لا تزال
صناعة الأفلام
اللبنانية مثيرة لتساؤلات جمّة، أبرزها آلية إنتاجها وكيفية وصولها إلى
الجمهور، من
دون تناسي العلاقة الملتبسة والمتوترة أو السليمة، بين المخرج والناقد. لا
تزال هذه
الأفلام عُرضة لنقاش يبلغ مرتبة السجال النقدي السوي أحياناً
قليلة، ويقع أسير
التبجيل أو التعاطف أو التجريح أحياناً كثيرة، إلى درجة أن بعض العاملين في
وسائل
إعلامية مرئية ومؤسّسات صحافية لا يخشى من الاعتراف بأنه »يُدافع« عن
الأفلام
اللبنانية كلّها، انطلاقاً من »حساسية« لبنانية فقط. علماً أن
هناك من يُصرّح
بممارسته تقديماً صحافياً/ إعلامياً بعيداً عن النقد، دعماً للمحاولات
الفردية
وللأموال المدفوعة في إنجاز أفلام، تقع غالبيتها الساحقة في التسطيح
والسذاجة
الفنيين، ولا تقترب من الشأن السينمائي إطلاقاً. في حين أن
قراءات نقدية جدّية طالت
أفلاماً لبنانية متفرّقة، أدّت إلى »قطيعة« حقيقية بين مخرجيها والنقّاد،
لأن
المخرجين يريدون مديحاً من النقّاد، ظنّاً منهم أن الصداقة (وليس الانتماء
الجغرافي
والثقافي فقط) تحول دون إيجاد نصّ نقدي، فالنقد يجب أن يكون
»بنّاء«، وإلاّ فهو
شتيمة.
لن تصطلح
العلاقة بين السينمائي والناقد أو الصحافي/ الإعلامي في لبنان
(كما في خارجه أيضاً). ذلك أن النقّاد اللبنانيين القلائل متمسّكون بحقّهم
الثقافي
والإنساني
والأخلاقي في التعاطي مع الأفلام اللبنانية على أساس قيمها الإبداعية،
كتعاطيهم مع النتاج السينمائي العربي والغربي، تماماً. وإذا بدا الناقد
متشبّثاً
بحقه هذا، فإن إعلاميين وصحافيين عديدين يقتربون منه إلى حدّ
ما، أو يُفضّلون
التغاضي عن »النقد« في كتاباتهم وبرامجهم التلفزيونية، انطلاقاً من قناعتهم
بأن
المادة السينمائية (!) تتطلّب سرداً عاماً لمعلومات وتفاصيل وأخبار، وإجراء
حوارات
مع المخرجين والممثلين والتقنيين أحياناً، لا أكثر ولا أقلّ.
وإذا مال مخرجون
لبنانيون إلى هذا النمط الكتابي/ الإعلامي، لأنهم يجدون فيه منبراً للترويج
لأفلامهم؛ فإن مخرجين آخرين يعتبرون النصّ النقدي والحوار السجالي داعمَين
أساسيين
لهم ولأفلامهم، حتى وإن كان رأي الناقد مناقضاً لآرائهم، إذ
يُفضّلون نقاشاً
جدّياً، يبدأ بالفن السابع ويكاد لا ينتهي عند شؤون الثقافة والمجتمع
والفنون
والسياسة وغيرها.
يزداد
الموضوع سخونة، مع الارتفاع اللافت للانتباه في عدد
الأفلام اللبنانية المنجزة في الأعوام القليلة الفائتة، على الأقلّ.
