افتتح أمس في سينما متروبوليس في أمبير ـ صوفيل البرنامج الاستعادي
للسينمائي الايطالي لمايكل أنجيلو أنتونيوني من ضمن مشروع "محطات السينما".
يقوم البرنامج المستمر حتى التاسع والعشرين من شهر نيسان/أبريل الجاري على
عروض يومية لأفلام طويلة وقصيرة من توقيع المخرج تُعرض الثامنة مساءً.
مازال عشاق السينما يذكرون يوم الثلاثين من تموز/يوليو 2007 بكُثير من
الحسرة والدهشة. ذلك انه اليوم الذي شهد فيه الفن السينمائي الخسارة الكبرى
في تاريخه بما في تاريخه. فبعد ساعات قليلة على وفاة السينمائي العملاق
انغمار بيرغمن في موطنه السويد صباح الاثنين الثلاثين من تموز، غاب سينمائي
كبير آخر مساء اليوم عينه في الجهة الاخرى من اوروبا. أربعة وتسعون عاماً
أتمها السينمائي الايطالي مايكل أنجلو انطونيوني قبل أن يغمض عينيه الى
الأبد عن حياة شديدة الثراء والغرابة والتحولات. فعلى الرغم من ولعه المبكر
بالسينما واختياره الافلام وجهته ومسلكه الابداعي منذ نهاية الثلاثينات، لم
يقدر لهذا السينمائي ان ينجز فيلمه الاول "حكاية علاقة غرامية" (1950) الا
قبل عتبتين من الاربعين ولم يُنذر للشهرة والاعتراف إلا بعدها بعقد مع
"المغامرة" عام 1960. قبلها، أمضى الاربعينات ناقداً سينمائياً وكاتب
سيناريوات ومترجماً وصانع افلام قصيرة ووثائقية.
تزامن صعود انطونيوني السينمائي مع نهاية الحرب العالمية الثانية التي
أفسحت المجال أمام صعود تيار الواقعية الجديدة في السينما الايطالية كردّ
فعل على الفاشيتين الايطالية والالمانية. ولكن انطونيوني فاجأ العالم
بفيلمه الأول خارجاً على تقاليد ذلك التيار ورواده، مستعيناً بممثلين
محترفين وذاهباً الى رصد العلاقات الانسانية بدلاً من الاشتغال على خطاب
النقد الاجتماعي السائد وقتذاك في أفلام الواقعية الجديدة. بل ان المخرج
ذهب أبعد من ذلك بأسلوبه البصري الذي صار علامته الخاصة لاحقاً ولا سيما في
افلامه الاولى وهو توظيف اللقطات الطويلة المركزة في مقابل ما يشبه الصور
التوثيقية التي اعتمدتها الواقعية الجديدة والتوليف الحر والمتفلت البعيد
من قواعد سيرغي ايزينستاين "الصارمة". لقد حمل الفيلم الملامح السينمائية
الاولى لمخرج طالع مشاكس ومتمرد، استخدم كاميراه ليقول بلقطاته المتحركة
ولقطاته المسكونة بالفراغ مشاعر الوحدة والعزلة. بذلك انشق انطونيوني عن
مخرجي تلك الحقبة مرتدياً عباءة أمثال كارل دراير وروبرت بريسون من الذين
اشتغلوا على السينما الجوانية المعنية بالروح أكثر من اهتمامها بالجسد
وبمسار الشخصيات وتحولاتهم على حساب السرد والاحداث. لم يجد الفيلم صدى
يذكر وترك مخرجه اسماً مجهولاً طوال سنوات الخمسينات على الرغم من خوضه
تجربتين أخريين
Le Amiche سنة 1953 وIl
Grido في 1957. في العام 1960، أنجز انطونيوني ما يعتبره كثيرون تحفته
الحقيقية:
LAvventura.
