القصائد الجميلة في تاريخ السينما المصرية.. كثيرة.. ولكن قصيدتنا..
أقصد نجمتنا «يسرا» غير كل القصائد.. إنها ليست فقط.. شهرزاد.. ست الحسن
والجمال.. سندريللا.. جولييت..إنها ليست مثل أميرات الحواديت. أو تكرار
لهن.. إنها ليست نجمة من ورق.. أو خيال..لقد هبطت النجمة إلي الأرض.. وصارت
فتاة أحلام كل شاب.. يحلم بها.. يعيش معها.. يتألم. يفرح. يتجاوز الحدود
والآفاق. إنها يسرا.. وكفي.ليست مصادفة أن تحل محل نجمات السينما السابقات.
وأن تجعل اللاحقات يقفن طويلاً في انتظار أن تفسح لهن مكانًا بجوارها.. أو
خلفها.نعم فهي فنانة متجددة دائمًا. فنانة لا تتكرر.. ولا تكرر نفسها.ولدت
«يسرا» نجمة واستمرت نجمة.. وإن لم تتوقف.. فعلي مدار 35 عامًا كانت تنتقل
من مدار إلي مدار أعلي حتي صارت نجمة كل الكواكب..ليس مصادفة إذن أن تأتي
بعد سعاد حسني لتتربع في القلوب، ربما جاءت في زمن انفتاحي. لكنها كانت
دائمًا رمزًا للأنوثة الطاغية. والرومانسية الحالمة.جاءت سعاد لتحل محل
سيدة الشاشة فاتن حمامة في لحظة تغيير تاريخية، كان قدر يسرا أن تأتي لتعيش
في عصر سعاد حسني سنوات قبل أن تفرض كلمتها علي الجميع. ولا جدال في أن
يسرا محمد نسيم المولودة في مثل هذا اليوم العاشر من مارس شخصية تستحق
الدراسة من زاوية كونها فنانة ظلت ملتزمة بمجتمعها منذ وعت دورها في
السينما منذ ما يقرب من 35 عامًا، وحتي الآن.. وهذه هي قيمتها الحقيقية.عقد
اللؤلؤإنها حلقة مهمة من حلقات عقد اللؤلؤ في الحياة الفنية في مصر منذ
عزيزة أمير، وفاطمة رشدي، وأم كلثوم، وفاتن حمامة وسعاد حسني، وأخيرًا..
وليس آخرًا.. يسرا.. ومشوارهن جميعًا رغم اختلاف التفاصيل متشابة متشابك
فهن جميعًا موهوبات وهن جميعًا ثائرات وهن أيضًا قمم وقيم مصرية.لقد تأثرت
كل واحدة منهن بمجتمعها وأثرت فيه. تأثرت بوجدان الناس. فأخذت منهم.
وأعطتهم. وظلت كل واحدة منهن طوال حياتها منذ بدأت صبية صغيرة وعينها علي
مجتمعها.لقد رفضت كل واحدة منهن ما كان يقدم من فن. وأعطين لمجتمعهن
ولجمهورهن فنًا راقيًا. لقد تأثرن وأثرن وصرن نموذجًا للعطاء.ويسرا من هذا
النوع النادر من النساء.. إنها امرأة من مصر. هي من ذلك النوع الذي يتأثر
ولكنه يؤثر أيضًا..نعم هي مازالت في منتصف الطريق، ولكنها قدمت ما يجب أن
نتوقف أمامه. فعلي مدار سنوات عمرها الفني نجحت في أن تصنع بصمة رائعة.