فالنقاش ليس
حكراً على نقّاد وصحافيين وإعلاميين، لأنه بات سمة سهرات
شبابية عدّة، تتيح
للساهرين فرصة مناقشة هذا الفيلم أو ذاك، مستخدمين، في أحيان كثيرة، لغة
التقنيات
والتحليل الدرامي والثقافي. وإذا عانت »السينما اللبنانية« أزمات عدّة
(كتابة
وإنتاجاً وتمثيلاً وتقنيات، إلخ.)، فإن مشاهدين عديدين أجمعوا
على أن بلوغ حالة
صناعية متكاملة للفيلم اللبناني لا يزال بعيد المنال، على الرغم من
اقتناعهم بأن
أفلاماً عدّة قدّمت »نموذجاً« صالحاً، إما في مجال إنجاز أفلام جدّية
للغاية، وإن
شاهدها عددٌ قليل للغاية؛ وإما في إطار المزج بين النخبوية
الثقافية والبصرية (وإن
بشكل مخفّف أحياناً)، والقدرة على جذب المشاهدين إلى الصالة. في سهرات
كهذه، يتعمّق
مشاهدو الأفلام اللبنانية في المبطّن والظاهر، ويقولون نقداً
تتجاوز حدّته ما يُكتب
في
بعض النقد اللبناني. مثلٌ أول: أجمع عددٌ من المشاهدين الشباب (طلاب
جامعيون،
عاملون في منظّمات غير حكومية، موظّفو شركات خاصّة، إلخ.) على اعتبار »بدّي
شوف«
للثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج »بدعة« بصرية، وتأكيداً إضافياً على
انعدام
المخيّلة
الإبداعية لدى المخرِجَين، الذي ظهر في أفلام سابقة لهما؛ وعلى خلو
نتاجهما السينمائي من الحرفية أو الموهبة. مثلٌ ثان: على الرغم من انفضاض
البعض عن
أفلام غسان سلهب، لـ»صعوبتها« الفنية والدرامية والجمالية،
إلاّ أن هذا البعض أقرّ
بوجود لغة سينمائية وحرفية إخراجية مهمّة، متمنّياً لو أن سلهب يأخذ عالمه
هذا إلى
شريحة أكبر من المشاهدين، بدل الاكتفاء بإنجاز أفلام »تتلاءم
وفضاءه الثقافي« (!).
مثلٌ
ثالث: هناك غالبية شبابية لا تستطيع مشاهدة الأفلام الوثائقية للثنائي مي
المصري وجان شمعون، أو أعمال فيليب عرقتنجي وندين لبكي وكاتيا جرجوره
وغيرهم، إما
لأنها تراها سطحية مباشرة قريبة من الريبورتاج التلفزيوني،
وإما لأنها تراها طالعة
من
»لعنة« الـ»فيديو كليب« ونجوميته، وإما لانها تجدها مفتقرة لمقوّمات العمل
السينمائي.
تفاوت
لا يعني
هذا كلّه أن الجميع متفق على كل شيء. ولا يختزل
ما
سبق ذكره حالات عامّة ومتفرّقة، لأن البعض مدافعٌ شرسٌ عن أفلام يراها بعضٌ
آخر »تافهة« وغير سينمائية، إن لم يصفها بأنها »اعتداء« على الفن السابع.
فالتفاوت سمة،
والمناقشة تعكس، من بين أمور أخرى، رغبة دفينة وجماعية في إيجاد سبل أفضل
لتطوير
الحالة السينمائية الصناعية الحالية. علماً أن كثراً لا يتعاطون مع الفيلم
اللبناني
انطلاقاً من »جنسيته«، أو من حساسية جغرافية ضيّقة، بل من واقع
أنه »عمل إبداعي«
يستدعي
نقاشاً وحواراً سجالياً.
بالنسبة
إلى الزميل محمد حجازي (صحافي
وإعلامي)، لا فرق في التعاطي المهني مع الأفلام، بين اللبناني وغير
اللبناني، سلباً
أو إيجاباً: »إذا كان المستوى مقبولاً، تكون هناك »رحمة« في
التعاطي مع المادة
السينمائية. أما إذا كان المستوى متدنّياً، لا يعود هناك أي مكان للمساومة،
فيُقال
الكلام السلبي«، مضيفاً أن الرأي السلبي نابعٌ من مشاهدته فيلماً لم
يُعجبه: »إذا
كانت هناك إيجابية مقبولة، أقول بها؛ وإلاّ يُصبح »الضرب«
قاسياً على الفيلم«.
