مضى على إقامة أول عرض سينمائي عام في العالم قرن وثلاثة عشر عاما، حافظت
السينما خلالها على الخاصية التي اتسمت بها منذ بدايتها وهي التي وصفت
بعبارة “سحر السينما”. تطورت السينما خلال تلك الأعوام بخطوات متسارعة ليس
فقط من ناحية التقنيات المستخدمة فيها بل بخاصة، من ناحية وسائلها
التعبيرية المتنوعة التي جرى اكتشافها تدريجيا ولكن مع قولبتها ومن ثم
تطويعها لكي تصبح الأفلام سهلة الفهم والاستيعاب من قبل جماهير السينما في
كافة أرجاء العالم، ذلك لأن أحد الأهداف الرئيسية التي حركت مسيرة السينما
وانضوى تحت لوائها غالبية المخرجين في العالم كان ولا يزال الانتشار
الجماهيري وتحقيق ذلك عن طريق صنع أفلام تهم الجماهير، تؤثر فيهم، تشوقهم
وتمتعهم. لكن، مقابل هذا الاتجاه العام نشأت فئة مارقة متمردة من المخرجين،
اكتشفت، خاصة مع التطورات الهائلة في مجال صناعة الفيلم، إمكانية أن يكون
الفيلم مجرد وسيلة للتعبير الذاتي عن قدرات إبداعية، وسيلة لا توجه خطابها
للجماهير بل للنخب، فصار المخرجون يصنعون أفلامهم خارج القوالب والصيغ
المتداولة، وأبرزها السرد المنطقي السلس لحكاية مشوقة، ويعتمدون صيغا
بديلة، مبتكرة، متحررة درجة التشظي وعشوائية العرض أحيانا.
يعجب نقاد السينما بهذه الأفلام ويشيدون بها في كتاباتهم ويسبغون عليها
الكثير من الأوصاف المبهرة، لكن المفارقة تكمن في انه نادراً، ونادراً
جداً، ما تتضمن هذه الكتابات تحليلاً وتفسيراً وتعريفاً نقدياً علمياً
لماهية وخصوصية الإبداع لدى المخرج بما يجعل القارىء لما يكتبه النقاد يفهم
سبب أهمية الفيلم الذي يوصف بأروع الأوصاف ومنها انه فيلم ساحر، إذ يكتفي
النقاد بهذه الأوصاف ولا يزيدون عليها ما يروي الغليل أو يشبع الرغبة في
الفهم.
غالبا، لا يكتب النقاد بهذه الطريقة تمنعا أو ترفعاً، بل يفعلون ذلك لأن
هذه الأفلام التي تبهرهم ويرون فيها تجسيداً لروعة فن السينما، والتي تكون،
وفي أحيان كثيرة بسبب ذاتية أسلوب إبداعها، غامضة المغزى، معقدة التركيب أو
حتى مشوشة في بنيتها، وبالتالي هي عصية على التحليل والشرح، ومع ذلك فهي
تأخذ بألباب هواة السينما الراقية والنقاد الذي يحارون في تفسير أسباب ذلك
السحر الذي طغى عليهم وهم يشاهدون الفيلم وظل تأثيره مستمرا إلى زمن لاحق.
إن عجز نقاد السينما، وتحديدا النقاد المؤهلين عملياً ونظرياً، عن تبرير
أسباب إعجابهم بفيلم ما، مثل حال من يكتبون في نقد الشعر ويحاولون تحليل
قصيدة سيطرت أبياتها على مشاعرهم فما توقفوا عند كلماتها ولا تمعنوا في
دلالاتها ومعانيها فيماهم يقرأونها أو يصغون إليها، وحين اضطروا إلى
الكتابة عنها عجزوا عن سبر أغوارها وفتح مغاليق رموزها الغامضة، وما
استطاعوا إلا الإشادة بروعة البيان فيها، البيان الذي طالما اعتبر العرب أن
فيه سحراً.
إن حال هذا النوع من الأفلام في تأثيره على المتفرج المتذوق مثل حال تلقي
بعض أنواع الشعر الصعب حد الإبهام، مع أن الإقرار بهذا يحتوي على قدر من
المفارقة، ذلك لأن الأفلام مهما غمضت يظل غموضها أقل بكثير من غموض الشعر،
كما أن الأفلام ليست كالشعر تكتفي بوسيلة تعبير واحدة هي اللغة التي إن لم
تُستوعب كلماتها وتراكيبها أشكلت على الفهم، فنحن نتعامل في الأفلام مع
الأصوات بأنواعها والصور بأنواعها العاكسة لصور الواقع مباشرة والتي يوجد
فيها عدد من المفاتيح التي تساعد على فهم بعض التفاصيل أو توجه الانتباه
نحو بعض نواحي الفيلم إن لم نقل الفيلم، كامل الفيلم.
تكمن المسألة إذن، فيما يتعلق بالأفلام على الأقل، ليست في الغموض أو
الوضوح، بل تكمن أحيانا في سحر خفي ينتقل إلى المتفرج المتذوق ويتغلغل في
مشاعره فيجعله يتغاضى عن محاولة فهم الغموض إن وجد، ويتغاضى عن انتقاد
الهفوات والنقائص في الفيلم إن لوحظت، ليستسلم لسحر ينهال عليه، سحر لا
يتفاعل معه إلا ذوي الذوق الفني الأدبي والسينمائي الرفيع.
من حيث المبدأ، يفترض في النقد السينمائي أن يلعب دوراً أساسياً في تنمية
الذوق والمعرفة السينمائية لدى الأوساط الواسعة لجماهير الأفلام، لكن،
بالعلاقة مع مطلب تنمية الذوق السينمائي العام فإنه لا يمكن تحميل النقاد
مسؤولية تردي الذوق العام لمشاهدي الأفلام والذين لا يتقبلون إلا أفلام
الترفية والتشويق، ولا يمكن إذن تحميل النقاد أكثر من طاقتهم، ففي حين يمكن
للنقاد تفسير المعاني وتوضيح الدلالات والتعريف بدور ومساهمة العناصر
السمعية والبصرية المستخدمة في الفيلم، إلا أن النقاد لا يستطيعون كشف
أسرار السحر وأدواته المستترة والتي تجعلهم يستمتعون بفيلم ما ويشيدون به،
في حين يجده المشاهدون العاديون فيلما غامضاً معقداً ومملاً.
الخليج الإماراتية في
28/03/2009 |