وراقية في تاريخنا السينمائي. فقد وعت منذ البداية دورها كفنانة. وكسفيرة
لبلدها ولأمتها. فحافظت علي هذا الدور. ومازالت تؤدي رسالتها بأمانة
وإقتناع وحب.الاستفتاءوفي الاستفتاء الذي نظمه مهرجان القاهرة السينمائي
الدولي في دورته العشرين عام 1996، برئاسة الكاتب الكبير سعد الدين وهبة،
بمناسبة احتفاله بمئوية السينما المصرية. كان حضور يسرا طاغيًا رغم
المقارنة الصعبة كانت مع جميع الأجيال التي عاصرت السينما المصرية طوال
تاريخها. منذ عزيزة أمير. وحتي آخر وجه جديد.في هذا الاستفتاء كان نصيب
يسرا تسعة أفلام بين أهم 150 فيلمًا قدمتها السينما المصرية خلال تاريخها
الطويل.. وإذا كان المهرجان قد احتفي بأهم مائة فيلم فقط. فقد اقتربت أصوات
الخمسين فيلمًا التالية لقائمة الأفلام المائة في عدد الأصوات مع الأفلام
التي احتلت الثلث الأخير من القائمة. مما يجعل لها حق الرصد والإشارة. وإن
كان ترتيبها قد جاء تاريخيًا وليس حسب الأصوات.القائمةنعود إلي أفلام يسرا
فنجد فيلم «المهاجر» الذي قدمته من إخراج العبقري الجميل يوسف شاهين في
مقدمة هذه الأفلام حيث حمل رقم 5 في القائمة، ثم جاء فيلم «الأفوكاتو» مع
نجم النجوم عادل إمام وإخراج وتأليف المبدع رأفت الميهي في المرتبة رقم
«80» بين المائة فيلم الأولي من تاريخ السينما المصرية، وأخيرًا فيلم
«حدوتة مصرية» مع المخرج الكبير يوسف شاهين ليحل رقم «84» بين الأفلام
المائة. ومن الطريف أن تكون هذه الأفلام مع عادل إمام ويوسف شاهين، وهما
قطبان كبيران في تاريخ السينما المصرية.ثلاثة أفلام من أهم مائة فيلم مثل
ميرفت أمين ونجلاء فتحي رغم أسبقيتهما عليها في العمل بسنوات، فرغم أن
ميرفت ونجلاء بدأتا في نهاية الستينات، جاءت يسرا في منتصف السبعينات، وإن
كانت أعمالها لم تعرض قبل أن يبدأ عقد الثمانينات بسبب أزمة دور العرض
آنذاك.الأفلام الستة الأخري التي جاءت في التريب بعد المائة فيلم الأولي
هي:البداية، إخراج صلاح أبوسيف، «الجوع»، إخراج علي بدرخان، «أيام الغضب»،
إخراج منير راضي، «إسكندرية كمان وكمان»، إخراج يوسف شاهين، «الإرهاب
والكباب»، إخراج شريف عرفة، وأخيرًا «طيور الظلام»، لنفس المخرج.وفي هذه
المجموعة أيضًا فيلم يوسف شاهين «إسكندرية كمان وكمان» وفيلما عادل إمام
«الإرهاب والكباب»، و«طيور الظلام».البدايةبدأت يسرا حياتها الفنية. وهي
بعد صبية في مقتبل العمر بدأت بطلة مطلقة لأول أفلامها «قصر في الهواء»
وظلت البطلة دائمًا.. قدر غريب أن تبدأ بطلة ولا تتنازل عن البطولة
أبدً.لقد كانت يسرا. وحتي الآن، أفضل تعبير عن الفتاة المصرية إنها حتي
بدون التزام عقائدي. تأخذ حكمتها الموروثة من شعب يملك حس الحكمة، لتكون
معبرة عن مجتمعها. عن أمتها. شعبها. وبنات جنسها أيضًا.قدمت نجمتنا جميع
الأدوار. فهي بنت البلد، أو الارستقراطية، أو الطبيبة، أو السفيرة، وهي
أيضًا فتاة الليل. والأم إنها امرأة بألف وجه.. أو يزيد..ومع الأيام
والأفلام تزداد نضجًا لتقدم مجموعة من أفضل أفلامها بالإضافة للأفلام التي
تم اختيارها في الاستفتاء فقدمت..، الأنس والجن، المولد، الراعي والنساء،
