وبين
الاعراق والأديان والثقافات المختلفة.
سينما الموضوع
"الزائر" هو أحد الأفلام المهمة التي تراهن على سينما الموضوع في اقتراب من
الجانب الانساني، وكأنها تقف على الجانب الآخر من سينما التقنية، وهي
السينما التي يضيع فيها البشر لصالح تطور الآلة الى درجة عدم السيطرة
عليها.
وهو أيضا أحد الافلام التي انتجت بواسطة شركات شبه مستقلة، خارج اطار
الدائرة المعروفة داخل هوليوود، حيث يمكن للانتاج أن يتعامل مع الأفراد في
كل مشكلاتهم الخاصة، بعيدا عن القضايا العامة، ولاسيما ما بعد 11/9 في
امريكا، عندما تغيرت النظرة الى الاجنبي بشكل سلبي، رغم أن الأمر قد اتخذ
هذا المسار في البدايات الأولى، ولم يستمر في نفس الوضعية بعد ذلك.
لقد اعتمد الفيلم على شخصية رئيسية هي "وولتر"، شخصية لها مميزات معينة،
جسدها الممثل "ريتشارد جينكنس" بمهارة فائقة، اجتمعت فيها المظاهر
الخارجية، مع الجوانب الذاتية النفسية، ولقد اجادت المعالجة في رسم ابعاد
هذه الشخصية بفضل اضافة بعض التفاصيل الصغيرة، بين الحين والآخر.
وولتر استاذ اقتصاد فى جامعة "كونيكتكوت"، بلغ الستين من عمره و يعيش وحيد
بعد أن توفيت زوجته منذ سنوات طويلة، وربما اشار في حديثه الى وجود ابن
لديه يعيش بعيدا عنه. لكن المهم أنه يعيش حياة من الرتابة المستمرة، فهو
يؤدي عمله بدون حماس. إننا نراه ينهي محاضرته التقليدية بشكل صارم ويجري
مسرعا الى مكتبه، أو ينزوي في المطعم الصغير ليأكل بسرعة، وهو لا يبتسم أو
يتواصل كثيرا مع الآخرين. إن حياة العزلة تفرض نفسها على سلوكه.وفي مشهد
وحيد مع أحد الطلبة نراه يرفض استلام أوراق البحث منه لأنه تأخر عن موعد
التسليم، ولا تهمه الأسباب كثيرا، فهو غير مستعد للتعاون أو مساعدة أي شخص
آخر. في نفس الوقت تبدو الجدية مسيطرة على حياته، في ملابسه وطريقة تعامله
وفي سيارة الفولفو التي يستعملها. إن الفيلم يقدم مشاهد سريعة باعتبارها
خلفية لتوصيف هذه الشخصية.
مدرسة البيانو
في بداية الفيلم هناك مشهد أكثر دلالة، حيث تحضر سيدة في منتصف العمر
تقريبا تدعى بابرا، الى منزل والتر، لتدخل بطريقة فيها الكثير من الرسميات،
ونعرف بعد ذلك بأنها مدرسة بيانو جادت لتعليم وولتر، ولكن وولتر لا يتقبل
طريقة هذه السيدة في التعليم فهي تعامله وكأنه طفل صغير، ولذلك يطلب منها
ألا تحضر بعد ذلك، وهي تسأله عن عدد المدرسين الذين سبقوها في اعطاء دروس
البيانو حيث يعددهم وولتر بأنهم أربعة، ولذلك تعتبره فاشلا في التعلم لكبر
سنه أولا وثانيا لأنه غير متحمس وهي تدعوه الى أن يبيعها البيانو اذا فكر
في بيعه.
إن زوجة وولتر المتوفية كانت عازفة كلاسيكية للبيانو، ولكنه رغم ذلك فهو
مجرد عازف مبتدىء وربما فاشل، فهو لا يستجيب لهذه الآلة شعوريا، وسوف نلحظ
أن الموسيقى التصويرية في المشاهد الأولى تتصف بشي من البرود، يعكس طبيعة
شخصية وولتر نفسه، ثم يتغير الأمر في النصف الثاني من الفيلم.
من جانب آخر لا تميل هذه الشخصية الى الحركة، ولذلك دفع إليها دفعا. إن
رئيس القسم يطلب منه أن يشارك فى مؤتمر حول العولمة والتنمية فى العالم
الثالث، وأن يقرأ الورقة التي كتبها بدلا من المدرسة الأخرى والتي ترقد في
المستشفى بسبب الآم الولادة المستعصية.
