ضمن تجربتين مهمتين لي خضتهما مع المخرج جعفر علي، كنت فيهما الداينمو-حسب
جعفر علي- الذي ساعد على انضاج تلكما التجربتين، التجربتان هما: مسرحية (فيت
روك) للكاتب الأمريكي: ميكان تيري، ترجمها وأخرجها جعفر علي، و(أين تقف)،
من تأليف واخراج: جعفر علي. الأولى تحدثت عن الحرب الفيتنامية-الأمريكية
(جون مكين، أحد مرشحي انتخابات الرئاسة الامريكية الأخيرة كان واحدا من
ابطالها)، عنوان المسرحية مركب من مقطعين هما: (فيت) وتعني القسم الأول من
(فيت نام) و(روك) وهي أيضاً القسم الأول من (روك آند رول)، والمعنى
التركيبي للكلمتين، وحسب ما شرحهما لي جعفر علي تعطينا فكرةالعمل المسرحي
وكما يلي: «ان تلوي الأمريكي، على أنغام موسيقى الـ (روك آند رول)، شبيه
بتلوي الفيتنامي برصاص الامريكان، في الحرب الفيتنامية-الأمريكية».
أما المسرحية الثانية (أين تقف)، فهي جاءت كرد فعل ايجابي بعد تأميم نفط
العراق في العام 1972 وانحياز الكاتب لفعل التأميم كقرار وطني في صالح
العراق، وانطلاقا من تصوره الكاتب-المخرج بأهمية الحدث الكبير لأن يكون نفط
العراق في خدمة العراقيين، أطلق التساؤل التالي الذي وضعه كعنوان للمسرحية،
(أين تقف) من هذا القرار؟ أملا في حسم ما ساد من مخاوف بعد اتخاذه، وما دار
من أسئلة واختلافات في وجهات النظر في حينه، لقد كان البعض من تلك الاسئلة
مترددا، من احتمالات العدوان على العراق، بسبب خطورة قرار من هذا النوع.
من هنا انطلقت في انحيازي الى المبدع جعفر علي باعتباره، وطنياً مسكوناً
بحب العراق، إضافة الى كونه مبدعا متعدد المواهب، موسوعياً، كاتباً،
شاعراً، يجيد الترجمة، إضافة الى كونه المخرج السينمائي والمسرحي، والرسام
والمؤلف الموسيقي، والعازف، والتدريسي، والاداري، والمصمم الذي صمم كافة
مناظر المسرحيات التي قدمها واشرف بدقة على تنفيذها.بالاضافة الى صفاته
الخاصة فهو يتمتع باللباقة، وهو المرح، الساخر، الذكي بلا حدود، المفكر،
القائد، المنظم، المتواصل مع العالم، المتفتح، الشجاع، المتحايل على الظرف
الصعب، المتباهي بالوطن-المسكون بالعراق، العراق الذي مات في حبه.
ينطلق جعفر علي من اعتبار، أن الكاميرا صورة مجازية للعين، والعين صورة
مجازية لرؤية الفنان الكونية والشعرية، هذا الفهم المتقدم للعمل والحياة،
جعله يتعامل مع السينما في كونها اللغة الأكثر شجاعة وايصالا لأفكاره في
ايصال الحقيقة، وفي مقارعة ما يستجد عنده من خصوم، هكذا راق لي ان تكون
البداية في الكتابة عن جعفر علي، أي من مكانة السينما التي أحبها كثيرا،
وناضل من أجل أن تكون مؤثرة في العراق، ولو بالإمكانات المتواضعة غير
المشجعة، فصنع وبالإمكانات البسيطة أول فيلم انتجته الدولة-السينما
والمسرح-وهو فيلم (الجابي)، وأسس للسينما والتلفزيون أول قسم علمي في
أكاديمية الفنون الجميلة هو (قسم السمعية والمرئية 1973)، طامحا في يوم من
الايام أن يكون القسم معهدا عاليا للسينما يرفد العراق بالكوادر العلمية
المتمكنة من قيادة السينما في العراق، معهد يقف بجدارة امام أهم معاهد
السينما في العالم، وهومن ترجم للسينما واحدا من أهم الكتب السينمائية (فهم
السينما-لمؤلفه: لوي دي جانيتي) الذي استهل مقدمته بقول أثير للمخرجة
السينمائية الأمريكية (مايا ديرن)، في أن « للسينما مدى تعبيري غير
اعتيادي، فهي تشترك مع الفنون التشكيلية في حقيقة كونها تكوينا مرئيا يسقط
على سطح ذي بعدين، ومع الرقص في قدرتها على معالجة الحركة المنسقة، ومع
المسرح في قدرتها على خلق كثافة درامية للأحداث [ ..... ]».
من هنا يمكننا معرفة الأهمية التي يعنيها المسرح في نفس جعفر علي. ومثلما
قدم للسينما الكثير، كذلك قدم الكثير للمسرح.
