عزيزي القارئ لن أمارس معك هذه المرة لعبتي المفضلة في إخفاء رأيي
النهائي لآخر فقرة من المقال . فأنا في منتهي الحماس لهذا لفيلم الجميل
الممتع نجيب الريحاني.. في ستين ألف سلامة الذي وقعت في غرامه من أول
مشاهده و الذي أراه قطعة فنية نادرة أبدعها الدكتور محمد كامل القليوبي
بإخلاص شديد وحب غير عادي . وهو يحقق بهذا العمل إضافة حقيقية لتاريخه
الفني والأكاديمي كمخرج مبدع وباحث مدقق . ويصل في هذا العمل بالفيلم
التسجيلي المصري إلي مكانة أكثر تقدما و يكشف الغموض عن الكثير من حياة
فناننا العظيم ويحقق ما لم يصل إليه كل من سبقوه في دراسة سيرة وفن
الريحاني بداية من أستاذنا الكبير د. علي الراعي وحتي كاتب هذه السطور الذي
سبق له كتابة دراسة لهيئة قصور الثقافة بعنوان الريحاني بين لغة السينما
والكوميديا الريحانية .يلقي الفيلم الضوء علي جانب غامض من حياة الريحاني و
بالتحديد حكاية ابنته جينا التي أطلت علينا فجأة ضمن فعاليات مهرجان
القاهرة في دورة أهديت لروح الفنان لتتلقي درع تكريمه ولتلقي كلمة جميلة
ومعبرة بتأثر بالغ أثار إعجاب البعض ولكنه لم يله الكثيرين عن التساؤل
المشروع من أين جاءت هذه المرأة وكيف غابت طوال هذه السنين لتظهر فجأة دون
أن يسبق ذلك أي تمهيد ، خاصة والكل يعتقد أن الريحاني لم ينجب أصلا . شكك
الكثيرون في ادعاء المرأة بنسبها للريحاني بل وقرر البعض أن المسألة كلها
محض كذب وافتراء وأن هذه السيدة بأدائها المؤثر ليست إلا ممثلة بارعة
استطاعت أن تخدع إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي التي وجدتها فرصة
لتحقيق مفاجأة مبهرة في حفل المهرجان . ولكن لم يسع أحد للبحث وراء هذه
المرأة والتحري بدقة لمعرفة هل هي صادقة أم كاذبة ؟ قد يري البعض أن
المسألة لا تستحق عناء البحث ، أو أن يصنع حولها القليوبي فيلما تسجيليا
يستغرق عرضه حوالي ساعتين إلا الربع. ولكني في الحقيقة أراها قضية في منتهي
الأهمية ليس بخصوص جينا الريحاني فقط ولكن بشأن مسألة تحري الصدق في
مجتمعنا بوجه عام. وعلي الرغم من قيمة هذا الموضوع وأهميته القصوي في نظري
إلا أنه يشكل أيضا في هذا العمل نقطة انطلاق مهمة لفيلم من أجمل أفلامنا
التسجيلية التي شاهدتها مؤخرا والذي يمكنك علي الرغم من بساطته الشديدة أن
تستشعر ما يعكسه من عمق في الرؤيا والصورة وأن تتأكد من أنه عمل يليق
بالسينما في رحابته وتعدد أعماقه .. وبما يفتحه من آفاق واسعة لعالم كبير
ملئ بالأفكار و المشاعر . فأجمل ما في الفن هو أنه يجعلك تلقي نظرة علي
الحياة بعيون جديدة ومن زوايا مختلفة حتي ولو أدي ذلك لشعورك بالدوار أو
الاختناق للحظات فيكفي أنك تعيش حيوات أخري وتخوض تجارب جديدة و تتغلغل
داخلك مشاعر فياضة بحب البشر والحياة وتتخلص ولو للحظات من ذاتك المملة
وأنانيتك المفرطة. يستعرض الفيلم جوانب مهمة وكثيرة من حياة فناننا نجيب
الريحاني الذي مازال يبهرنا بأدائه التمثيلي الذي يعتبر حتي يومنا هذا ضمن
الأكثر تقدما ورقيا في مجاله والذي وصفه الموسيقار الراحل الكبير محمد عبد
الوهاب في مقال بمجلة الكواكب سبتمبر 1949 قائلا لا أكاد أتخيل شيئا غير
