كايت وينسلت جوهرة سينمائية
منذ ظهورها المميز في فيلم «تايتانيك» مع
ليناردو دي كابريو قبل 11 عاماً، والجمهور ومعه النقاد والمهتمون بالسينما
يتابع صعود الممثلة الإنكليزية كايت وينسلت. كايت توجت هذا الصعود بحصولها
على جوائز تقديرية كبرى، طالما حلمت بها ممثلات كبيرات عندما فازت بجائزة
أفضل ممثلة عن فيلمها الثاني مع دي كابريو «الطريق الثورية» في مسابقات
الغولدن غلوب. وقبل أيام، حصلت في مسابقات الأوسكار على جائزة أفضل ممثلة
عن فيلمها «القارئ»؟
جسدت كايت وينسلت شخصية أبريل ويلير، في
فيلم «الطريق الثورية»، المقتبس من رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب ريتشارد
ييتس، صدرت أوائل الستينيات ونالت اعجاب النقاد والجمهور على حد سواء. لعبت
كايت دور الممثلة المحبطة وزوجة فرانك ويلير (الممثل دي كابريو). وعلى
أدائها أعتمد المخرج الإنكليزي سام مانديس، في ايصال صراعها الداخلي الحاد،
الذي كانت تخوضه، بين رغبتها في تحقيق حلمها بالسفر والعمل في باريس،
وبقائها في منزل ريفي تؤدي فيه دور «ربة منزل» لتشبه ملايين من مثيلاتها
الأميركيات في خمسينيات القرن الفائت.
يعود مانديس في «الطريق الثورية» الى
المناخات المعزولة، على تخوم المدن الكبيرة، التي عاشتها الطبقة المتوسطة
الصاعدة، وهي تشق طريقها الى الحلم، الذي عرفه العالم بـ«الحلم الأميركي»،
والذي عبر عنه خير تعبير في رائعته السينمائية «جمال أميركي». في فترة
الخمسينيات وبينما أوروبا تعاني من آثار الحرب العالمية الثانية المدمرة،
كانت اميركا تزهو بنصرها على النازية واليابان. ولأنها بعيدة عنها جغرافيا،
فقد توفرت لها امكانيات هائلة لتطوير نفسها، مما جعل منها وخلال سنوات
قليلة، نموذجا للرخاء والنمو الاقتصادي المطرد. في مثل هذا المناخ تكونت
العلاقة العاطفية بين الزوجين أبريل ومارك، ومن خلالها سنكتشف طبيعة هذا
الحلم الأميركي المضطرب. أبريل كانت تهوى التمثيل المسرحي، وكانت تشعر
بالإحباط لعدم تمكنها من تحقيق نجاحات تذكر. والزوج يعمل في وظيفة يؤديها
بروتينية وقلة حماس، لكنها توفر له وضعا جيدا نسبيا يؤمن معيشتهما مع
طفليهما. ومع هذا كانت المشكلات بينهما آخذة في التفاقم. فالزوجة تنحو
باللائمة على زوجها في قرار تركها العمل والانتقال بما يشبه العزلة الى
بيتها الريفي. والزوج مرتاح الى هذا الوضع ما دام يوفر له سلطة ذكورية،
وهذه واحدة من العقد التي حرص المخرج مانديس على ابرزها ليصف حقيقة المرحلة
وطبيعة التغيير «الثوري» الذي كان يتشدق به المجتمع.
عنوان الفيلم نفسه يحمل هذه المفارقة. فمع
معرفتنا من نسبته الى اسم الشارع الذي يقع فيه منزلهما، نجد تلميحا مبطنا
الى طبيعة تلك الفترة وعنوان مسيرتها، والعلاقة الزوجية واحدة من اختبارات
ثوريتها عندما عرضت أبريل على زوجها فكرة السفر للعمل في باريس تخلصا من
وضعها القلق. في البداية يقبل الزوج الفكرة ويرتب وضعه على أساسها. ولكن،
وحين يعرض عليه مرؤوسوه مركزا مهما في الشركة سرعان ما يرفضها. وتزداد
الأزمة اشتدادا حين تكتشف انها حامل، فتكشف له صراحة رغبتها في إسقاط
جنينها. رفضه فكرة التخلص من الطفل ومن السفر يزيد علاقتهما سوءاً. لقد
احتاج التعبير عن هذه العلاقة الداخلية المأزومة الى ممثلين كبار، قادرين
على ايصالها. وإذا كان دي كابريو موفقا فيها، فإن كايت وينسلت أبدعت أكثر
في أدائها. لقد كانت تعابير وجهها تغني عن أي حوار، وكانت وسيلتها الوحيدة
في الكشف عن آلامها. وكانت هناك الحركة العصبية والنظرة الشاردة كفيلتين
بنقل مشاعرها وحزنها بقوة إلى المشاهد. وفي اللحظة التي تقرر التخلص من
الجنين لتعلن نهاية حياتها، يغدو حضورها التمثيلي ساطعاً، إلى درجة يعلن
الحدث قبل وقوعه.لقد
جسدت باقتدار دور امرأة قوية الداخل،
ضعفت في مواجهة خارج ينشد ترسيخ هيمنة
ذكورية تعبر عن الواقع المعاش، أكثر ما تعبر عنه شعارات امتدت طويلا،
وأقنعت العالم ان هناك حلما يتحقق.