لقد ظهر جعفر علي في واحدة من اهم المراحل الثقافية التي مر بها العراق
والمنطقة صعوبة، حيث كان الغزو الثقافي الجميل في قمة ألقه يقيم ظلاله
الوارفة على العراق والمنطقة. فالثقافة الوافدة المحفزة لأن يكون للعراقيين
ثقافتهم الخاصة في أوجها شكلت حافزا على عموم المثقفين العرب وفي مقدمتهم
العراقيون مع قليل من الخوف يشوبه الحذر، وان شئت اعكسها لتصبح، الحذر
المشوب بالخوف، لكنه خوف غير مصرح به، فستينيات القرن الماضي شكلت انعطافة
خطيرة على كامل الجيل من تلك المرحلة، نتيجة الأحداث الكبيرة التي مرت بهم
وقتذاك، ان الذي مر بها جيل ماقبل تلك المرحلة المتهم بسكونيته، التي لم
تعرف الانفلاتات الثقافية الا ما ندر، قاد ذلك الخروج على المألوف وما
صاحبها وجاورها من نزاعات جيل خطير، سجلت له، ولصالحه المرحلة بأكملها
وبجدارة، انه (جيل الستينيات) المشاكس الخطير، ولم يكن (جعفر علي) الا
واحدا من أبرز رواد ذلك الجيل الستيني الذي ساقه غياب حبيبته (السينما)
وشحة الإنتاج الفيلمي، لأن يدخل المسرح، ولم يدخله خانعا، ضعيفا كونه
مجالاً آخر غير عالمه، بل يتضح أنه كان متسلحا لأن يكون واحدا من قاماته
العالية، وبكل جدارة، وفهم، ودراية. دخله بقوة، أسس له (فرقة مسرح اليوم)،
التي وقفت بتحد أمام اهم الفرق المسرحية العاملة آنذاك من أمثال: فرقة
المسرح الفني الحديث، والفرقة الشعبية، وفرقة 14 تموز، وسواها من الفرق
التي ساهمت في تأسيس وبناء الحركة المسرحية العراقية.
كان يندر ان تجد بين الفنانين مثقفا بجلال وجمال، جعفر على، اذا ما فكر
الفنان ان يخوض غمار تلك الزحامات القاسية لابد له من ان يتنازل عن بعض فنه
ليماهي بين الفن والثقافة النقية، ولنا من الامثلة في ذلك الكثير يقف على
رأس القائمة جاسم العبودي ولن تنتهي بقاسم حول وفاروق اوهان. وعليه فان
جعفر على تألق في بحر موجة الثقافات التي ساهمت في تكوين المثقف العراقي
بشكل عام ومنهم الفنانون على مختلف مشاربهم الفنية من تشكيلية الى مسرحية
وسينمائية وغيرها، في تلك الفترة كان اكثرها تخلفا فن الدراما التلفزيونية
التي استفزت جعفر على فسعى للنهوض بها كي يوازيها ببقية الثقافات والفنون.
لقد اشير في هذه المرحلة-الستينيات والسبعينيات وما تلاها من سنين نشاط
جعفر علي- الى ان جعفراً واحد من أهم المثقفين الذين امتهنوا الثقافة
بمختلف توجهاتها، فهو في السينما والتلفزيون والمسرح الذي بالإمكان ان نضعه
في المقدمة من الاسماء التي لمعت في المسرح وكان لها شأن فيه يخشاه فيه
اساطين وكبار الأساتذة في فن المسرح، وكان له الرأي الفصل اذا ما اختلف في
قضية مسرحية فيه اثنان، وكما في المسرح هو كذلك في بقية الفنون، فهو في
جميعها يمتلك الريادة، وأضف عليها اهتماماته التخصصية في التأليف والترجمة
وكتابة الشعر والصحافة، ولا، لن يفوتني ان اذكر انه من المؤلفين الموسيقيين
وعازف ماهر لآلة البيانو والآلات اخرى، ولعل الدليل الاهم في هذا ألحانه
أغاني مسرحية (فيت-روك) ومسرحية (أين تقف) وتدخله المؤثر على مجمل أعماله
الفنية في مختلف المجالات. كنا نلمس فيه مميزات المرحلة التي تمر بها
الثقافة العالمية، كنا نجدها أمامنا في جعفر على، ولذلك كثر الشباب الذي
احاط به، كان هو المجيب عن تساؤلاتنا في اين نحن الآن من الثقافة في العالم
التي كان هو متواصلا معها من خلال متابعاته التي لا تنقطع مع الثقافة
العالمية، كان يتابع الجديد من خلال وسائل الاعلام والنشريات والدوريات
بمختلف لغاتها-كان يتميز بإتقانه لأكثر من لغة، على رأسها اللغة الانجليزية
بجدارة، قراءة وكتابة- كنا نتحلق حوله بكل صدق لمعرفتنا بما يملكه لنا من
جديد كطلبة من ذوي التطلعات في ما يجري من جديد في العالم، وكان هو السباق
في تقديم الجديد من المضامين الانسانية والاشكال، في الفن العراقي، وهل
يمكن ان نتناسى موقفه من قضية فيتنام وحربها الضروس مع امريكا، أو موقفه من
القضية الفلسطينية، ومواقفه الوطنية التي جسدها في اعماله مثل موقفه من
قضية تأميم النفط العراقي.. وغيرها ان ما تركه فينا من آثار هامة في الفن
والحياة نحن طلابه، الذين أستفدنا منه كثيرا، وأفدناه قدر استطاعتنا، كان
اول من جعلنا نتعامل مع العمل الفني كما البحث العلمي منه الى الممارسة
القريبة من الهواية فقط. كان لديه الكثير من الطموحات التي لم تتحقق، يقف
على رأس تلك الطموحات، (أن يتحول قسم السمعية والمرئية، الى كيان أكاديمي
قائم بذاته، وليس قسما في كلية).
ومن طموحاته (تأسيس ستديو للسينما والتلفزيون) يكون بديلا عن استديو بغداد
الذي أغلق ابوابه قبل ان تحقق السينما العراقية طموحاتها.
المدى العراقية في
17/03/2009 |