اشكالية الزمن والحياة .. لحظات ابصار النور ..الاغفاءة الاخيرة ..خواص
الروح وتوقيتات تدفق نبضها في ثنايا الجسد ..دغدغة المشاعر وحفلة القلب
لأولى لمساتها ..حديث النفس الباحثة عمن يفك طلاسمها ..العيش بفاصلة ثابتة
البعد عن نطاق كل مجريات الحياة دون النأي عن ملامستها..تلك هي مثابات
الحكاية لفيلم الحالة الغريبة لبنجامين باتن . قصة قصيرة بالاسم نفسه
سطرها في العام 1921 بأربع وعشرين صفحة الكاتب الكبير أف سكوت فتزجرالد
(مؤلف رواية غاتسبي العظيم) هي الاساس الذي صنع منه اريك روث وروبن سويكورد
القصة السينمائية ومنها تولى روث نفسه وضع السيناريو لها (كتب سيناريو فيلم
الاوسكار فورست غامب) ، ماكتبه فتزجرالد يأخذ منحى الفكاهة الهزلية بمسحة
سوداوية ولكن روث وزميله حولا خط سير القصة بأتجاه معاكس نحو دراما غرائبية
موسومة بالرومانسية ذات منحى ميتافيزيقي في كثير من احداثها هي اقرب الى
المرثية ،فعلى مدى زمن وصل الى ساعتين و47 دقيقة يقدم المخرج ديفيد فينشر
دليلا على سرعة نمو مواهبه وقدرته العالية بتوظيف التقدم التقني في الشكل
الامثل من خلال خلق ثروة هائلة لدقائق التفاصيل مشكلةً الخلفية المؤثرة
بحياة الشخوص في صورة عامة للفيلم هي اقرب الى الواقعية السحرية لأدب
امريكا اللاتينية الروائي ،يتجلى ذلك منذ البداية حين ضرب اعصار كاترينا
الشهير قبل بضع سنوات العديد من الولايات الاميركية ،ففي نيو اورليانز ترقد
بالمستشفى ديزي (كيت بلانشيت) سيدة طاعنة بالسن وعلى مشارف الموت بقربها
تجلس ابنتها كارولين (جوليا اورموند) وسط ترقب الناس لغضب الطبيعة وحالة
الرعب التي يعيشونها ،باجواء الاستنفار الضاجة بالمستشفى تبدو هذه السيدة
الوحيدة التي تعيش جو الهدوء كأنها تنتظر امراً ترقبته منذ زمن بعيد ،تبدأ
في سرد حكاية ذلك الساعاتي البصير السيد غاتو الذي ذهب ابنه الوحيد ملتحقا
بأتون الحرب الكونية الاولى سالكا طريق اللاعودة وهو ماجعل قلبه ينفطر حزنا
على فقده ،يقرر اكمال صناعة الساعة الكبيرة التي ستوضع في محطة قطارات نيو
اورليانز ،في يوم الافتتاح يُكشف السر فجميع عقارب الساعة تسير الى الامام
الا عقرب الثواني وحده يسير الى الخلف ،لايدع السيد غاتو للدهشة التي غلّفت
مُحيا الحاضرين ان تطول حين يوضح ان تلك مرثيته لابنه ولكل الغائبين ،وهي
ايضا امنية عسى ان يسمح الوقت لنفسه بالعودة فيرجع معه الاحباب ،بعدها يغوص
بحزنه فيستقل قاربا صغيرا متجها نحو عرض البحر ويختفي هكذا قيل ،بهذه
الاقصوصة يشرع المخرج فينشر تأسيساً لرؤيته الفنية في تصور آلية سرد الاحدث
بلسان الراوي مع جزئية بسيطة انه سيتغير طبقا لسير الوقائع خلال الفيلم ،أبتدءاً
بصوت ديزي ثم كارولين حين تشرع بقراءة المذكرات وبلفتةٍ ذكية للمخرج ينطلق
صوت بنجامين باتن (براد بت)متماهيا من خلال صوتها للدلالة على مايربطهما(ابنته)
- ستكتشف ذلك لاحقا- شارحا تفاصيل حكايته ،فتوقيت ولادته صادف في يوم اعلان
انتهاء الحرب العالمية الاولى عام 1918 حين ترى السيد باتن والده (جيسون
فلمينغ) يهرع راكضا وسط هيستريا فرح اجتاحت جموع المحتفلين فيجد ان زوجته
قد وضعت طفلا وهي على حافة الموت ،يصدمه المنظر طفل حديث الولادة بجلد
متغضن كأنه عجوز في الثمانين ،يلتقطه بسرعة ودون تفكير يخرج به حتى يضعه
عند باب احد دور المسنين ،تلتقطه الشابة السمراء كويني (تاراجي بي هنسون)التي
تدير الدار فيحنو قلبها عليه وتتولى تربيته وتسميه بنجامين ،بعد مضي سبع
