تشهد صناعة الأفلام القصيرة في البحرين هذه الفترة «طفرة» مهمة, ليس فقط
على مستوى كم صناعة هذه الأفلام, والأسماء الجديدة للمخرجين الذين يجرّبون
فيها, ولكن أيضاً على مستويات أخرى من بينها نوعية الأعمال التي تقدّم,
والميزانيات المرصودة لهذه الأفلام, وهي التي تعني جودة أعلى في المستوى
التقني للفيلم القصير, وربما ساهم في ذلك وقوف عدد من شركات الإنتاج
السينمائي إلى جانب هؤلاء المخرجين الشباب الذين ينظرون إلى السينما, فيما
هم ما يزالون واقفين على أرضية الفيلم القصير. كذلك فإن دخول بعض الأسماء
الأدبية بقوة إلى ساحة كتابة السيناريو, وأيضاً إلى ساحة التنظير للفيلم
القصير وطرح رؤاهم حوله وحول الموضوعات التي يتماس معها, أثرى كثيراً هذه
الصناعة في البحرين.
في هذا التحقيق سنحاول أن نقترب من الفيلم القصير في هذه الفترة بالتحديد,
حيث شكّل دخول الشركة البحرينية للإنتاج السينمائي وشركة عمران ميديا على
خط إنتاج الأفلام القصيرة تغييراً مهماً على مستوى خريطة صناعة الفيلم
القصير, حيث أنتجت الأولى أفلام مثل «البشارة» لمحمد راشد بوعلي وفيلم
«زهور تحترق» لمحمد ابراهيم, بينما الأخرى أنتجت أفلام مثل «مريمي» و«أيام
الحصاد المر» لعلي العلي, ومنذ ذاك صار واضحاً في البحرين تصنيفان كانا
بارزين منذ مدة, ولكنهما مع هذه الطفرة صارا أكثر بروزاً أولهما «الفيلم
الفقير» والآخر كما يبدو ودون أن يتخذ تسمية مباشرة هو «الفيلم الغني!!».
احجز لي تذكرة .. هذا المساء
المخرج السينمائي بسام الذوادي يتحفظ على تسمية «سينما» أو فيلم سينمائي
على ما ينتج الآن, دون أن يطرح تصنيفاً آخراً, فهو يرى أن السينما لها
لغتها أولاً, ولها سبل إنتاج ومنافذ عرض واضحة, ويضيف «السينما هي تلك التي
تعرض في صالات عرض مخصصة, ولها جمهورها الذي يقطع التذكرة ليستمتع بها في
صالاتها المخصصة», مؤكداً أن عرض هذه الأفلام في المهرجانات فقط أو في
صالات صغيرة مخصصة لبعض الأصدقاء وللإحتفاء هو محفّز على الحلم بالسينما,
موضحاً أن «الفيلم القصير (في البحرين) يحفّز المخرج على التعرّف بالسينما
بشكل أوضح, وعلى حمل همّ السينما». وهذا الأمر يبدو أنه بات يؤرق المخرجين,
فحين عرض فيلم «مريمي» في العرض الخاص أواخر العام الماضي كان تصنيف الفيلم
هاجساً مؤرقاً بالنسبة لكثيرين, فالبعض صنفه على أنه فيلم سينمائي, والآخر
على أنه تلفزيوني, وآخرون قالوا «فيلم قصير» وكفى, بينما أصرّ مخرج الفيلم
علي العلي وقتها على أنه فيلم وكفى, مظهراً عدم اهتمامه بهذه التصنيفات
الحادة. وربما محمد ابراهيم مدير مهرجان الريف للافلام القصيرة, والمخرج
الشاب يرى الأمر من جهة أخرى فيقول «نحن لا نصنع فيلماً سينمائياً بمعنى
العرض السينمائي, أو بمعنى الشريط السينمائي حتى, نحن نعمل سينما من خلال
أفلام الوسائط المتعددة (الملتيميديا) وهذا توجه السينما العالمية الآن»
ويضيف «ما يميز الفيلم القصير عن السهرة التلفزيونية هو اللغة السينمائية
الدقة في اللقطات, في توزيعها, في عددها في المشهد الواحد.. بالتأكيد ليس
وسيلة عرضها ولا الشريط الذي تصوّر عليه».
