ان تقترن القسوة بالجمال، ان هي الا عملية غاية في التعقيد والصعوبة،
ولتحقيق ذلك ينبغي ان نضع ايدينا فوق مجسات خصبة في المعرفة والدراية، ان
واحدة من قصور معرفتنا بخارطة العالم هو جهلنا بتصفح هذه الخرائط، هناك
منجزين بواسل استطاعوا ان يرسموا حدود بلادهم بالاخلاص والمقدرة الفائقة
على انتزاع حرياتهم، فبدون ذلك (لايمكن العبور الى الجهة الثانية من
الطريق) .
متعددة طرق الابداع، وواحد من هذه الطرق هو طريق السينما، التي يقول عنها
اندريه بازان (تحل محل ابصارنا عن طريق يتطابق مع رغباتنا) لكن كيف يمكن ان
يتحول هذا التطابق الى استفزاز او صدمة ؟ لامناص في حالة كهذه من اللجوء
الى مصل المعرفة اذ هو الذي يعصف بكل تدوين باهت سجلته الملاحظة في لوح
ذاكرتك، اسوق هذه المقدمة البسيطة بعد مشاهدة ممتعة لشريط ارنديرا الذي
كتب قصته قبل سنوات غابريل كارسيا ماركيز واخرجه المكسيكي روي غيرا، في
كتاب سينما الحقيقة يذكر المؤلف ان هذا الفلم يكتسب اهميته من مؤلف الرواية
وواضع السيناريو له، لكني هنا اختلف مع الكاتب، صحيح ليس هناك فلم ارتقى
الى مستوى رواية الا ماندر، وان الافلام الكبيرة هي التي تكتب مباشرة الى
السينما، لكن هنا المخرج استطاع ان يتصدى ويقف ندا للكاتب ويعيد قراءة
الرواية بطريقة تختلف تماما عن الصورة السردية التي انجزها ماركيز، لقد كان
ساحرا ثانيا في امتاعنا بصريا، لانملك الا ان نصفق لهذه البساطة الصعبة في
حركة الكاميرا وروح الممثلين بتجسيدهم محنة الناس الاسوياء امام قسوة
الاراذل، البساطة، البيت تلتهمه النار، لانشاهد البيت يحترق لكننا نرى
نتيجة رائعة، ستارة يلامسها لهيب شمعة، يغلق المخرج العدسة ثم يفتحها على
هشيم، لقد اتت النار على البيت بكامله ، احترق، بساطة كبيرة وحس عال، عميق
المعنى،، في احاين كثيرة تقودنا الحاجة الى الابداع، الاستعاضة ببديل يهز
معرفتنا، هذه هي صفة هذا الفيلم، فتكاليف انجازه بسيطة تماما، لكن في
المقابل يقف خلفه مخرج برأس شاعر، لم تكن السينما المكسيكية معروفة من قبل
العالم، لكن اصرار البعض من السينمائيين جعل العالم يرحب بهم في مهرجاناته
الكبيرة، وهاهو المخرج روي كيرا يدخل بقوة في الكثير من المهرجانات عبر هذا
الفيلم،، يفتتح الفيلم بمشهد نرى فيه قبرين وسط صحراء، تنسحب الكاميرا الى
الخلف ، بقطع سريع الى قفا امراة (ايرين باباس) تستحم حيث تسهر على راحتها
حفيدتها الصغيرة،، يقول ماركيز (في احدى الليالي كنت في جزيرة مهجورة في
الكاريبي، والتقيت بطلفة في الحادية عشرة من عمرها ومعها امراة، ربما كانت
جدتها، لقد كانت تجبرها على ممارسة الدعارة، كانتا تتبعان الاعياد الدينية
لكل قرية وتذهبان اليها اثناء احتفالاتها، ينصبون الخيمة ومعهم الموسيقيين
والكثير من الشراب، كنت ايامها في السادسة عشرة من عمري وكانت بوادر
احترافي الكتابة قد بدأت، ظلت هذه الصورة عالقة في ذهني ، الفتاة بقيت
تطاردني، لقد هزتني من الاعماق،، انها مخلوقة رقيقة تحترف الدعارة بلا
ارادة منها،،) قصر مؤثث بشكل كبير، تسيطر عليه امراة عجوز، حفيدتها لاتملك
سوى ان تقول نعم، اوامر تاتي، وياتي معها الجواب بلايجاب، ممنوع الرفض، حتى
في نومها تردد نعم، طلبات العجوز كثيرة امام هذه العصفورة الصغيرة، اضناها
التعب ذات مساء، انكفات على وجهها ونامت، انكفات الشمعة التي تحملها بيدها
