قبل الرئاسة:
شاهدنا في السينما المصرية أفلام كثيرة جدا ترتكز في ثيمتها الأساسية
على بؤرة الفساد الإداري المتفشي في الجثة الاجتماعية والسياسية العربية
منذ عقود , فنطلق صناع السينما المصرية قبل غيرهم يعبون من هذا البئر الآسن
الذي يتحدى النضوب ,يشخصون العفونة بأدواتهم السمعية والبصرية ويحاولون سبر
أغوار هذا المشكل الشائك والمعقد لعلهم يتوصلوا من ثم إلى تفكيك بنيته
وتصديع لحمته عبر التحليل والتنقيب والتساؤل والنقد , وقد اختلفت أساليبهم
وتنوعت آراءهم ورؤاهم وفقا لاختلاف زاوية النظر وتعدد شبكة القنا عات
والمنطلقات التي تحكم ثقافتهم , وقد طال تشخيصهم كل الحقول الحكومية
والمدنية التي استشرى فيها الفساد ألا انهم بقوا ولمدة طويلة بعيدين عن
البلاط الرئاسي ذا الخطوط الحمراء خصوصا في رقعته الكر سوية التي يعتلي
منصتها شخص الرئيس, لكنهم من جهة اخرى تجاوزوا مع هذا لبقية غرف واقسام
البلاط الاخرى لعل أوضحها منصب الوزارة وكان اخطرها واكثرها مساسا مباشرا
لهذا المنصب الذي يعد من قسم المقدسات الثانية بعد الرئاسة في اغلب الدول
العربية, لكن الفنانين والمصريين عموما استطاعوا ومنذ فترة طويلة اختراق
سور قداسته بقوة وشجاعة تحسب لهم , ابتدات هذه المباشرة الصريحة مع فيلم
(على باب الوزير) الذي لعب دور البطولة فيه الفنان الراحل القدير (احمد
زكي) وهذا الفنان يصعب جدا تكرار نسخة ثانية له في السينما المصرية
والعربية في الوقت الحاضر على الاقل ...وتوالت بعده الادوار التي تسلط
الضوء على هذا المنصب بالأصالة او التبعية ثم تكثفت لرسم الملامح السياسية
العامة خصوصا مع النسخة الفريدة للنجم السابق في فيلم (المطارد )عبر شخصية
البطل الصعيدي وقد لخص احد نجوم الفيلم الثيمة الاساسية لما تستبطنه
الرسالة الفيلمية اذ يقول الشخص المقرب من المخابرات المصرية في الفيلم وقد
تلقى تدريباته في اميركا وهو في صدد اقتراح حل سياسي لانقاذ الموقف
الاجتماعي والساسي المتردي فيلخص اللعبة التي تثير القضايا المبهمة والتي
شغلت الشارع مدة زمنية ثم خفت بريقها فيسعى المستشار الاستخباراتي الدولي
لاقتراح اعادة احيائها لكي تصرف انظار الشعب بعيدا عن مصالح انية خطيرة وهو
يسمي هذه اللعبة بذكاء (عصا موسى),ولم ننسى ايضا بان النجم الراحل قد لعب
دور الرئيس المصري السابق (السادات) الا ان ذلك الفيلم جاء كتوثيق لفترة
رئاسته وطروحاته والتزاماته السياسية بعيدا عن أي قرائة تحليلية ونقدية
لذلك نحن تجاوزنا ادراجه في الافلام التي نستطيع تسميتها ب(الرئاسية)..
زواج بقراره:
يطل علينا الرئيس المصري بشكل مباشر العنوان والدلالة مع فيلم (زواج
بقرار جمهوري) بطولة (هاني رمزي ) الذي يكتب رسالة يدعوا فيها الرئيس لحضور
حفل زفافه المرتقب منذ عقود -من باب الدعابة- لكن الرسالة تصل إلى الرئيس
ويقرر تلبية الدعوة , ويحضر فعلا في أخر الأمر بعد أن تقوم حاشيته
بالممارسات الدكتاتورية المعروفة من تطويق الشوارع وتقيد الحريات وما
يتزامن معها من اختراقات وتجاوزات على القانون والمواطن بحجة حماية أمن
الرئيس , والقاء اللائمة على عاتق الحاشية أمر احتياطي فني بارع لاحتواء
المباشرة في التصريح بالأزمة الحكومية العليا وتغليفها (بسليفون) الحاشية
حفظا لنجاح العرض وضمان السلامة الحياتية والمعيشية من سطوة مقص الرقيب ,
وتستمر هذه التغطية حتى نهاية الفيلم إذ يسلم الرئيس ,الذي لا يظهر في
الفيلم بشكل كامل و يحضر بطيفه حماية لأي تجاوز قد يمس جانبه ,مجموعة كبيرة
من الرسائل التي تحوي على الشكاوي والهموم التي تصطرع بنفس المواطن المصري
وتبلبل حياته وتسلب هناء عيشه وراحة باله وهنا تتكاثف اللائمة على الحاشية