كان الفيلم بمثابة تكثيف لرؤاه وأفكاره أكثرها تطرفاً وحدية وربما سوداوية
ممزوجة في قالب واحد مع اسلوبه السينمائي الخاص. كأن السينمائي المتحدث
دوماً عن انعدام التواصل بين البشر كان يبحث عن وسيلة تواصله مع الاخر وعثر
عليها في شكل اسلوب خاص في هذا الفيلم. انها ما يمكن اعتبارها هواجسه التي
ميزته عن مجايليه من السينمائيين الايطاليين حيث لم يكن معنياً بمشكلات
الفرد اليومية وشجونه الاجتماعية والاقتصادية بل كان مشدوداً وبشكل عميق
الى الحالة الانسانية او ما يمكن ان يكون توصيفاً لا مفر منه لأزمة الفرد
الوجودية: العزلة والوحدة وعدم القدرة على التواصل. بإيقاعه البطيء وحواره
القليل وتشرذم حتى أبسط عناصر السرد، أسر الفيلم جمهور النقاد في مهرجان
كان السينمائي حيث عُرض في العام نفسه بينما أثار ما يشبه السخط بين افراد
الجمهور العادي. نال الشريط جائزة لجنة التحكيم الخاصة حاملاً مخرجه بين
ليلة وضحاها الى مرحلة جديدة من الشهرة والاعتراف والتميز في المشهد
السينمائي العالمي وممثلته مونيكا فيتي الى تخوم النجومية. كذلك يجمع بين
تلك الافلام انشغال المخرج بالمكان ودلالاته حيث نعثر فيها جميعها على بحث
حر في معنى المكان ولا سيما الحقائق السبع الاخيرة في "الليل".
في العامين التاليين، انجز المخرج فيلميه "الليل" و"الكسوف" اللذين شكلا مع
الاول ما يشبه الثلاثية يوحدها اسلوبه السينمائي والخلفية الاجتماعية
للاحداث والشخصيات الى المواضيع وبالطبع ممثلته المفضلة مونيكا فيتي. قام
"الليل" على نجومية فيتي ومارتشيللو ماستروياني وجان مورو. كان العمل
مغامرة أكثر حرية في التجريب مع العناصر السينمائية للفيلم من مونتاج
وتصوير معتمداً أقل على اللقطات الطويلة التي ميزت افلامه الاولى. اما في
"الخسوف" فقلص الأحداث الى "بورتريه" لامرأة تتنقل من علاقة غرامية الى
اخرى. "الصحراء الحمراء" كان فيلمه الاخير مع فيتي والاول بالالوان الذي
جرد فيه الواقع والحقيقة واستخدم اسلوباً بصرياً يخدع العين. شكل الفيلم
نقطة تحول وربما كان تحضيراً لفيلمه التالي "تظهير"
Blow Up
العام 1966 الذي تناول فيه فكرة تركيب الواقع والمعنى والحدود بين الواقع
والفانتازيا وبين الحيادية والاندماج العاطفي من خلال مصور فوتوغرافي في
لندن الستينات يلتقط عن طريق الصدفة دليل جريمة بكاميراه. كان الفيلم اول
عمل للمخرج ناطقاً باللغة الانكليزية واول فيلم يقدم شخصية رجل كمحور
للاحداث بعد ان شكلت افلامه السابقة سلسلة بورتريهات متصلة للمرأة في سعيها
اللامجدي الى الحب والاتصال والتوحد مع الآخر. مع
Blow Up
الذي اثبت انه أكثر افلامه جماهيرية ـ ربما بسبب حبكته الهيتشكوكية ـ
وجدلية ايضاً كان انطونيوني قد دخل مرحلة جديدة لم تخلُ من البحث عن اساليب
تعبير جديدة وربما سبل اتصال جديدة مع المشاهد. لم تعد الكاميرا وسيلة