المقصود
بكلامه هذا »مراعاة أن السينما اللبنانية لا تزال لغاية الآن مجرّد محاولات
فيلمية مستقلّة، لم تَرْقَ إلى مستوى الصناعة، التي يُمكن محاسبتها كمحاسبة
فيلم
وافد من هوليوود أو أوروبا، أو من أي مكان ينتمي إلى السينما
المتميّزة
والمتقدّمة«. من جهتها، لم تنكر الزميلة فيكي حبيب (جريدة »الحياة«)، بعد
تفريقها
بين الأفلام اللبنانية والأخرى التي تحمل هذا الاسم »من دون أن تمتّ إلى
السينما
بصلة«، أن هناك تعاطفاً مع الأفلام »التي تستحق هذا الاسم، في
أية كتابة عنها«،
جاعلة السبب في »الظروف التي تحيط بصناعة السينما في لبنان،
والتي تكبّل المواهب
والطاقات الشابّة، وتمنعها من تحقيق ما تصبو إليه«، مشيرةً إلى أنه »لا
يُمكن
محاكمة فيلم صُنع بإمكانيات متواضعة، وبالحدّ الأدنى من الموجود، كمحاكمة
فيلم
وُضعت في خدمته ميزانيات ضخمة وممثلون مخضرمون وفريق تقني وفني
كبير«. أما الزميل
إدي إسطا (جريدة »البلد« والمحطّة التلفزيونية اللبنانية »أو. تي. في.«)،
فاعتبر أن
هناك فرقاً بين الكتابة والبرنامج التلفزيوني، إذ يُقدّم الثاني مشاهد
مستلّة من
الفيلم، ما يعني أن هناك حياداً (قد يكون مقصوداً) في التعاطي
مع النتاج المحلي: »الرأي
لا يختلف، لكنّي لا أهلّل ولا أهاجم. أبقى محايداً. أروي قصّة الفيلم،
وانتهى الأمر. أسحب يدي منه تماماً. أقول: طالما أن هناك من دفع مئتي ألف/
ثلاثمائة
ألف دولار أميركي، ليُنجز فيلماً، فحرام أن أهاجمه. في هذه
الحالة، لا أعطي رأياً«.
أضاف أسطا أن الأمر مختلف تماماً إزاء فيلم جميل: »أهلّل له، وأدافع عنه«،
مشيراً
إلى أنه لا يتدخّل، إجمالاً، في العمق، »إلاّ إذا شاهدت فيلماً أثار هوساً
لديّ به،
وهذا ما لا نراه كثيراً في الصالات اللبنانية، سواء كان الفيلم
لبنانياً أم
أميركياً«.
على نقيض
أسطا، رأى حجازي أنه »يُفترض بالصحافي/ الإعلامي ألاّ تكون
لديه شفقة في التعاطي مع الفيلم اللبناني، لأن هناك من دفع
مالاً، مخافة أن يخسر؛
بل
المطلوب، عند وجود قصور، وقصور فاضح في بعض النواحي الرئيسة، أن يُقال
لصاحب هذا
الفيلم أو ذاك أين أخطأ، وبالتالي عليه ألاّ يُعيد الكرّة
بالصورة نفسها«، معتبراً
أنها »ليست مشكلة المُشاهد، إذا وظّف المنتج مالاً في غير محله، مع فريق
فني وتقني
لا يُدرك معنى السينما وأهميتها، إلاّ من باب تفريخ الأفلام،
وليس النوع فقط.
فروّاد
الصالات هم من محبّي السينما، ويُشاهدون أفلاماً وافدة إلينا من العالم،
ومنها أعمال راقية ومهمّة، يُدركون معها معنى السينما الأصلية والمتميّزة.