والواضح أننا في البحرين لم نصل بعد إلى تصنيف واضح لهذه الأفلام, نظراً
إلى أن هذه الصناعة لم تتخذ لدينا بعد شكلاً واضحاً خصوصاً مع التمايز
الواضح فيما بين فيلم وآخر, ليس على المستويات التقنية فحسب, بل أيضاً على
المستويات الفنية والموضوعية, وأيضاً يبدو أن الفيلم القصير لدينا لم يتخذ
بعد شكل المحتوى الذي يطرح قضاياه, بل هو في الغالب قضية بعينه, إذ يمثل
إنتاج أو إخراج فيلم قصير بالنسبة للمخرجين الشباب الذين يشتغلون في هذا
الجانب, حلماً بحدّ ذاته, وليس بوابة للتعبير عن قضية ما,
ويشير إلى ذلك بسام الذوادي أيضاً إذ يقول «في الغالب هؤلاء الشباب تغريهم
تجربة إنتاج هذه الأفلام, والمشاركة بها في المهرجانات الخارجية «مهرجان
دبي تحديداً» ولكني كمتخصص لن أفيد من تجارب كهذه, العمل على الفيلم كهواية
فقط, من الممكن أن تترك بعد فترة, لا يخدم السينما ولا الفيلم, نحتاج
لأشخاص تكون السينما وصناعة الفيلم هي هويتهم, المشتغلون حالياً بالفيلم
القصير سيبتعد الكثير منهم, ولا أدري بالتحديد كم سيترك الزمن منهم ممن
تكون السينما عشقهم الحقيقي».
من جانب آخر, يرى المدير السابق لمهرجان الصوراي للأفلام القصيرة محمود
الصفار بأن مشكلة البحرين تستدعي أن تكون الأفلام القصيرة هي أفلام
مهرجانات, ويوضح الأمر بقوله «ليس ثمة جمهور للفيلم القصير, ليست هذه مشكلة
الفيلم القصير وحدها.. إنها مشكلة ثقافية بشكل عام, لم يتشكل بعد وعياً ما
في الشارع البحريني يجعله يهتم بالفيلم القصير, ومتابعته.. ربما مهمة
المهرجانات هي التأسيس لهذا الوعي». يشاركه في ذلك محمد ابراهيم أيضاً إذ
يقول «مادامت دور العرض لا يمكن أن تشتري الفيلم القصير, وما دام التلفزيون
كذلك, لأنهما معنيان بالناحية التجارية للموضوع, فإن فضاء عرض الفيلم
القصير هو المهرجان, هو الصالات الخاصة, هذا لا ينفي كونه فيلماً ولا ينفي
كونه سينمائياً, المسألة فقط تتعلق بشكل تجاري بحت». ويضيف ابراهيم «الفيلم
القصير غير مربح, لا تستطيع شركات الإنتاج تسويقه في صالات السينما, على
عكس الأفلام الروائية الطويلة, مثلاً الشركة البحرينية للإنتاج السينمائي
أنتجت أفلام مثل حكاية بحرينية, وأربع بنات وهي أفلام روائية تجارية,
ولكنها أيضاً أنتجت الأفلام القصيرة التي لم تكن تتطلب الربح أبداً».