المنسي، مرسيدس، ضحك ولعب وجد وحب، حرب الفراولة، دانتيلا، حسن وعزيزة،
رسالة إلي الوالي.تقدير وجوائزأكثر من خمسين جائزة والعشرات من شهادات
التقدير والملايين من المعجبين. هذا هو رصيد يسرا في بنك الحب بعد 35 عامًا
من العطاء الفني المتميز تم خلالها تكريمها في العشرات من المهرجانات في
فينيسيا 199، كان 1995، معهد العالم العربي 1995، مهرجان السينما والثقافة
بفرنسا 1998، مهرجان بيروت 1999، الإسكندرية 000، القاهرة 006، تورمينا آرت
007 فالنسيا 007.كما مثلت مصر في العشرات من المهرجانات السينمائية في كان
وبرلين وفينيسيا وفالنسيا ومونتريال ودمشق وقرطاج وأبوظبي ودبي وجنوب
أفريقيا حصدت خلالها الجوائز. كما حصدت العشرات من الجوائز من مهرجانات
الإسكندرية والقومي وجمعية الفيلم وجمعية فن السينما والمركز الكاثوليكي
وغيرها من المهرجانات المحلية.وفي التليفزيون قدمت عشرات المسلسلات منذ أول
مسلسلاتها مع الفنان الكبير فريد شوقي «الشاهد الوحيد» ثم قدمت «أنف وثلاث
عيون» الذي حصلت عنه علي جائزة أفضل ممثلة وأعقبه «علي باب الوزير، سيدة
الفندق، رأفت الهجان بأجزائه الثلاث، حياة الجوهري، أين قلبي، أوان الورد،
ملك روحي، لقاء علي الهواء، أحلام عادية، لحظات حرجة، قضية رأي عام، في أيد
أمينة.. وقد حققت هذه الأعمال نجاحًا جماهيريًا ونقديًا كبيرًا من خلال
القضايا الاجتماعية التي أثارتها وناقشتها، وفي الإذاعة قدمت العديد من
المسلسلات التي حققت نجاحات جماهيرية كبيرة، منها الامبراطور أبو الدهب، يا
أعز من عيني عن قصة حياة سندريللا كل العصور ليلي مراد، بنات القمر، دموع
صاحبة الجلالة، لمسات ساخنة علي جدار بارد، وفي المسرح قدمت مسرحيات بداية
ونهاية وكعب عالي.الباليرينا الصغيرةتفتح وجدان «يسرا» وهي طفلة علي الفن.
كانت باليرينا صغيرة تعبر خشبة المسرح المدرسي بحركات القدمين وإنحناءات
الرقبة. ورشاقة الاكتاف. في رقصات فنية جميلة تأخذ القلوب. كانت تعشق
الموسيقي. تعزف علي البيانو، وتمارس الرسم. كانت لديها ميول فنية عديدة،
ولكن أبدًا لم يكن التمثيل من بين الهوايات.كانت في العاشرة من عمرها.
وعندما انتهت من الدراسة الابتدائية أرادت أن تستمر في المدرسة نفسها.
وتصنعت المرض حتي تستمر حبًا في الباليه الذي وجدت نفسها فيه. كانت السيدة
ليلي مراد جارة وصديقة للأسرة. وكثيرًا ما كانت الطفلة الصغيرة وهي بعد في
السابعة من عمرها تذهب إليها مع والدتها وفي إحدي هذه المرات كان أديب مصر
العظيم نجيب محفوظ في زيارة للسيدة ليلي مراد.. وأخذت الصغيرة تقلد كبار
النجوم فقلدت ليلي مراد وشقيقها منير مراد وزوجته وقتها السيدة سهير
البابلي، كانت تقلدهم ببراعة وبعد أن انتهت فوجئت برجل يجلسها علي رجله وهو
يسألها «أنت عايزه تطلعي إيه لما تكبري»، ولأول مرة تدرك الطفلة البريئة
رغبتها القدرية، وعلاقتها بالفن.قالت: نفسي أكون ممثلة.فقال: هتكوني ممثلة
هايلة.وتحققت نبوءة الكاتب العظيم نجيب محفوظ. وفي المدرسة الإنجليزية بمصر
الجديدة فقدت حلمها وحبها الأول الباليه. استبدلت حبها المفقود بحب جديد.