للبحث انما للقول، تحث بتركيبها وبنائها للاحداث على الخروج خارج الفيلم
لفهم ما يريد قوله. بمعنى آخر، كان انطونيوني قد امتلك "ايديولوجيا" خاصة
في افلامه لا بديل عنها لفهم افلامه ودلالاتها ورمزيتها. فيلمه التالي
Zabriskie Point عام 1970 نقله الى اميركا حيث صنع فيلماً ضد السلطة والمادية مسكوناً
بمشهدين طويلين ينتميان الى عالم الفيلم الفانتازي محورهما الحب او الاحرى
الجنس الجماعي والموت. لم يلقَ الفيلم اعجاباً نقدياً ولا جماهيرية. افلامه
الثلاثة الاخيرة تأرجحت بين الهاجس التجاري والآخر الفني الى ان اصيب
بالشلل اوائل الثمانينات بسبب جلطة تعرض لها أقعدته عن مزاولة عشقه
السينمائي نحو ثلاث عشرة سنة ليعود بعمل أخير عام 1995 "خلف الغيوم" أخرجه
وهو مقعد غير قادر على الكلام بمعية المخرج فيم فندرز الذي فرضه المنتجون
كضمانة للعمل في حال توقف انطونيوني لاسباب صحية. غير ان فندرز صرح ان عمله
اقتصر على مشاهدة السينمائي المشلول يدير العمل بقدرة ادهشته. خرج الفيلم
كمعجزة ولم يكن الاهتمام منصباً على مكانته الفنية بقدر ما كان متجهاً الى
الترحيب بعودة السينمائي الجدلي الى الحياة اياً كانت النتائج. غير ان ذلك
كان آخر ما أنجزه انطونيوني: عمل عن الانا عن انطونيوني نفسه كشاهد على
العلاقات المبتورة والوحدة والعزلة التي انتهى الى اختبارها بأقسى مظاهرها
في ربع القرن الاخير من حياته. انه انطونيوني الشاهد على الحياة والحب
والانسان الذي جعل السينما تلك الوسيلة الآنية بالتقاطها كل ذلك وفي الوقت
عينه العين المتأملة بعيدة النظر في حال الانسان والعالم.
برنامج العروض
[ الاربعاء 15 نيسان
LAmore in Citta (20 دقيقة، 1953)؛
Cronaca di un Amore (98 دقيقة، 1950)
[ الخميس 16 نيسان
Nettaza Urbana (12 دقيقة، 1948)؛
Vinti (110 دقائق،1953)
[ الجمعة17 نيسان
LAmore Menzogna (10 دقائق، 1949)؛
La Signora Senza
Camelie (105 دقائق، 1953)
[ السبت 18 نيسان
Superstizione (9 دقائق، 1949)؛
Le Amiche (104 دقائق، 1955)
[ الاحد 19 نيسان
Gente del Po (9 دقائق، 1943)؛
Il Grido (116 دقيقة، 1957)
[الاثنين 20 نيسان
LAvventura (142 دقيقة، 1960)
[ الثلاثاء 21 نيسان
La Notte
(122 دقيقة، 1961)
[الاربعاء 22 نيسان
LEclisse (118 دقيقة، 1962)
[ الخميس 23 نيسان
Il Deserto Rosso (120 دقيقة، 1964)
[ الجمعة 24 نيسان
Blow Up (111 دقيقة، 1970)
[السبت 25 نيسان
Zabriskie
Point (110
دقيقة، 1970)
[الاحد 26 نيسان
Roma (9 دقائق، 1989)؛
Il Mistero
di Oberwald (129
دقيقة، 1981)
[الاثنين 27 نيسان
Sicilia (9 دقائق،1997)؛
Identicazione di una Donna (128 دقيقة، 1982)
[الثلاثاء 28 نيسان
وثائقيان عن انتونيوني:
Lultima Sequenza di Professione:Reporter (15
دقيقة،1984)؛
Antonioni Visto Di Antonioni (28 دقيقة،1978)
[الاربعاء 29 نيسان