ويبدوا واضحا أن الرئيس لا يعلم بأي شي من أحوال الشعب لان الحاشية تغطي
علية ولا توصل له الحقيقة ,وفي أول ظهور كامل لشخص الرئيس وبطريقة جريئة
يطل علينا فيلم (ظاظا) بطولة رمزي أيضا , والفيلم ينطلق من زاوية حساسة
وخطيرة تغازل اكثر الكراسي العروبية إذ يحقق الضغط الشعبي والعالمي نجاح
ساحق في فتح المنافسة على كرسي الرئاسة بترشيح فرد عادي من أفراد الشعب
ليخوض الانتخابات الرئاسية ,والفيلم يظهر الرئيس بطريقة مباشرة وواقعية
بدون أي تلميع أو مواربة فهو قلق كثيرا على عرشه العاجي ويخشى أن يفقده
اكثر مما يخشى أن يفقد أبنائه أو وطنه فيضل يراقب بقلق منافسه الذي ادخل
المنافسة من باب ذر التراب بالعيون وإسكاتا لأصوات الشعب الملحة والمطالبة
بالتغير وإلجاما للرأي العالمي أيضا
ويخوض الرئيس حربا انتخابية مع مرشحه الذي بدا يسحب البساط من تحت
أعقابه الحديدية ويظهر الرئيس وهو ساخرا وساخطا من منافسه في الجولة
الإعلامية وأخيرا ينجح (ظاظا) في اعتلاء سدة الحكم, والفيلم جيد من كل
الحيثيات الفنية تقريبا مع بعض الملاحظات الجانبية التي يكاد لا يخلو منها
فيلم مصري تحديدا , ألا انه توجد مؤاخذة تتعلق في البناء السردي أو
السيناريو الذي أنجز فيه الفيلم إذ صور البطل المنافس للرئيس بكونه شخصية
تافهة ومفرطة بالسطحية والبساطة وطيبة القلب مما يسبب له الخسارة السياسية
المبكرة حيث يتم التلاعب معه من جهة عبر مناورات خفيفة من قبل وزرائه وصناع
منصبه وحينما يبدأ جديا في التصدي لسبل الفساد مبتدءا من قصره يصار إلى
التخطيط للإطاحة بعرشه عبر التصفية الجسدية وهو الأسلوب الدموي الوحيد
لتغير الرئاسة العربية منذ وقت طويل ولم تعرف الشعوب العربية تغيرا غيره ,
وبهذه النهاية المأساوية للرئيس الجديد تعلق في وعي المتلقي السينمائي فكرة
عبثية التخطيط الجدي بالأخذ بالرئاسة إلى تخوم الإصلاح الاقتصادي والسياسي
والاجتماعي , وكأن مصير القتل لن يطال الحكومات الدكتاتورية كما هو حاصل
وواقع في التاريخ, وتنتج هذه العلائقية من الغفلة المؤسفة في وعي السنا رست
الذي كتب الفيلم , بغض النظر عن ذلك وعن بعض الحشو الزائد واللقطات المملة
القليلة نستطيع أن نقول أن الفيلم أنجز بشكل جيد من ناحية الإخراج والتصوير
واهم شيء انه جاء بأسلوب كوميدي ساخر فنجح بإيصال الفكرة وتلطيف أجواءها .
الطباخ والطقس التكراري:
ضع سبابتك على لسان مزمار الذاكرة الفيلمية المصرية ,ستقيأ فورا
بعشرات النسخ المكررة في كل أفلامها تقريبا وهي تؤشر لازمة السكن بشكل مقرف
مباشر ومستهلك إلى حد انزعاج الذاكرة البشرية والذائقة الفنية من لقطات
الأزمة وتصويرها اكثر من الأزمة نفسها , عشرات الأمثلة بتكرار عجيب وغريب
لنفس الثيمة الراكدة رجل يريد أن يستمتع مع زوجته جنسيا لكن هناك أطفالا
كثر ينامون إلى جانبه في البيت نتيجة لاشتراك عائلة أو عوائل في بيت واحد
كما هو شائع في المجتمع المصري , وكأن السكن والبيت مراد من اجل الممارسة
الجنسية فقط وليس هو ضرورة حياتية وحق أنساني واجتماعي لكل مواطن يريد أن
يستظل بسقف يقيه غوائل الزمان , وحتى الأطفال لا تظهرهم جل الأفلام المصرية
بوضع مأساوي نتيجة اشتراكهم بالزحام الجسدي المتراكم والمتراص بالأجساد
البشرية بمختلف الأعمار فتغيب تبعا لذلك عوالمهم الطفولية بكل أشكالها
وألوانها , فلا غرف خاصة ولاحوائج الطفولة البسيطة والألعاب المهمة التي
تحفز مخيلتهم وتغني طفولتهم المرهفة , بل انهم يظهرون في الأفلام عموما
بأنهم أوفر حضا من الكبار حيث هم سعداء بهذا الوقع وربما يشعرون بحميمة
التكاثر السكاني المنزلي اكثر من الكبار, ولذلك يضحكون ويمرحون وبمنتهى