استبدلته بقدرها.. بالسينما.الزعيمفي الحادية عشرة من عمرها رأت الزعيم
جمال عبدالناصر، لأول مرة، فقد أخذوها لتكون في شرف استقباله بالورود في
المطار عند عودته من الخارج، وعندما رأته الصغيرة يتقدم نحوها سقطت الورود
من يديها، ووقتها نظر إليها نظرة لا تنساها حتي اليوم. ويوم تنحي عن الحكم
وجدت نفسها تبكي، تلطم خديها بدون وعي.انتقلت يسرا للحياة مع والدها، ولكنه
كان قاسيًا شديدًا في معاملته لها لدرجة أن منعها من الدراسة. وهنا تبرز
سمة من أهم سمات شخصية «يسرا» التحدي.فقد صممت أن تحصل علي شهادة «» من
منازلهم. وكان لها ما أرادت فقد اجتهدت وحصلت عليها بتفوق وكان تقديراتها
خلال سنوات الدراسة ممتازة.خلال تلك الأيام تمنت أن تكون طبيبة تعالج أمراض
الناس تخفف عنهم آلامهم. إلا أنها اكتشفت أن تركيبتها النفسية والعصبية غير
مؤهلة لهذه المهنة الإنسانية النبيلة. أثناء تصوير فيلم «الإنسان يعيش مرة
واحدة».كانت تقوم في الفيلم بدور طبيبة.. وفي أحد المستشفيات أثناء التصوير
دخل مريض يعاني من انفجار في الزائدة الدودية بمجرد أن شاهدته سقطت علي
الأرض فاقدة للوعي.تمنت أيضًا أن تعمل بالسلك الدبلوماسي. وأخيرًا قررت أن
تعمل مضيفة بإحدي شركات الطيران. وبالفعل أرسلت صورها وأوراقها إلي إحدي
الشركات العربية. وجاءتها الموافقة. كانت في غاية السعادة وذهبت تسبقها
أحلامها إلي مقر الشركة، وهناك كانت الصدمة.. فعملها لن يكون في القاهرة.
فتسللت بسرعة وبلا عودة.الدرس الأولكانت في السابعة عشرة من عمرها عندما
بدأت النبوءة تتحقق. صحيح أن فرصتها الأولي جاءت من خلال مدير التصوير
السينمائي عبدالحليم نصر. ومن خلال تجربته الإخراجية الوحيدة، إلا إنها
كانت الفرصة الأولي التي تحققت، فقد سبقتها فرصة أخري. أو أكثر وقف الأب
أمام استكمالها.ذات صباح كانت الفتاة الرقيقة ذات السبعة عشر ربيعًا تقود
سيارتها في شوارع المعمورة.. وفجأة لمحت الفنانة الكبيرة سعاد حسني وهي
تصور أحد مشاهد فيلم «أين عقلي» وقتها أسعدها كثيرًا أن تشاهد النجمة
الكبيرة وهي تعبر عن مواقف مختلفة بتوجيهات المخرج عاطف سالم. تمنت الشابة
الجميلة أن تكون مكانها.أحبت السينما جدًا لدرجة أنها كانت تشاهد ثلاثة
أفلام في السينما كل يوم خميس أو جمعة. أما في الأيام الأخري فقد كانت تحرص
علي مشاهدة فيلم السهرة في التليفزيون، وفي سريرها كانت تعيش أحلامها حول
الفيلم. قبل أن تتحول إلي نجمة كبيرة يعيش الناس أحلامهم بحثًا عنها. سحر
الشاشةكانت الممثلة الشابة مسحورة بهذا العالم. كان يستحوذ عليها سحر
الشاشة. ولم تكن رغم التجربة تشعر أنها يمكن أن تكون مكان أي ممثلة. كانت
تعشق السيدة فاتن حمامة وتستمتع بمشاهدة شادية وهند رستم ومديحة يسري وسعاد
حسني. كانت تعرف مديحة يسري التي كانت صديقة لأسرتها. فكانت ومازالت
تناديها ماما مديحة.المعاناة التي عاشتها يسرا في طفولتها أفادتها كثيرًا
فلو لم تمر بهذه المعاناة وهذا الألم ما كانت قد وصلت إلي هذا المستوي في
القدرة علي التعبير. خاصة وإن التجارب الإنسانية في حياة الفنان رصيد مهم
يختزنه في ذاكرته ثم يستدعيه في أدواره..لقد حلمت يسرا كثيرًا بالنجاح. ولم
تركن للحلم. بل سارعت إلي تحقيقه. وبالجهد والموهبة والإصرار تحقق النجاح
من خلال عشرات الشخصيات والأدوار.. وفي جميع هذه الأدوار كانت المرأة
المصرية الأصيلة كان لابد من اختيار أدوار متنوعة حتي لا تضعها السينما في
قالب واحد. ونجحت يسرا بموهبتها وبإصرارها وبإيمان الكثيرين بها وبموهبتها.
جريدة القاهرة في
10/03/2009 |