الرجل والمرأة جدلية الوجود الأبدية في كل أشكاله ما بين الحب والعطاء وألم
الفراق عادت هنا بشكل آخر يتناوله المخرج جاران نوغرو، عبر أسطورة هندية،
لرجلين وامرأة... لعب كل واحد منهم دوراً أساسياً للتعبير عن سياسة بلد غني
وآخر فقير كانت المرأة هنا رمزاً تتصارع لأجله قوى الطرفين بوصفها الأرض
الخصبة .
لطالما تولع المخرج الأندنوسي (جاران نوغزو) باسم (راميانا) وهي أسطورة
هندية ثلاثية الأبعاد ذات قصيدة ملحمية مكونة من ثمانيٍ وأربعين ألف بيتٍ
شعري مغزاها الصراع بين الملك راما (إله مدينة فيشنو) وخصمه الشرير (رافانا)
الذي طلب من أعوانه تعذيب زوجة الأول (ميتسا) بعد سفرهِ إلى بلادٍ بعيدة.
وبمساعدة أهالي مدينته، تمكن راما من تحرير زوجته وقتل رافانا.
إنتشرت هذه الحكاية في العديد من بلدان جنوب شرق آسيا وتنوعت وفقاً لطبيعة
ثقافات شعوبه.
شخصيات هذه الأسطورة جسدها المخرج في فيلم (أوبرا جاوا) بالراقص وصانع
الأواني الفخارية (سيتيو) والزوجة (سيتي) أما الثالث فهو المتغطرس (لوديرو)
وهو أحد أعيان المنطقة.
احتفظت هذه الشخصيات بقوى العالم القديم الخارقة وعن طريقها يظهر المشهد
المصور متجانساً مع أي مكان وزمان دون أن تفقد حبكة الفيلم شيئاً من
رصانتها وتماسكها، حيث نرى تداخل هؤلاء الأبطال مع عالمنا اليومي ممثلة
الولايات المتحدة بنفوذها ورغبتها في السيطرة على العالم بشخصية (لوديرو)
الغني وبلدان العالم الثالث بفقرها وهجرة عقولها بالراقص سيتيو الذي تدفعه
الحاجة والعوز والاستقامة إلى الترحال الدائم. في حين أدت الكوارث الحقيقية
مثل انهيار برجي التجارة العالميين والحرب على أفغانستان والعراق إلى
احتكار (سيتي) عبر سلسلة طويلة من الهجمات والإنتقامات مبرزة الصراع غير
المتكافئ بين سيتيو ولوديرو.
ومن جانب ثانٍ، تضمن الفيلم مواقف إنسانية تعكس الوفاء تارة والخيانة تارة
أخرى، الزواج التقليدي أو السقوط في مهاوي اللذات. أما الجانب الثالث،
فيبين لنا مطالعة دقيقة لصدامات الأفكار المعاصرة ومذهب التمامية(1) بين
الشرق والغرب.
إزاء هذا السيل من الصراعات، تشدنا الحركات البارعة في رقصات تقليدية
وحديثة سواء المنفردة منها أم الجماعية والمنسجمة تماماً مع ديكورات
المشاهد المسرحية المجردة أو المليئة بالأثاث الفخم وسط فيض من الأقمشة
والألوان والأزياء والإكسسوارات حسبما يقتضيه المشهد.
تعترينا الدهشة ونحن نصغي بانتباه لرجل قوي البنية في صوته شيءٌ من اللهجة
الدلفية(2) يطلب بحزم سماع الأغاني السردية المصاحبة لجيتار صغير أو أغنية
لحبيبين وهما يشتكيان من تعاستهما وقسوة الحياة التي أجبرتهما على الانفصال
في حين يطالب قرينه بأناشيد الصيد والحروب المثيرة للحماسة.
وليس من السهل التنبؤ بأحداث أوبرا جاوا، فالأمر يتطلب ذوقاً مرهفاً
وإلماماً بالفنون الكلاسيكية والأصناف الأدبية وفن الحديث الذي لا يخلو من
التصنع والتكلف وجزالة التراكيب اللغوية. وعبر المخرج عن رؤية ثاقبة من
الضوابط بواسطة حكايات بعيدة في الزمن مازجاً بين الرقصات البهلوانية
المعقدة وتلك المتحضرة وبين مجرى الأسطورة والبيئة الاجتماعية وتأثيراتها،
كطريقة صنع الأقمشة ورسم الأجساد وعمل المنحوتات من الفخار وكثرة استعمال
محاريق الشمع. ولم يشأ المخرج، مع هذا السيل من الألوان والحركات وتنوع
المصادر، أن يجامل القارئ أو يزجه في هوة ثقافية، بل جل ما فعله هو تقليد
مصممي الرقص بكثير من الواقعية، فبدت الحركات معدة من دون سابق استعداد
لها، وركز على الإثارة وهو الإحساس بأن شيئاً ما يحدث هنا، في هذه اللحظة
ولا يمكن لمثيله أن يتكرر أبداً. أخذ هذا الإحساس بالحسبان في المشروع
السينمائي الذي أكد فكرة الاستلهام من الموسيقيين ، لاسيما موزارت.
دل هذا على معرفة نوغرو العميقة بتأريخ السينما وقدرته على تصوير تعايش
الشخصيات البسيطة مع السادة والرؤساء وربط قدم الأسطورة مع أحداث الساعة،
كما إن ميزة فيلمه تكمن في وضع هذه الحكاية في عالم واضح المعالم يحذو بنا
إلى معرفة أمرين:
يكمن أولهما في الحفاظ على الإرث التاريخي والسرد الخرافي بينما يتعرض
الثاني إلى زج هذه الأسطورة مع الحياة اليومية مانحاً إياها بعداً سياسياً
عبر ثيمتي سيادة الظلم الاجتماعي وصراع الطبقات الأزلي.
الإشارات:
1.مذهب التمامية: وهو مذهب يحاول الأحتفاظ بتمام النظام كالدين مثلاً.
2.اللهجة الدلفية: وهي لهجة عرافة ينسب إليها القيام بأشياء خارقة بأسم
أبولون في معبد دلف
المدى العراقية في
24/03/2009 |