قلق وحيرة
إن الاستاذ "وولتر" يكشف بكل صراحة بأنه لم يكتب الورقة فعليا ولكنه وضع
أسمه عليها تقديرا لزميلته، رغم أنه مؤلف لثلاثة كتب في الاقتصاد.
ان هذه الشخصية التي يجيد الفيلم رسمها، تتسم بالقلق والحيرة، لكنها واضحة
مع نفسها، وخصوصا فيما يتعلق بخلوها من المتعة وسيطرة حياة التكرار عليها.
و لم يجد وولتر أمامه الا السفر الى نيويورك للمشاركة في المؤتمر، فهو
يتحرك نحو مكان مختلف، تاركا الجامعة والبيانو وكل العلاقات السابقة، ان
الحد الفاصل في هذا الفيلم يتمثل في دخول "وولتر" الى شقته في نيويورك، فهو
يستعملها بين الحين والآخر وفي فترات متباعدة، وقد فوجىء بأن هناك من
يسكنها. في البداية يجد فتاة زنجية في الحمام، ثم يأتي بعد حين شخص آخر وهو
صديقها طارق. ورغم الصراخ والجلبة، ومحاولة استدعاء الشرطة، إلا أن الأمور
تتوقف عند حدود التصالح، فالسيد وولتر هو صاحب الشقة ودخلها بالمفتاح
الرئيسي، بينما استأجر النزيلان هذه الشقة من أحد المخادعين وهو ايفان
الروسي، وبالتالي عليهما المغادرة.
تصدر بادرة انسانية غير متوقعة من السيد "وولتر" فقد سلمهما احد المقتنيات
الخاصة بهما وداعهما للمبيت عنده الى حين حصولهما على مكان آخر. ثم وجدنا
أن الثلاثة قد استقروا بالشقة. زينب فتاة مسلمة من السنغال، تعمل مصممة
للحلى وأدوات الزينة وتبيع انتاجها في سوق مفتوح.
أما طارق فهو سوري من أصول فلسطينية، يعزف على الطبل ويمارس اعمالا مؤقتة
في فرقة صغيرة تضم عدد من الأفراد الذين يعزفون في عدة اماكن ومن بينها
الشوارع العامة والفرعية، ويدفع لهم الجمهور المستمع بعض النقود، وفي الوقت
الذي تبدو فيه زينب متحفظة، حتى في علاقتها بوولتر، تميل الى الوحدة، ولا
تكثر من الكلام، يكون طارق على العكس، اجتماعي، يسعى الى مصاحبة الآخرين،
بل يدعو وولتر، عندما يجده مهتما الى تعلم كيفية الضرب على الطبل والذي
تستجيب لايقاعه ورغبات وولتر الداخلية، حتى اننا نراه يكاد يرقص على ضربات
الطبل عندما يستمع اليه للمرة الاولى أمام قاعة المؤتمر الذي يستضيف الندوة
المقررة حول العولمة وعلاقتها بالدول النامية.
لم يكن الأمر مجرد تصور نظري، فعمليا وجد وولتر نفسه داخل تركيبة من هذا
العالم النامي بكل ما فيها من مشكلات، وخصوصا عندما يتم القبض على طارق في
احدى المحطات امام انظار وولتر، لينقل بعدها الى مكان خاص الى المهاجرين
بمدينة كوينز.
قضية معينة
لأول مرة وبعد سنوات طويلة يجد وولتر نفسه مهتما بقضية ما، تحركه نوازع
معينة تجاه هذين المهاجرين، فهما ليسا فقط غير شرعيين بالنسبة الى السكن،
وانما غير شرعيين بالنسبة الى تواجدهما في أمريكا، وهذا ما انطبق على منى
الأم ايضا عندما اخبرته بذلك.
لقد كان وولتر وسيلة الاتصال بطارق، في المكان المعزول المغلق والصارم في
اجراءاته – رغم الشكل الظاهري المقبول لهذا المكان.
عندما زار وولتر طارق لأول مرة لاجراء بعض الترتيبات ومن بينها تعيين محام
خاص للقضية يدفع اتعابه وولتر نفسه، وجد هذا الاخير زائرا يتساءل عن حقيقة
ما يحدث، لمعرفة الخبر اليقين حول أحد المحتجزين، ويسمع الرد من
الاستعلامات بأن عليه أن يتصل برقم يجده على الحائط لمعرفة أية معلومات
جديدة.