سنوات كان الصغير العجوز يجلس على كرسي متحرك لانه لم يستطع السير لحد
اللحظة مترافقا مع سكنة الدار يستمع الى خلاصة تجربتهم الحياتية ومنسجما مع
سكون النفس الذي تكون عليه الروح اواخر العمر،السحر السينمائي والتقنية
العالية لتركيب الصور وضعت امامنا وجه براد الذابل بفعل الشيخوخة كما قدمه
فريق المكياج المبدع على جسد متقزم يعاني امراض كبر السن رغم انه واقعا في
سني طفولته ،شكل قد لايثير فيك احساس البشاعة لغرابته قدر ماتكون ابتسامة
على جودة صنع ماتراه .في الثامنة عشرة من عمره يقرر السفر والتحاق بالكابتن
مايك (غاريد هاريس) الذي يأخذ بيده لتلمس الحياة واستطابة ملذاتها كاشفا له
عن وجه كينونته الذكورية ،وحين استقر بهم الحال وهم على اعتاب الحرب
الكونية الثانية متخذين من فندق في الاتحاد السوفيتي سكنا لهم يتعلم من
علاقته بأليزابث (تيلدا سوينتون) كيف يتحول التناغم في السلوك والوحدة الى
ود مؤقت ينجرف بسرعة نحو رغبة جسدية محمومة ،كان وقتها في العشرين من عمره
والستين كما يبدو شكلا ،في طريق العودة الى الوطن بعد دخول اميركا الحرب
يعيش بنجامين شيئا لم يألفه من قبل انها لحظات الموت ومشاعر التشبث بالحياة
.السيناريست روث والمخرج فينشر اعطوا لقصة فتزجرالد صورة فاتنة من خلال
التركيز على علاقة الحب بين بنجامين وديزي –المستغرقة لحيز كبير من الفيلم-
الفتاة التي اصبحت راقصة بالية شهيرة بمدينة نيويورك وهو الذي عرفها صغيرة
بعمر السابعة فتعلق بها لانها ببساطة كانت الوحيدة التي عاملته كطفل حينها
رغم شكله العجائزي، بعد عودته تشهد علاقتهما مدا وجزرا حتى تكون اصابة ديزي
في باريس بحادث سيارة ،ففي مشهد مونتاج يمثل القيمة الفنية العالية
للعاملين في الفيلم يقدم لنا فينشر قصة الحادث الذي انهى حياة ديزي المهنية
بأحساس كبير ورؤية سينمائية مميزة ،يسرح الفيلم بعيدا بتفاصيل علاقتهما حتى
تشعر انه ضاع في ثناياها بأداء غير مسبوق لبراد بت الذي يظهر لنا النضوج
الكبير في النوعية والشكل لنمط اسلوبه في التمثيل مع كيت بلانشيت الوهج
المتألق لجوهر الفيلم بتجسيد ينساب صافيا كماء رقراق ،ماجعل حبهم يرتفع الى
مديات لانهائية يسيران فيها مع تغيرات الحياة ولكن بفاصلة نأي صغيرة تكون
الهامش الذي يستقران فيه ،حب هو أسمى من اغتيال كينيدي ،حركة الحقوق
المدنية ،حرب فيتنام ،غزو الانسان للفضاء ،اغاني البيتلز وكل مايدور
بالدنيا ،لحظات السعادة هذه تبدو قلقة ويأخذها الانحسار بعد ولادة كارولين
حين يقرر تحويل كل الاملاك التي تركها له والده الى اموال يضعها بحساب
مصرفي بأسم ديزي والابنة ويغادر المنزل الى المجهول ،فبنجامين الذي ادرك
منذ زمن حقيقة حالته لايستطيع ان يسبب صدمة لابنته بعد ان يأخذ الزمن فعله
فتراه يصغر وهي تكبر ،في الختام وبعد سنين طويلة تجده ديزي صبيا لايذكر
شيئا عن حياته السابقة سوى ماوجد في حقيبته دفتر مذكراته وعنوانها ،هنا
تنعرج عواطف ديزي وحبها الكبير له الى مشاعر امومة فتعتني به وتحنو عليه
حتى اللحظة التي يُغمض فيها بأغفائته الاخيرة وهو الرضيع الساكن في حجرها
،فأضحت الطفولة هي مسرح الختام للحظة فراق الروح الجسد حينها كانت الساعة
التي صنعها السيد غاتو قد تم استبدالها بأخرى احدث .حكاية ملحمية تتأمل
عجائب الوجود من الولادة والموت ومابينهما اكسير حياة البشر مشاعر الحب تلك
هي الحالة الغريبة لبنجامين باتن
المدى العراقية في
24/03/2009 |