Professione:Reporter (119 دقيقة، 1975)؛
Lultima Sequenza di
Professione:Reporter (15 دقيقة،1984)
المستقبل اللبنانية في
15/04/2009
"الراكب
The Passenger"
مفتتحاً برنامج أنتونيوني الاستعادي في "متروبوليس"
الهروب الى الالتباس والعيش إلى الأبد
ريما المسمار
ما المدهش في مشاهدة فيلم
The
Passenger اليوم بعد نحو خمسة وثلاثين عاماً على انتاجه وعرضه؟ هل هي مشاهدة
جاك نيكلسن في قمة شبابه وجاذبيته هو الذي اعتدناه في معظم أفلامه رجلاً
متوسط العمر؟ ام هو العثور على فيلم لمايكل أنجيلو أنتونيوني يقوم على حبكة
حقيقية؟ الواقع ان عناصر الدهشة كثيرة ويمكن ايجازها بالقول ان مصدرها
جمالية الفيلم ككل. عند ظهوره في العام 1975، تفاوتت الآراء حوله. انه نفس
العام الذي ظهر نيكلسن فيه في فيلم
One
Flew over the Cuckoos Nest. ولكن العودة اليه اليوم من مسافة ثلاثة عقود
وأكثر والتي أتاحها البرنامج الاستعادي من تنظيم سينما متروبوليس في بيروت
والمركز الثقافي الايطالي تبين مدى تجذر الفيلم في زمانه اي سبعينات القرن
الماضي وقدرته على الامساك بهواجس المرحلة. فبعد الستينات التي اتسمت
بالافكار الكبرى والقضايا العمومية، جاءت السبعينات محملة بهموم الفرد
ومأزقه الوجودي. من هنا يتخذ
The
Passenger أهميته في كونه غوصاً عميقاً على معاني الفردية والهوية بالمعنيين
الحسي والمجازي. انها حكاية رجل ينتحل هوية رجل آخر هرباً من نفسه ومن
وجوده ومن حياته والتزاماته ليفاجأ بأن هربه ليس الا نحو قيود والتزامات
أشد وطأة. فكرة الهروب من الذات تلك هي بهذا المعنى فكرة أصيلة متجذرة في
حقبة السبعينيات مع صعود الخطاب الفردي والذاتية، فكرة ان هنالك ذاتاً
ويمكن الهروب منها وفي الوقت عينه يستحيل فعل ذلك!
في فيلمه الذي سبق
The Passenger،
LAvventura،
يدور حوار بين رجلين حول استحالة الهروب: "ليس هنالك من مكان للهروب" يقول
أحدهما في إشارة الى المباني الضخمة التي تتمدد بشكل مخيف. كأن أنتونيوني
كان يمهد لفكرة ان العالم كما نعرفه نظرياً، ذلك المكان الممتد الى آفاق
مفتوحة واحتمالات لامتناهية، لم يعد كذلك. تلك هي أزمة "دايفيد لوك" بطل
The Passenger
الذي يحاول عبر التخلي عن هويته العثور على مكان أرحب متخذاً من فكرة الخلع
عن المكان والترحال أسلوب عيش يختلط فيه احساسان متناقضان: الألم والراحة.
لقد عبر انتونيوني بكلمات دقيقة عن تلك الحالة الانسانية التي يمثلها "جاك
لوك" حين وصف شخصيات
LAvventura
بالقول: "الانسان مضطرب، شيء ما يقلقه". انه انتونيوني قبل اي شيء الكاهن
الاعلى للسينما المتخصصة في التعبير عن قلق الطبقة الوسطى ما بعد العصرية،
واجداً في جاك نيكلسن المثال الفريد لنجم سينمائي يختزل الحلم الاميركي
مقروناً باليأس.
ما الذي يقلق دايفيد لوك تحديداً؟
ينطلق
The Passenger بمشهد افتتاحي يؤسس المخرج من خلاله ببراعة شديدة لأرضية حكايته.