الذوادي يعتقد أن المسألة تتطلب مساندة, يعتقد مثلاً أنه من الممكن أن تتاح
الفرصة لأفلام الشباب القصيرة أن تعرض قبل كل فيلم في صالات «السيف» أو
«الدانة», هذه المسألة ستعرف الجمهور على هذا النوع من الأفلام –يقول
الذوادي- هذا سيتيح فرصة لأن تعرض هذه الأفلام في مكانها المناسب, ويضيف
«أيضاً من الممكن أن يتعاون التلفزيون في هذا الجانب, يشتري حقوق عرض هذه
الأفلام, ويعرضها على الجمهور» ويؤكد الذوادي أن هذه الخطوة ستتيح للمخرجين
الشباب أن يستقرءوا ردود فعل الجمهور على أعمالهم, ويفهمون طبيعة تعامل
الجمهور مع أفلامهم, ويستشهد الذوادي بتجربة تلفزيون دبي في هذا الجانب
فيقول «تلفزيون دبي أنتج برنامجاً خاصاً بالأفلام القصيرة, في كل حقلة كان
يتناول فيلماً, ويعرضه, وفي مقابل ذلك كان يدفع مبالغ للفيلم المعروض, هذا
الأمر شجّع المخرجين الإماراتيين الشباب هناك, ومن الممكن تطبيق هذه
التجربة هنا أيضاً» ويضيف الذوادي «لابد من إعطاء هؤلاء الشباب فرصتهم
للدخول حقيقة في العالم السينمائي».
بالنسبة له فإن عبد الحسين مرهون -وهو أحد أعضاء فرقة المعامير الفنية وهي
من فرق السينما الفقيرة في البحرين- يرى بأن السينما الفقيرة كانت أسرع إلى
ابتكار وسائل عرض للفيلم القصير متميزة ومغايرة فما أن يخرج فيلم جديد لهذه
السينما حتى تبادر الفرقة المنتجة إلى إيجاد وسيلة لعرضه, من بينها عروض في
النوادي أو في المناسبات العامة, أو تطبع الفيلم على أقراص مدمجة, أو تضع
الفيلم أو بعض مقاطعه على موقع «يو تيوب» الشهير, ويضيف مرهون «هذا الأمر
يعطي دافعاً مهماً لصانعي الفيلم, لأنه يقربهم من الجمهور, ويجعلهم في تماس
مباشر معهم, وربما هذه من ميزات الفيلم الفقير في البحرين.. الذي هو قريب
جداً من الشارع».
فقيرة .. غنية .. هل هي سينما طبقية .. أم ماذا؟
السينما الفقيرة ليس مصطلحاً خاصاً بالسينما في البحرين, ولكنه ربما هنا
يعني الكثير, إنه مصطلح يحمل كثيراً من المعاني, ربما تحمل دلالات أكبر حتى
من حجم صناعة السينما في البحرين, فمصطلح الفيلم القصير قد يأخذ معنى
طبقياً, وقد يأخذ معاني أيديولوجية أيضاً, وربما يبرز هذا المصطلح بمعانيه
تلك لدى تقييم الأفلام غالباً, ولكن حين ذاك تبرز تأويلات تتخذ من «فقر»
بعض الأفلام أو «غناها» ـ التقني ـ لكي تتحدث عن جوانب كثيرة من بينها
الحالة الطبقية أو حتى الفكرية والأيديولجية, برز هذا لدى إعلان نتائج
مهرجان الريف المسرحي الثاني, حيث فازت في المهرجان في قسم المسابقة
المحلية أفلام «أغنى» ـ تقنياً ـ من أخرى, وبرر بعضهم وقتها فوز مثل هذه
النوعية من الأفلام بأنه ترجيح لكفة السينما «الغنية» على حساب تلك التي
يشتغل أصحابها بميزانيات متدنية جداً, وبتقنيات منخفضة جداً, مؤكدين أن
السينما «الغنية» تكسب دائماً, وأن لجان التحكيم دائماً ما تنحاز إلى مثل
هذا النوع من السينما, نظراً لانبهار شكلي, لا يعدو كونه بحث عن شكل
السينما بعيداً عن مضمونها, وإذاً فقد كان صانعوا السينما الفقيرة يعتقدون
أنهم يقدمون مضموناً مختلفاً! ويعتقدون أن مضامين أفلامهم لا تتناسب وأذواق
لجان التحكيم المنحازة لنوع معين من السينما. وإذاً فهل سيشكل ظهور شركات
سينمائية داعمة للسينما حافزاً للفيلم القصير في البحرين, أم أنه سيعمق هوة
كانت قائمة أساساً تتمثل في فرعي السينما أو طبقتيها؟
يرى محمود الصفار بأن ظهور هذه الشركات سيحفز هذه الصناعة بكل تأكيد فهو
سيمنح الشباب فرصتهم ليعملوا مخيلتهم دون أن يصطدموا بحواجز الكلفة
العالية, ويرى الصفار بأن مخيال الشباب متقد جداً مستشهداً بورشة «فلنحكي
سيناريو» التي أقامها مهرجان الصواري ومن خلالها برزت كثير من الأفكار التي
اصطدمت بواقع الميزانية, ولكنه يضيف «ثمة نقطة أخرى, وهي أن البعض قد يرى
أن دخول هذه الشركات على خط إنتاج الأفلام القصيرة, سيقسم «البلد إلى
نصفين» فستقوم هذه الشركات باحتكار مخرجين معينين ينطقون باسمها, ويؤدون
أعمال تخدم أفكار هذه الشركات, بينما سيكون هناك قسم آخر من المخرجين خارج
هذه الدائرة فقط لأن أفكارهم تختلف وتوجهات هذه الشركات..» ويضيف «إن حدث
ذلك حقاً فسيكون أمراً مؤسفاً.. أتمنى أن تفكر الشركات هذه في دعم
الإبداع.. بعيداً عن التوجهات الأيديولوجية».