إنهم
ينتبهون فوراً إلى العمل المتواضع، فلا يؤيدونه، ولا ينصحون
أحداً بمشاهدته«. في
المسألة نفسها، رأت حبيب، التي قالت بعدم تخلّي الناقد عن دوره »نتيجة
الواقع
السينمائيّ اللبناني الصعب«، إن المُشاهد »الذي تكبّد مشقّة الذهاب إلى
السينما
وشراء تذكرة دخول«، لا تهمّه »الصعوبات التي واجهها المخرج في
تحقيق فيلمه، بل
يهمّه أن يُشاهد عملاً يُرضي ذوقه وعقله«، مؤكّدة على ضرورة أن »يُحاكِم أي
نقد
صحافي الفيلمَ كما هو على الشاشة، مع السماح بهامش ضيّق، يُعطي المخرج
حقّه، ولا
يسدّ عليه طريق المستقبل«. في تفريقها بين أفلام سينمائية
لبنانية وأخرى لا علاقة
لها بالسينما، ذكرت حبيب أنها تعني بالنوع الثاني »الحلقات التلفزيونية
التي تُعرض
في
الصالات، وتحصد نسبة مشاهدة كبيرة، بالاتكاء على جماهيرية التلفزيون (»غنّوجة
بيّا«، »مدام بامبينو« وغيرهما)«، معتبرة أن هذه الشرائط
غالباً ما »تكون تكملة
لمسلسلات ذاع صيتها، أو هي، في حالات أخرى، استثمار لنجاح نجمين تلفزيونيين
على
الشاشة الصغيرة (»أحبّيني«، من بطولة فيفيان أنطونيوس وبديع أبو شقرا)«،
ومضيفةً
أنه »في الحالتين، تفتقد هذه الحلقات أدنى شروط الفيلم
السينمائي، ما يُحتّم على
الناقد أو الصحافي التعامل معها بطريقة تختلف عن تعامله مع الأفلام
السينمائية«.
وانتهت إلى القول إنها تتجاهل غالباً »مثل هذه الشرائط، حتّى وإن هلّل لها
البعض،
وحقّقت أرقاماً قياسية على شبّاك التذاكر، لأن أي حديث عنها، وإن كان
سلبياً، سيكون
بمثابة دعاية لها«. في الإطار نفسه، قال أسطا إن هناك أفلاماً
سيئة، كـ»غنّوجة
بيّا« و»المشهد الأخير« و»ليلة عيد« وغيرها، »لا أستطيع أن أقول عنها إنها
ليست
سيئة، ولا أسمّيها أفلاماً، مع أني أحاول أن أمشي على الحبل، كي أتمكّن من
مساعدتها«، فهذه الأفلام »تُنتَج بفضل تقنية الـ»فيديو«، وهي
أفلام تجارية«. وعلى
الرغم من شعوره بأنه يرغب في مهاجمتها، فهو يغضّ النظر عنها، محاولاً
»مهاجمتها«
بطريقة غير مباشرة.
سكّر بنات
التقى
حجازي وأسطا عند »سكّر بنات« لندين
لبكي، كأفضل فيلم لبناني في الآونة الأخيرة؛ إذ اعتبره الأول »تحفة نموذجية
تُبشّر
بولادة مهمّة لهذه السينما«، ورأى الثاني أنه مشغول بشكل جيّد »جمالياً
وإخراجياً«.
وإذا أضاف الأول فيلماً ثانياً، هو »تحت القصف« لفيليب عرقتنجي، واصفاً
إياه
بـ»التحفة«
أيضاً؛ فإن الثاني اعتبر »دخان بلا نار« لسمير حبشي مشغولاً بطريقة
تقنية جيّدة، مع أن أسئلة عدّة، بالنسبة إليه، »تُطرح على السيناريو«.
اعتبر حجازي
أن فيلمي لبكي وعرقتنجي »محطتين تأسيسيتين لسينما قادرة على أن
تُتابِع، بخطوات
حثيثة، نوعية جادّة وقادرة لاحقاً على التكامل، بميزانيات أفضل، ورؤى أكثر
خبرة«.
أما أسطا، فأضاف على فيلمي لبكي وحبشي الفيلم الأخير للراحلة رنده الشهّال
»طيّارة
من ورق«، معتبراً إياها كلّها »أفلاماً جيّدة، لا يُمكن
التغاضي عنها أبداً«. أما
حبيب، فاختصرت المسألة كلّها بالقول إنه »بين فيلمين جيدين، أحدهما لبناني،
قد
أرجّح كفّة اللبناني. لكن، بين فيلم »تلفزيوني« لبناني وآخر غير لبناني،
ولو كان
متوسطاً ويحمل شروط اللعبة السينمائية (وإن في حدّها الأدنى)
معاً، فلن تُستنفَر
مشاعري اللبنانية إطلاقاً«.
السفير اللبنانية
02/02/2009 |