من هنا يمكن القول بأن هذا الفيلم لا يوجد فيه اشرار و لا وجود لصراع بين
الخير والشر أو صراع بين أطراف معينة، مثلما نقول عنه ايضا بأنه يخلو من
قصة حب واضحة المعالم. إن الأمور تسير نحو انتقاد المؤسسة فى تصرفاتها ضد
الاجانب والطريقة المتبعة في الترحيل. ولكن بالطبع لا يركز الفيلم على هذا
الموضوع، فهو ينتقد تصرفات معينة ولا ينتقد الأسلوب أو السياسة الكلية.
حالات مؤقتة
رغم ذلك، هناك أكثر من موقف احتجاجي مباشر، مواقف تدور كلها في اطار الكلام
وحده والتعبير عن حالات الغضب الفردية المؤقتة.
يتحرك الفيلم أكثر عندما لا يعود وولتر الى جامعته بعد انتهاء المؤتمر. لقد
وجد اخيرا القضية التى تستحود كل اهتمامه ليفرغ فيها كل حماسه. وهو أمر
يسير بالتوازى مع تعرفه على نوع آخر من الموسيقى ونقصد ضربات الطبل
الافريقى ثم تعلمه للعزف وبحماس كبير لم يعتد عليه في السابق.
النقلة الثانية المهمة فى الفيلم، هو حضور "منى"، إنها أم طارق، الارملة
التى تعيش فى ولاية ميشغان، جاءت لتجد نفسها ايضا في شقة وولتر، في محاولة
منها لاقتراب من ابنها ومعرفة ماذا يمكن أن يحدث له.
ان الأم هنا "تقوم بالدور الممثلة "هيام عباس" تضيف لعلاقة التواصل بعدا
جديدا. اذ تعرف وولتر على ثقافة مختلفة متمثلة في الطبل من ناحية، وفي
نوعية الافراد "من العرب ومن افريقيا"، ويكتمل الأمر بالبعد العاطفي، حيث
تحركت عواطف وولتر بعد سباق طويل تجاوز العشرين عاما، والعلاقة العاطفية
كما يصورها الفيلم بسيطة وحذرة وخدولة، بحكم التردد الطبيعي في كتم
المشاعر.
اقتراب أكثر
من ناحية أخرى تتعرف "منى" على السنغالية زينب التي تعتبرها سوداء أكثر من
اللازم في البداية، ثم تقترب منها أكثر. والحقيقة أن مشاهد زيارة الثلاثة
الجزيرة أليس والحديث عن تمثال الحرية وتذكر بعض اللحظات القديمة، كلها
مشاهد ضعيفة نسبيا لا ترقي الى مستوي باقي المشاهد الأخرى.
أن كل تلك المشاهد تسمح بنمو علاقة جديدة بين وولتر ومنى، يعود فيها والتر
الى شخصيته الأولى التي غادرها منذ سنوات. إنه على سبيل المثال يزور أمكنة
لم يزرها من قبل وهي القريبة منه، الأمر نفسه ينطبق على مسرحية شبح الاوابر
التي عاد لمشاهدتها مدفوعا برغبة منى في ذلك.
هناك مشهد مهم نراه بمجرد أن يعود وولتر الى جامعته، عندما يبيع فعليا
البيانو الخاص به، فهو هناك قد ودع الايقاع القديم، ايقاع البيانو الهادىء
الذى لا يخلو من برودة بالنسبة إليه. إنه يودع سنوات طويلة متراكمة، ربما
لها علاقة بزوجته ايضا، و المهم هو ان آلة البيانو قد صارت رمزا مباشرا
للماضي، في مقابل آلة جديدة ترمز للمستقبل وهي الطبل.
من جانب آخر تبدو زيارات وولتر لطارق وكأنها محطات متكررة لا تقود الى
نتيجة معينة، وحتى المحامي الايراني الأصل يقول بأن قريبا له قد تم تهجيره
الى بلاده ولم يستطع فعل شيئ، ولاسيما اذا تم تسليم اخطار له بالمغادرة
وتسوية شؤونه القانونية.
عودة ولكن
في الوقت الذي ترحل فيه زينب الى ولاية أخرى، تبقى منى مع وولتر، في تقارب
وتباعد. وخصوصا وأن الطرف الثالث الذي يجمعهما وهو طارق تسؤ حالته ويبدو
أنه أقرب الى الترحيل خارج امريكا.