محمد ابراهيم من جهته لا يعتقد ذلك فهو يرى أن هذه الشركات تعمل من خلال
رؤية إبداعية, لا علاقة لها إلا بالمستوى الإبداعي لدى المخرج, الأمر الذي
يساهم في دعم القاعدة السينمائية في البحرين, مؤكداً أن الفترة القادمة
ستكون دليلاً على هذا الأمر خلال المهرجانات القادمة «الخليج السينمائي ـ
نوتردام ـ صقلية ـ الأمل الأسباني» والتي ستشارك فيها عدد من الأفلام
البحرينية من إنتاج هذه الشركات, إضافة أيضاً إلى الأفلام المستقلة أو
الأفلام المنتجة من قبل شركات أخرى.
عبد الحسين مرهون من جهته يعتقد أن المفروض غير معمول به حالياً حيث يؤكد
«كنا نأمل أن تقوم هذه الشركات بالبحث في الساحة الفنية عن المواهب لتبنيها
في أعمالها, وأن تقوم بتطوير هذه الساحة عبر إظهار المواهب المتميزة في
أفلامها, غير أن الواقع يظهر غير ذلك, فهذه الشركات صارت أشبه بفرق فنية,
تقدم أعمال لذات الطاقم في كل مرة, وبالرغم من أنها لم تقدّم لحد الآن الكم
الذي يمكن القياس عليه, إلا أننا نرى بوادر لهذه الظاهرة, الكل له مجموعته
التي يعمل من خلالها». ويؤكد مرهون «هذا بالتأكيد يعمق الفجوة القائمة
سابقاً, وتثبت أن ثمة شللية ما في الساحة الفنية لا يمكن إلا القول بها,
خصوصاً وأنها تظهر الآن تحت مسمى شركات وليس فقط فرق». ويبدو أن السينما
الفقيرة ليست فقيرة لأن كلفها الإنتاجية قليلة فقط, فالبعض يرى أن السينما
الفقيرة في البحرين, هي فقيرة لأنها أساساً تتناول مواضيع شديدة الحساسية,
تمسّ الشارع البحريني, وهي ربما لذلك غير مرضي عليها, ولذلك فهي سينما
الشارع, بينما تلك الغنية هي سينما النخبة, وسينما «لجان التحكيم», وهذا ما
يجعلها تصعد إلى المنصات بينما تبقى السينما الفقيرة على كراسي النوادي أو
الساحات العامة.
الأمر يبدو أكثر تعقيداً مما كنت أظن, فها هو فيلم «الغصن» وهو من إنتاج
السينما الفقيرة في البحرين «فرقة المعامير الفنية» يحصد برونزية الهرّبان
السينمائي العراقي, وها هي الأمور تتعقد أكثر, الأمر الذي سيضطرني إلى
إنهاء هذا التحقيق الآن بغية إكماله أو بحث جوانب أخرى فيه في أعداد لاحقة
من رؤى.
الأيام البحرينية في
28/03/2009 |