بطله دايفيد لوك (نيكلسن) تائه وسط صحراء في شمال أفريقيا عاجز عن التواصل
مع ناسها الا من خلال اشارات بدائية. انه صحافي تلفزيوني يحاول اجراء لقاء
مع مجموعة من الثوار ولكن محاولاته تبوء بالفشل لأسباب تفرضها طبيعة
المكان. لا شيء يحدث في هذه المقدمة الصامتة سوى دوران "دايفيد" في دائرة
مفرغة تصل الى ذروتها حين تنغرس اطارات سيارته في الرمال وتدور وتدور من
دون جدوى في استعارة تنسحب على حياته ككل. عندها يطلق صرخته نحو السماء
التي تشق صمت المكان صرخة تختزن لاجدوى الكون.
لدى عودته الى النزل البدائي، يكتشف ان الرجل الانكليزي "دايفيد روبرتسن"
الذي التقاه قبل أيام، ميت في غرفته. من دون مقدمات ولا شرح، يأخذ جواز سفر
روبرتسن ويضع صورته عليه بينما يضع صورة روبرتسن على جواز سفره. يسحب الميت
الى غرفته يلبسه ثيابه ويترك أغراضه فيها مستغلاً الشبه بينهما لينتحل
شخصيته. لقد أعلن لوك موته بشكل إرادي لينطلق بشخصية جديدة الى ما يظنها
حياة مختلفة. في لندن حيث يقيم، نلتقي بزوجته التي تقيم علاقة مع شاب آخر
وتحاول فهم ما جرى تحديداً لزوجها من خلال بحثها عن "روبرتسن" (اي زوجها في
الواقع) الذي بلغ عن وفاة زوجها. في الجهة الاخرى من العالم، يهيم "دايفيد"
متأبطاً دفتر يوميات روبرتسن الممتلئ بمواعيد وأسماء وعناوين. لدهشته،
يكتشف ان هذا الرجل الانكليزي المسالم ليس سوى مهرب سلاح الى جماعات ثورية!
خلف هذا التحول والهروب من حياته وسرقة حياة رجل آخر، يحشد أنتونيوني
مجموعة من الأسئلة والمفاهيم. كل ما يبتغيه "دايفيد لوك" الهروب من حياة
يبدو انها لم تعد ترضيه لا في شقها المهني ولا الشخصي. انه يبحث عن شيء من
التفلت والانعتاق من التزامات العمل الصحافي والزواج الى حياة يعتقدها
فوضوية. ولكن تلك النظرة سرعان ما ستتبدل حين يشعر بأنه متورط أكثر من ذي
قبل وان التزاماته أصبحت مع الشخصية الجديدة أكثر عمومية وتكريساً. لا
يفوتنا هنا ما يرمي اليه أنتونيوني اذ لا يبدو تحول دايفيد لوك من صحافي
"محايد" الى مهرب سلاح داعم بشكل او بآخر لحركات الثوار صدفة بريئة. بل هو
نقد مدفوع في اتجاه الطرفين. البعض يجد في هذه الفكرة خطاباً سياسياً بات
عتيقاً ولكن حقيقة ان دايفيد لا يظهر اي اهتمام بنشاط روبرتسن ينفي
"التهمة" عن انتونيوني. ولكنه يطرح في الوقت نفسه تساؤلاً عن موقع لوك
ومراده. ماذا يريد فعلاً؟ هو زاهد بموقعه "الموضوعي" تجاه العالم كما تقتضي
مهنته. وهو خائب الظن تجاه شخصيته الجديدة غير الحيادية. ان ما يبحث دايفيد
عنه هي في الواقع حياة عشوائية جزافية عبثية او مجرد اختبار تجربة الهروب
من كل شيء حتى من نفسه. يتحقق ذلك لدايفيد لوقت قصير لاسيما حين يلتقي
بفتاة شابة (ماريا شنايدر) تشاركه تلك العبثية. ولكن رحلته التي بدأت
مفتوحة على احتمالات لامتناهية وكون غير محدود لا تلبث ان تضيق تحت وطأة
محاولات العثور عليه من قبل زوجته وزميله في التلفزيون وشركاء روبرتسن حتى
ينتهي الامر به مسجوناً في غرفة فندق صغير في قرية اسبانية فيما يعبر عن
الانسحاب التدريجي من العالم والذي لا يمكن ان يتم الا في حالة واحدة
هي...موته.