لامست الستارة المعلقة، احترق القصر، , لكن العجوز لاتزال تجلس وسط اكوام
الحرائق والنفايات، عليك ان تدفعي كل خسائر البيت من جسدك،، التعويض يجب ان
يكون منك انت، يزنها البقال، انها لاتزيد عن اربعة واربعين كيلو غراما،
يحدد لها ثمن رخيص، تصرخ العجوز ، انها مع بكارتها تساوي الكثير، يدخلان في
مساومة يحسمها البقال لصالحه، يطرح الفتاة، تصرخ، تصرخ، تظل تصرخ، ثم تهدأ
حيث لامقاومة ولاانفعال، لقد قضي الامر، هاهي مفتوحة العينين لكل قادم اخر،
تستسلم ببرود قاتل، وكأن الامر ليس مع جسدها، لوح خشب تحولت، يزداد عدد
الزبائن، يتحول الى طابور،، من الصباح وحتى وقت متاخر من الليل، هذه الليلة
تمكن صبي بعمر الفتاة ان يتسلل الى خيمتها، الى قلبها، الى عمق رقتها
وانسانيتها، انه الحب، وسط هذا الجدب الذي تحمله الصحراء، تستسلم له
تماما، ولاول مرة تتحدث هذه الفتاة، هذا الصبي الملهوف اوجد لها ادميتها،
في الصباح الباكر يأتي رجال الدين وياخذون الفتاة لتعيش في دير، تبقى
العجوز وحيدة في خيمتها وسط وهج الصحراء،، تتوسل العجوز، تتوسط في استعادة
الفتاة وتفلح، وتستلقي الفتاة مرة اخرى فوق السرير وتخمد جذوتها، يحاول
الفتى ان يقنعها بالهرب معه، يحاولان، لكن المحاولة تبوء بالفشل، عقله
يتفتق عن اجراء رائع، لقد وضع بعض السم في طبق الحلوى المعد للعجوزوالذي
تاتي عليه باكمله، وفي مشهد من اعذب المشاهد وارقاها اختزالا استطاع المخرج
ان يختزل اليوم باكمله في دقيقة واحدة وبلقطة واحدة، العجوز تاكل الحلوى،
تتسمم، تشعر بالغثيان، تقوم من كرسيها، تتحرك باتجاه السلم، تتحرك معها
الكاميرا، تستلقي فوق السرير، تخفت الانارة، تنام، تتوهج الانارة مرة اخرى
لياتي يوم جديد، العجوز لم تمت، تصحو، تنزل الى الاسفل، تنزل معها
الكاميرا، هاهو الصباح مرة اخرى، انه مشهد آسر نفذه المخرج بطريقة ذكية
معتمدا على الانارة وحركة الكاميرا، انه واحد من اجمل المشاهد التي
لاتغادرها الذاكرة،، لاادري لماذا يصر الاراذل في البقاء على هذه الارض مدة
طويلة ؟ يمارسون احقادهم، ولا انسانيتهم تجاه البسطاء، لم تمت العجوز من
هذا السم، لكن شعرها بدا يتساقط، يجن الصبي، يفجر الدينميت وتشتعل الخيمة،
والعجوز لاتزال على قيد الحياة،، الشرور لاتغادر بسهولة،، ينقض عليها
ويطعنها بسكين ، يتدفق الدم بغزارة، دم لونه ازرق، الفتاة تنظر في كفها،
خطوط الكف تتوسع وتكبر وتتحول الى صحراء مترامية الاطراف، تجري الفتاة
وتنزع عن العجوز كل قطع الذهب، تجري بكل قوتها وسط الصحراء، صحراء يجاورها
بحر، انها تسير في الاتجاه المعاكس، الى الصحراء،، تتحول اثار اقدامها على
الرمل الى اللون الازرق، الصبي ينادي على الفتاة، الفتاة لاتسمع، الفتاة
تتلاشى وكانما الصحراء قد ابتلعتها، الى اين، ؟ الى اللاشي، الى الانعتاق،
الحرية، الى فضاء اخر، عالم اخر تجد فيه راحة الجسد، ان اهم مايميز الفيلم
هو شاعرية الكاميرا وحركتها المنسابة وبراعة المصور والانارة التي كانت
تنافس حتى اداء الممثلين، اعتمد المخرج على حركة (الشاريو) كثيرا وقد تفوق
و يصعب ان تجده في افلام اخرى، برعت ايرين باباس بدور الجدة المتسلطة،
وكذلك الحفيدة كلايدبا اوهانا، هذا الفيلم هو درس بليغ على البراعة التي
حرك فيها المخرج خيوط لعبته ونأى بعيدا عن قراءة ماركيز للرواية.
الإتحاد العراقية في
16/03/2009 |