السعادة, نفس الأجواء الكلاسيكية يزج فيها متولي الذي يصبح لاحقا (طباخ
الريس) في الفلم الذي حمل هذا العنوان المباشر وهو من إنتاج العام 2008 أي
بعد سنتين من المدة التي انتج فيها فيلم (ظاظا) والفلم بشكل موجز
تكرارللثيمة الظاظوية من حيث إظهار الرئيس بشخصه دون استتار أو تلميح لكنه
هنا يقوم بنفسه بالبحث عن المشاكل الجماهيرية التي تخفيها الحاشية عليه ولم
ينتظر أن يصرخ به مواطن كادح لك ينزل إلى الشارع ويشاهد واقع شعبه المتردي
كما في ظاظا, لكنه يعود إلى فكرة الحاشية كما في (زواج بقرار جمهوري),
فالطباخ متولي يصبح عين الرئيس التي تنفتح على المشاكل الاجتماعية
والاقتصادية التي تصر الحاشية الوزارية إخفائها عن الرئيس , وبالرغم من هذه
المواربة التي تبدوا من أول وهلة أنها تتحاشى النقد المباشر لشخص الرئيس من
خلال استعادة قالب الحاشية والقاء كل المسؤولية عليها , ألا أن التعمق
قليلا في هذه المواربة يظهر براعة فائقة بالتستر الفني وراء الإشهاري
والسطحي إذ أن الرئيس الذي لا يعلم شيئا عن شعبه وما يدور في عصره وابناء
عصره ليس هو بالرئيس المؤهل لقيادة الشعب , ومن جهة أخرى ينهي الفلم بقوة
الفكرة الضبابية الغائمة التي يستتر ورائها اكثر السياسيين والقادة والتي
تظهرهم بشكل البريء الذي لا يتحمل مسؤولية ما يجري لان الحاشية فاسدة وتضلل
أصحاب القرار فيؤكد صناع الفيلم بشكل واضح سذاجة هذه الفكرة فالرئيس يستطيع
أن يتعرف على كل ما يجري من خلال طباخه أن صعبت عليه الوسائل الأخرى وعلى
ذلك يبدوا الفلم اكثر استتارا من ظاظا لكنه يستبطن نقدا حادا ولاذع , ألا
أن الفيلم من الناحية الفنية اقل كفاءة من ظاظا بكثير وكأن صناعه اكتفوا
بقوة فكرته عن تحسينه إخراجيا وتصويريا وكأنهم عاجزون عن الإبداع بكل
الجوانب الفيلمية
خاتمة: توجيه وتنبيه
في نهاية هذا العرض المختصر لآخر منجزات السينما المصرية صاحبة
الإنتاج الأول عربيا , يطيب لي أن أشير ببعض الإشارات المتواضعة فبالرغم من
أن هذه السينما أنتجت أفلام رائعة خصوصا بعض أفلام عاطف الطيب وبرز فيها
أيضا ممثلين كبار أمثال الراحل محمود المليجي والراحل عادل ادهم والراحل
احمد زكي إلى بعض النجوم المتواجدون الآن في الساحة السينمائية العربية ,
ألا أن السوسة التي نخرت ولا تزال في جسدها المتهاوي هي جرثومة التكرار
والتسطيح والفنطزة التي ليس لها ما يماثلها كبعض أفلام الراحل(يوسف شاهين)
وبعض الأفلام الأخرى التي يبدوا أنها صنعت في معامل الغثيان الوجودي
الفرنسي الذي يعتبر الإنسان عاطفة وانفعال بلا ضرورة أو جدوى وبالتالي يصبح
الإنسان والكون بأجمعه فظلا عن السينما محطات للتهريج والتعبيث حد القرف
بشهوة العدمية والفوضوية والبوهيمية , فيجب الانتباه إلى هذه النقطة وألا
غطت السينما المصرية في هاوية سحيقة بعد أن وصلت إلى حافتها , ويبقى علي من
باب المسؤولية الإنسانية والفنية أن الفت انتباه السادة القائمون على فيلم
(طباخ الريس) إلى ظاهرة غريبة ومؤسفة فنيا واقتصاديا إذ أن هذا الفيلم الذي
يعرض الآن في السينما قد تم تصويره بكاميرا فيديو , شخصيا رايته وأنا جالسا
في مكاني من خلال نشره على شبكة (القرصنة الانترنيتية) بعد أن بثه أحد
الأشخاص وهذا الإهمال الخطير يطرح اكثر من تساؤل فإلى أي مستوى مترد وصل
حال الصالات السينمائية المصرية بحيث يقوم أحد المتفرجين بإدخال كاميرا
فيديو وتصوير الفيلم ؟ وهل يا تري لم يراه أحد من المراقبين في الصالة؟ أم
أن العملية مقصودة ؟ فمن هو وراء إغفالها؟ وهل حدث ذلك بطيب نية أم بسوئها؟
على أي حال أحببت أن الفت وانبه على هذا الأمر الخطير وتبقى الإجابات في
ذمة المسؤولين والمعنيين ..
أدب وفن في
11/03/2009 |