إذا كانت بداية الفيلم لا تُنسى كذلك هي خاتمته: لقطة واحدة من سبع دقائق
تبدأ من داخل غرفة الفندق حيث يتواجد دايفيد وصديقته. الكاميرا مثبتة على
الشباك المسيج بقضبان حديد تسير ببطء شديد الى الامام مخلفة جاك نيكلسن
وماريا شنايدر أمام السرير لتظهر الساحة الخارجية الرملية حيث تحدث (أو لا
تحدث) أمور مختلفة: رجل مسن يجلس على كرسي يستند الى الحائط؛ ولد يلعب
بالكرة؛ كلب يذهب ويجيء؛ سيارة خاصة بتعليم القيادة تدخل إطار الصورة ثم
تغادر. ثم تظهر ماريا شنايدر في الساحة مع وصول سيارة أخرى تقل الرجلين
اللذين التقاهما دايفيد على انه روبرتسن للاتفاق على صفقة السلاح. خلال هذا
الوقت كانت الكاميرا تقترب ببطء من الساحة الخارجية لتغادر في لحظة ما
الغرفة تماماً منسلة بين قضبان الشباك في لقطة سحرية مازالت تثير دهشة
المشاهد على الرغم من كل التفسيرات التي ظهرت لاحقاً لشرح كيفية انجازها.
مع خروجها التام من الغرفة الى الساحة، تبدأ الكاميرا بالانعطاف في شكل
دائري لتواجه الغرفة من جديد حيث نعثر على "دافيد" من مسافة بعيدة مقتولاً
على سريره في لقطة تحاكي اللقطة الاولى لدايفيد روبرتسن ميتاً على سرير
فندق آخر.
الغموض والقلق سمتان أساسيتان في أعمال أنتونيوني مصدرهما الاول تلك الحالة
من غياب القصة والسرد وقدرة المخرج على تجسيد اليأس كأنه يدير كاميراه الى
الواقع ويقوم بتكثيفه وتأطيره للخروج بفيلم. غموض أفلام انتونيوني هو بهذا
المعنى غموض الحياة نفسها التي تشرع شخصياته بعيشها من دون ادراك للآتي في
ما يشكل معاناة الفرد المعاصر في الواقع. لعل أنتونيوني من بين سينمائيين
قلائل استطاع ان يقبض على ايقاع الحياة في أفلامه ما يجعلها ـ اي الافلام ـ
شديدة العمق ومستحيلة التصديق في آن معاً. في
The Passenger
نجد عنصراً اضافياً يعزز الغموض والقلق هو طبيعة الفيلم نفسه التي تتقاطع
مع سينما التشويق والاثارة ولذلك ربما جرى تشبيه العمل غير مرة بشغل
هيتشكوك. أياً يكن فإن أنتونيوني لا يتوقف في هذا الفيلم عن كونه المتشائم
الروح والمغامر المنفتح الذي يرى ان الحياة قد تقود الى اي مكان.