القارئ
في أداء تمثيلي لا يقل مستوى عما قدمته في
«الطريق الثورية»، بل ويتفوق عليه، جسدت وينسلت في فيلم «القارئ» حالات
نفسية وعاطفية احتاجت قدرا كبيرا من المرونة والموهبة ومن الفهم العميق
لحبكة فيلم جمع مستويين مختلفين ومتعاكسين الى حد كبير. فقصة «القارئ» التي
أخرجها ستيفن دالدراي، دارت في ألمانيا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية
وكانت تجري في مكانين وزمنين متداخلين، سردها المحامي ميشال بيرج (الممثل
رالف فينيس) وحكى قصته مع «هنا» حين كان مراهقا (يقوم الممثل دافيد كروس
بدور ميشال الصغير) وكيف تعرف الى سيدة ثلاثينية العمر كانت تعمل في قطع
تذاكر «الترام». الثلث الأول من الفيلم تجري أحداثه في أجواء حميمية تجمع
المراهق وهنا. وتكاد الحبكة كلها تقريبا توظف لتبيان علاقة مختلة بين رجل
وامرأة. امرأة كانت تفرض سيطرتها عليه بطريقة صارمة، وتعبر عن تعلقها به
بفيض المشاعر وحرارة اللقاء. ومع الوقت تكتشف فيه موهبة القراءة، فتطلب منه
قراءة المزيد من الروايات. لقد تحول الصبي ميشال الى قارئ لها، وهي الى
مستمعة شغوفة. لقد عوضت أميتها بقراءاته.
وفي انعطاف حاد في مسار الشريط، يبدو للوهلة الأولى غير منطقي، تقرر هنا
ترك ميشال من دون إعلان مسبق، لننتقل الى مرحلة ثانية يكون ميشال قد دخل
كلية الحقوق. وكان ضمن جدول دراسته المقرر حضور جلسات بعض المحاكمات
ومتابعتها. وفي احدى المرات ومن دون تمهيد، يجد ميشال نفسه في مواجهة هنا،
وقد هرمت وبان التعب على محياها. لقد رآها في المحكمة، تجلس على مقعد
المتهمين المتعاونين مع النازية ومرتكبي جرائمها. ولم تصدق أذناه وهو يستمع
الى شهادات سجينات معسكرات النازية، وهن يوجهن خلالها تهمة القتل المتعمد
الى المرأة التي كان يوما معها، الى هنا شميتس. لقد انكشف له، الآن، جزء من
تاريخها المستور، وعرف انها كانت تعمل كسجانة، مهمتها الرئيسية اختيار بعض
السجينات القديمات وإرسالهن الى غرف الإعدام من أجل توفير مكان للسجينات
الجديدات. وكانت الشهادات تؤكد كلها تقريبا على أنها من كتب أسماء السجينات
وأرسلتها الى مرؤوسيها. وحده ميشال كان يعرف ان هنا لم يكن يعرف القراءة
والكتابة، وكان عليه، أخلاقيا، تقديم شهادته عنها. لكنه تردد وخاف من
الفضيحة وفضل الذهاب الى الولايات المتحدة الأميركية ليعمل ويتزوج هناك.
لقد تركها تواجه مصيرها بعدما كانت هي نفسها، وبسبب خجلها من أميتها تؤكد
كلام الشهود، فأدينت ودخلت السجن، لتمضي فيه عقدين من الزمن، كان ميشال
خلالها يعاني من تأنيب الضمير. وفي لحظة مواجهة مع الذات، وبعد ان انفصل عن
زوجته، يقرر ميشيل بيرج العودة الى ألمانيا ومساعدة هنا، أول امرأة في
حياته أحبها وبصدق، وأول ما سيفعله، لها، تسجيل الروايات التي قرأها في
الماضي، بصوته على أشرطة تسجيل يرسلها إليها في سجنها. لقد أعاد إليها،
بتسجيلاته، ماضياً جميل، لكنه لن يعيد اليها عمرها الذي مضى. في مثل هذا
الفيلم الموزع على مراحل، كانت الممثلة كايت وينسلت تؤدي ادواراً مختلفة هي
الأخرى. الثلاثينية المحبة لا تشبه المتهمة النازية. والعجوز السجينة في
أواخر أيامها لا تشبه أي هنا عرفناها. انه التنوع المدهش الذي تؤديه ممثلة
مذهلة استحقت بجدارة جائزتي الغولدن غلوب والأوسكار معا.
الأسبوعية العراقية في
08/03/2009 |