عين الكاميرا يمكنها أن تسجل في أمانة هذه القدرة التعبيرية ، وأقولها وأنا
لا أري شيئا غير الشاشة يمكن أن تعرض ذلك في اتقان فتقرب وتبرز لك أدق حركة
من حركاته و ألمع لمحة من لمحاته وأرق نبرة من نبراته . فالريحاني لم يكن
جسدا يتحرك فقط ليراه المشاهد من مقاعد الصف الأخير أو أعلي التياترو كما
يراه المشاهد في الصف الأول ولكنه كان روحا يجب أن تلمسها لمسا بإحساسك فلا
تجهد نفسك معها وإلا فشلت في تتبعها . السينما فقط ترفع رأسها فخورة بأنها
تقدم الريحاني حيا مجيدا . عندما تري جينا وهي تتحدث في فيلم القليوبي سوف
تتلمس روح الريحاني وقد عادت إلي الحياة ..تتلبسها تلك المرأة العجوز
الجميلة وتكشف عنها في قدرتها المذهلة علي أسر قلبك مع كل كلمة ونظرة ومع
هذا الأسلوب الأخاذ في الحكي وهذا التعبير البليغ بالعين و اليدين وهذا
الحماس الجميل الفياض والإيقاع الساخن المتدفق وتعبيرات العينين والوجه
الذي يعاد تشكيله من جديد مع كل حرف جديد ..شلال هادر من المشاعر لا يتوقف
للحظة ولا تمل رؤياه طوال معظم زمن عرض الفيلم..ولا شك أنه تمت السيطرة علي
هذا الشلال ليظهر في أجمل وأوضح صورة عبر جهد خلاق في المونتاج وبأسلوب
مخرجنا المخضرم الكبير القليوبي المتميز ولغته السينمائية الخاصة البسيطة
التي مازال يطورها ويرتقي بها كمخرج شاب مازال الفن بالنسبة له متعة وهواية
واستكشاف . تحكي جينا بصورة قد تراها منطلقة وبسيطة ولكني أراها تحت سيطرة
فنان يدرك جيدا ما يريد الوصول إليه .ويعي انه من خلال هذه المرأة الكنز
ومخزون ذكرياتها يلقي نظرة بانورامية علي الحياة والعالم كله . جينا تبدأ
حكايتها من بداية البداية ليس من ميلادها هي أو من زواج أمها و إنما من
جذور الجذور في العائلة . تأخذك هذه المرأة عبر رحلة في الزمان خلال قرن
كامل تقريبا ، وفي المكان من مصر إلي أنحاء أوروبا . تصف لك كل شيء بالكلمة
واللفتة والإيماءة و الإحساس . وتترقب معها تلك اللحظة الرائعة في زواج
الشرق من الغرب أو الريحاني بأمها . وتلك الحرب التي خربت ومزقت العالم
وأبعدت الحبيبين . وهذا القدر الرائع الذي جمع الشتيتين . . وقصة الحب
الجميلة التي لم تنته مع وفاتهما ولكنها مازالت ممتدة عبر هذه المرأة التي
تمتلك حبا عظيما لوالدها الذي لم تشاهده كثيرا..والذي تفعل الكثير والكثير
من أجل إحياء ذكراه دون أي رغبة في الظهور وبلا أي مصلحة أو هدف مادي أو
أدبي .يحقق القليوبي فيلمه بأكبر قدر ممكن من الانضباط والدقة في التقطيعات
والانتقالات . وفي الحرص علي روح ووحدة الفيلم وإيقاعه الخاص علي الرغم من
اتساع مجال الحكاية و التي ربما لا تفلت منه إلا في مناطق قليلة مع تفاصيل
لبعض الرواة. قد تخرج في مسارات فرعية ولكنها لا تمتد إلا لثوان قليلة
ليعود العمل من جديد إلي مساره الأصلي وليصب كل ما يقال في تياره الرئيسي
.. يقدم القليوبي صورة بسيطة وجميلة في تكويناتها المريحة وعمق مجالها و
يبدع حتي في اختيار زاوية تصوير الصور الفوتوغرافيا ووضعها بطريقة مؤثرة
جماليا وفنيا. وهو لا يشعر بقلق من أن يبقي الكادر ثابتا لوقت طويل مادامت
المادة التي يتضمنها بكل هذه الحياة والتوقد و التدفق في الصورة و السرد..