عن مصير الفيلم خلال التسعينات والدقائق العشرين الضائعة
قبل خمسة وثلاثين عاماً أبصر "الراكب"
The Passenger
النور وظل حتى نصف تلك السنوات الاسهل بين أفلام أنتونيوني لجهة الحصول
عليه وعرضه. ربما بسبب تولي استديوات "أم.جي.أم" انتاجه وتوزيعه وتجسيد جاك
نيكلسن الدور الرئيسي فيه. كان الاقبال عليه كبيراً وكذلك كان إصداره على
الفيديو أمراً غير مألوف لاسيما في ظل ابتعاد السوق من السينمائيين
الايطاليين. في منتصف التسعينيات الماضية، بدا وكأن الشريط قد سُحب من
التداول. أصبحت عروضه نادرة جداً قبل ان تتوقف تماماً وغاب عن كل البرامج
الاستعادية التي تمحورت حول مسيرة أنتونيوني. ترددت عندها شائعة مفادها ان
نيكلسن يقف خلف عدم عرضه على الرغم من انه لم يصرح مرة باي كلام ضد الفيلم
او ضد دوره فيه لاسيما انه من بين أدواره البارزة في سجله السينمائي الحافل
بالمحطات المهمة. على الرغم من ذلك، لا يمكن المرء ان يتجاهل مجموعة حقائق
في مقدمها إقدام الممثل على شراء النسخة السالبة من استديوات "أم.جي.أم" في
العام 1983 الامر الذي فوضه مالكاً لحقوق العمل. خلال العقد الذي تلى تلك
الصفقة، حاز الفيلم غير عرض ولكن بموجب عقد يحتم حضور المخرج الامر الذي
صعب المهمة لاسيما بعد تعرض انتونيوني لجلطة في العام 1985 خلفته نصف
مشلول. هكذا اختفى الفيلم لوقت غير قصير ولم يعد الى الواجهة الا تدريجياً
بداية في العام 2004 عندما سمح نيكلسن لشركة سوني بيكتشرز كلاسيكس باعادة
طبعه ومن ثم عرضه في بعض الصالات الاميركية وفي عروض خاصة. وفي العام 2006
صدر على "دي.في.دي".
لا تنتهي الحكاية هنا. بعيداً من المتخصصين في سينما انتونيوني، قلة تعرف
الجدل الذي يطاول طول الفيلم ومدته. وبحسب الناقد روبرت كولر، وصل طول
النسخة الاولى التي ولفها أنتونيوني الى أربع ساعات قبل ان يقوم فرانكو
أركاللي (كاتب التوليف الذي يقف خلف معظم افلام السينما الايطالية في
السبعينات) بقصه ليراوح بين 139 و150 دقيقة. غير ان استديوات "أم.جي.أم"
طلبت نسخة أقصر فحصلت على فيلم من ساعتين الا دقيقة واحدة اي من 119 دقيقة
وكانت تلك النسخة التي عُرضت في الصالات الاميركية وحتى في بريطانيا (وهي
النسخة التي عرضت اول من امس في افتتاح البرنامج الاستعادي لأنتونيوني في
سينما متروبوليس في بيروت).
في أماكن اخرى، جرى التداول بنسخة أطول بأربع دقائق اي من 123 دقيقة وتحت
عنوان أنتونيوني الاصلي: "المهنة: صحافي"
Professione: Reporter.
ولكن على الرغم من استعادتها مشهدين اساسيين، أعرب أنتونيوني عن عدم رضاه
عن هذه النسخة كما سابقتها بينما يبقى مصير العشرين دقيقة المحذوفة من نسخة
أنتونيوني وأركاللي مجهولاً لاسيما ان الاخير توفي في العام 1978 في حين
غاب أنتونيوني قبل عام ونصف من دون ان يكشف عن هذا السر.
أنتونيوني بعد "الراكب"
بعيد إنجاز
The Passenger، اتخذت حياة انتونيوني الشخصية والمهنية منحىً غير متوقع. لم تكن
عودة ممثلته الأثيرة مونيكا فيتي الى فيلمه التالي "سر أوبرفالد"
The Mystery of Oberwald (1981)
كافية لانصاف تجربته الاولى بالفيديو. فالفيلم المقتبس عن مسرحية لجان
كوكتو كان مزيجاً هجيناً من الاقتباس المباشر والسرد والتجريب بالفيديو
والالوان. كذلك كان العمل بواسطة حجم الشاشة التلفزيونية مناقضاً لاسلوب
المخرج لاسيما لجهة التكوين الهندسي للقطاته. لاحقاً، اعترف انتونيوني
بمحدودية تلك التجربة.