في مشهد غاضب ثاني، لا يعتبر طارق نفسه ارهابيا لكى يعامل بمثل هذه
الطريقة، فالارهابي عادة شخص غني ولديه من يساعده ويصرف عليه اذا تعرض لأي
محنة.
وتصرح منى في آخر الفيلم بأنها قد استلمت اخطار الترحيل رسميا ولكنها
اهملته، كما يفعل الكثيرون، ولم تكن تعلم بأن الأمور ستسير في هذا الاتجاه.
في مواجهة مع منى يعبر وولتر بصراحة عن رغبته في ترك الجامعة والتفرغ
للكتابة، فهو لا يفعل شيئا على الاطلاق إلا تكرار ما يقوله كل يوم، وهو
عمليا ليس مشغولا ولا ليس لديه ما يقوم به. إنها حالة يقظة فجائية تصيب
وولتر، ليس على الصعيد العاطفى ولكن ايضا على مستوى المهنة وعلاقاته مع
الاخرين، لقد كان فى السابق يتظاهر بالعمل الجاد، وهو يريد أن يوقف حياة
التظاهر يصل الفيلم الى نهايته عندما يتم ترحيل طارق، ويتكرر المشهد مع
وولتر حيث تغلق فى وجهه الأبواب ولا تقدم له أية معلومات، ويطلب منه أن
يتصل بالرقم المسجل على الحائط لمعرفة ما يريد معرفته.
أمر واقع
ليس أمام وولتر إلا حالة من الانفجار الكلامي يعيشها للحظة معينة، ثم يجد
نفسه وقد استسلم للأمر الواقع.
تقرر منى أن تعود الى سوريا بعد ترحيل ابنها الى هناك، وفي ليلة تعيشها مع
وولتر فى غرفته تكون ليلة الوداع انها وابنها وزينب مجرد زوار وعليهم
العودة في أية لحظة.
اما المشهد النهائي بعد مشهد المطار مباشرة، فيتمثل في تلك الحالة الجديدة
التى يعيشها وولتر. إنه يجلس على أحد الكراسى المخصصة لركاب المترو ويستمر
في الضرب على الطبل بشكل متصاعد ومنسجم وباحثا عن أفق جديد، استطاعت موسيقى
الطبل الايقاعية أن تخلقه له. إنه ولا شك زائر لهذا العالم المختلف.
يستند الفيلم على خلفية جيدة من الشخصيات الثانوية العابرة، وهم اجانب
يعيشون في امريكا، يستخدمهم الفيلم مثل عامل المقهى المصري وتعليقاته
والمحامي الايراني التقليدي. والمحتال الروسي الخفي الذي كان سببا في
التعارف وحتى الشرطة المستخدمة داخل الفيلم من أصول غير أمريكية.
أما الجمع بين الافريقي والعربي، فهو ربط متداخل أساسه التعامل مع آلة
الطبل ذات الايقاع المختلف تماما والتي يمكن اعتبارها نقيضا لكل الالات
الوترية الأخرى، وبالطبع يبدو الشرق الاوسط حاضرا بقوة داخل الفيلم، فشخصية
طارق سورية تعيش في سوريا. وهناك اشارات سياسية معينة تشير الى ان والد
طارق كان صحفيا و قتل بسبب كتاباته – بعد تجربة طويلة في السجن.
رغم ذلك، كان التعامل السياسي مع الاحداث في حدود مقبولة، وذهب التركيز الى
الجوانب النفسية الداخلية لشخصية وولتر، وكيف انتقلت من حال الى أخرى في
اطار تعرفها على ثقافات أخرى مختلفة، فتحت لها الطريق للتأقلم مع الحياة
بشكل مختلف. وما الموسيقى إلا الاداة الفاعلة في خلق ودمج حالات التواصل
بين الافراد بشكل غير متوقع.
يبقى القول بان التمثيل قد لعب دورا مهما فى انجاح الفيلم، وهذا ينطبق على
الشخصيات الرباعية جميعا، وتلعب الممثلة الفلسطينية "هيام عباس" دورا مهما
عالميا، يضاف الى أدوارها السابقة، وهو دور يسمح لها بالتواجد والحضور
القوي في مراحل قادمة.
العرب أنلاين في
22/04/2009 |