وفي الموسيقي المعبرة الهادئة التي تدعوك للتأمل و تأخذك إلي عالم من
الخيال الساحر لياسر عبد الرحمن والتي يضعها القليوبي في مناطق بعينها و
بحساب دقيق لتضفي مزيدا من التأثير والقوة علي اللحظات المشبعة بالشجن أو
مع فواصل تستلزم لحظات لالتقاط الأنفاس . الشيء الوحيد الذي لم يعجبن في
الفيلم هو تعليق هشام عبد الحميد الصوتي والذي كان ينتقل فيه من أدائه
كمعلق إلي أدائه كراو بصوت مستعار للريحاني وفي الحقيقة فإن تقليد صوت
الريحاني سهل جدا ولكن الوصول إلي روعة إحساسه يبدو أمرا مستحيلا . علاوة
علي هذا فإن هذا التشخيص الصوتي خرج عن سياق الفيلم وطبيعته كعمل تسجيلي
يعرض شخصيات ووثائق حقيقية . ولحسن الحظ أن مساحته لم تكن كبيرة مع كل
التقدير لجهود الفنان هشام عبد الحميد.يتمكن القليوبي بأسلوبية فريدة من
توزيع ومزج مادته الوثائقية و الروائية من مشاهد من أفلام ومسرحيات
الريحاني بأسلوب رشيق ..حيث يصبح إبداع الفنان جزءا لا يتجزأ من خبراته
الحياتية وتركيبته الشخصية . وهي مسألة كشف عنها القليوبي ببراعة حيث يبدو
فن الريحاني قطعة من حياته والعكس صحيح أيضا خاصة والريحاني مشارك في تأليف
كل أعماله تقريبا مع توءمه الفني بديع خيري. عندما تشاهد هذا الفيلم سوف
تتأكد من صدق جينا بكل عقلك وقلبك . فلا يمكن أن يتمكن شخص كاذب من صياغة
كل هذه التفاصيل بهذا التسلسل والتدفق . فهل يمكن أن يكذب أحد وهو يسرد
رحلة جيلين مع الحياة والحب و المتعة والعذاب . وعلاوة علي هذا فإن جينا
تحكي أيضا عن كواليس حياة وأعمال الريحاني التي عاصرتها زمنيا وجغرافيا .
وإذا كانت لديها هذه القدرة المذهلة علي التأليف فإنه يصعب أن تمتلك هذه
البراعة في التمثيل عن لحظات الحزن والشجن والألم الذي يعتصر قلبها مع
اجترار الذكريات ، فيتقلص الوجه وينساب الدمع . وإذا كانت جينا بكل هذه
البراعة في التمثيل و التأليف ستكون أحق بالفعل لأن تكون ابنة للريحاني .
أي أنها لو لم تكن ابنته لوددنا أن تكون ابنته بكل وفائها العظيم له
وبتذوقها العالي لأعماله وتقديرها الدقيق لإمكانياته ومكانته الفنية وحبها
الكبير لوطنه الذي أنجبه وشعبه الذي أحبه وأخلده.
جريدة القاهرة في
10/03/2009 |