كان يٌفترض بفيلمه التالي "هوية إمرأة"
Identification of a Woman (1982) ان يعيده الى سنوات مجده السينمائي السابقة ولكن ذلك لم يحدث. قلة
من الصحافيين المتعاطفين تغنوا بعودة المخرج الى بعض عناوينه المفضل من مثل
صعوبة العلاقات والهواجس الاجتماعية والمسحة الفيللينية التي تطغى على
نظرته. ولكن الغالبية وجدت في الأداء الضعيف (للممثلة دانييلا سيلفيريو)
وغياب التأثير البصري والكثير من الحوارات المفتعلة فريسة سهلة للنقد
وبرهاناً قاطعاً على عدم صلاحية انتونيوني كسارد كلاسيكي. لم تكن مقارنة
الفيلم بأعمال انتونيوني السابقة التي تقوم على مساحات واسعة من الصمت في
صالحه لاسيما انه هنا استنل الايحاء بحوارات مباشرة حول الحب والحياة.
على صعيد الحياة الشخصية، لم تكن الامور بأفضل حال. ففي العام 1985 تعرض
لجلطة خلفته نصف مشلول وغير قادر على الكلام مما استغرق وقتاً طويلاً
للوصول الى الشفاء. عاد الى السينما في العام 1989 بفيلمين وثائقيين أحدهما
عن مهرجان ديني في الهند والثاني عن فن العمارة في روما من ضمن مشروع ضم
اثني عشر مخرجاً اوكلت الى كل منهم مهمة تصوير بلدة ايطالية. لم يعد
انتونيوني الى السينما الروائية حتى العام 1995 بفيلم
Beyond the
Clouds
الذي حقق له عودة حقيقة الى اسلوبه وسينماه. لم يكن السينمائي لينجح في تلك
التجربة منفرداً لولا مساعدة المخرج فيم فندرز له الذي اعتبر مسؤولاً عن
المشروع امام شركتي الانتاج والامين. قام الفيلم على أربع قصص حب مقتبسة من
مجموعة قصص قصيرة للمخرج نشرت في العام نفسه. لعب جون مالكوفيتش الدور
الاساسي في حين أنجز فندرز الاطار العام للقصص الاربعة.
كذلك كانت تجربة انتونيوني الاخيرة مقتبسة من المجموعة القصصية نفسها حيث
أنجز أحد الاجزاء الثلاثة التي كونت فيلم
Eros (2004) الى جانب اثنين من عشاقه: ستيفن
سودربيرغ ووان كار واي.
اللقطة الأخيرة
يثير المشهد الأخير في
The
Passenger
الذهول. الى جانب كونه مؤلفاً من لقطة واحدة تدوم لسبع دقائق، يحتوي على
حركة كاميرا غير عادية. فكيف استطاع انتونيوني أن يعبر بكاميراه من خلال
قضبان الشباك الحديدية؟ بحسب سام رودر في كتابه عن أنتونيوني "أنتونيوني"
الصادر عام 1990، استغرق تصوير المشهد الاخير 11 يوماً. كان الطقس مزرياً
والضوء عصي على السيطرة. الكاميرا المتدلية من السقف كان عليها عبور
المسافة الصغيرة بين قضبان الشباك ليتم التقاطها بواسطة علاّقة
متصلة برافعة على علو ثلاثين متراً. ولكن حتى مع هذه التوضيحات، لا يستطيع
المشاهد الا التحديق بذهول لدى عبور الكاميرا بين القضبان الى الساحة
الخارجية.
المستقبل اللبنانية في
17/04/2009 |