حياة مثل
حياة الفنان العالمي رامبرانت تغري الكثير من المخرجين السينمائيين
لتقديمها كفيلم يستعيد بعض جوانب تلك الحياة المليئة بالأحداث الدرامية في
القرن السابع عشر في مدينة أمستردام وما رافقها من تطورات مازلت بعض
ملامحها تطفو على وجه القرن الواحد والعشرين مثل العبودية وحرية المرأة
وتجارة الرقيق الأبيض.. فيلم المخرج الانكليزي كريناوي الذي يقيم في
أمستردام «الحراس الليليون» الذي يستمد اسمه من لوحة شهيرة لرامبرانت يحاول
إن يثبت قضية تبدو غريبة للغاية تتعلق بجريمة قتل عبر عنها رامبرانت – كما
يعتقد المخرج - في تلك اللوحة، حيث يعيدنا إلى أجواء «شفرة دافنشي» ولكن من
دون طائل!.
لا يمكن
بطبيعة الحال اخذ هذه الفكرة على محمل الجد لان المخرج أيضا لم تكن لديه
رسالة ما ينقلها إلى جمهور المشاهدين باستثناء الطريقة التي صنع بها هذا
الفيلم «المسرحي» التهكمي إذا أتيح لنا إن نستخدم مثل هذا المصطلح الغريب،
أما المشاهد الصغيرة التي تصور الاتجار بالنساء والعبيد فهي جاءت ضمن
السياق الدرامي للفيلم وليست ثيمات مركزية فيه برغم أهميتها التاريخية كما
سنرى ذلك مع زوجات رامبرانت.
يبدأ
الفيلم بكابوس رامبرانت «الممثل مارتن فريمان» الذي يحلم إن اثنين من
الفرسان يقتحمان غرفة نومه ويقومان بسمل عينيه بعد إن يقوما بتجريده من
ملابسه وتركه عارياً على الأرض، اذ يبدأ رامبرانت بعد إن يكتشف انه لم يعد
يرى أي شيء بمنلوغ شعري مدهش (انه العمى، لا أرى سوى الفراغ، ليس هناك سوى
الظلام، كيف يمكن إن اصف اللون الأحمر وأنا أعمى).
وفي غمرة
انشغاله بعماه الكابوسي تدخل عليه عشيقته سيسكيا «الممثلة ايفا بريثستل»
وتحاول إخراجه من الكابوس فيستيقظ ولكن منلوغه يستمر، لقد نفذ المخرج هذا
المشهد بطريقة مسرحية في غاية الدقة والحرفية وأعادنا إلى أجواء شكسبير في
مسرحيتي «الملك لير» و»الليلة الثانية عشرة» وبالتحديد في مشهد العاصفة في
لير، وكان للإنارة والسينوغرافيا التأثير البالغ في بناء هذا المشهد كما
سينسحب ذلك على المشاهد الأخرى في الفيلم.. لعل المدهش في هذا الفيلم إن
المخرج استخدم تقنية رامبرانت نفسه في لعبة الظل والضوء حتى في المشاهد
الخارجية برغم قلتها، ولولا هذه المشاهد القليلة لكان بالإمكان عد الفيلم
مسرحية تشاهد من على الشاشة، خصوصا انه اظهر غرفة نوم رامبرانت على هيئة
مسرح جدرانه من القماش، (لم يخل الفيلم من بعض المشاهد المسرحية التي تقدم
في الهواء الطلق من قبل فرقة مسرحية يرعاها رامبرانت وهي كما يبدو من أفكار
المخرج المفترضة).
لم يلتزم
المخرج بقصة متسلسلة بقدر استخدامه أحداثا متفرقة من حياة رامبرانت، إذ إن
هناك الكثير من التفاصيل التي شكلت نقلات نوعية في حياة الرسام لم نرها في
الفيلم مثل انتقاله من مدينة لايدن إلى أمستردام وهي المرحلة التي بدأت
فيها شهرته كرسام (1642) ولا عمله في اقتناء اللوحات وبيعها حيث جمع منها
ثروته الحقيقية، غير انه بدل إن يتتبع حياة الفنان الخاصة فأنه تتبع حياة
لوحته الشهيرة «الحراس الليليون» التي قام عليها الفيلم وكيف أنجزت بصيغتها
النهائية، ولكي يثبت فكرته التي تحدثنا عنها في البداية حول جريمة القتل في
اللوحة يقحم المخرج قبل نهاية الفيلم احد الخبراء المعنيين بثقافة القرن
السابع عشر الذي يتحدث بإسهاب عن قيمة اللوحة الفنية والتاريخية واصفا
إياها بأنها «ليست لوحة وإنما هي مسرحية» حيث يقوم بتفكيكها إلى إن يصل إلى
جريمة القتل المفترضة التي ارتكبها احد هؤلاء الحراس على حد تعبيره.
النساء
اللواتي ظهرن في الفيلم هن نساء رامبرانت ، زوجاته أو عشيقاته أو خادماته،
كلما ماتت واحدة يختار أخرى ممن يغص بيته بهن كما هو حال عشيقته الأخيرة
«هندريكا» التي ترعرعت في هذا البيت قادمة من مأوى الأيتام، إنهن نساء بلا
تاريخ ومنقطعات الجذور، في المقابل وبرغم أهمية الدور الذي أدته سيسكيا في
حياة رامبرانت يشار إلى عائلات الرجال كلما ذكر اسم احدهم.
هذا كل ما
أراد المخرج إن يقدمه عن ثقافة القرن السابع عشر فيما يتعلق بدور المرأة
ولم يكن ذلك على كل حال واضحا أو مفهوماً.
حفل
الفيلم بالمشاهد البصرية الأخاذة التي بدت مشاهد مسرحية أكثر من كونها
مشاهد سينمائية معززة بتشكيلات لونية بين الأبيض والأسود والرمادي، وقام
المخرج ببث الروح في اللوحات التي رسمها رامبرانت ونقلها إلى الطبيعة كما
تصورها، لقد اخرج الشخوص من اللوحات وأعادهم إلى الحياة وتركهم يتصرفون
بتلقائية من دون إن ينسى تأثيث هذه المشاهد بما هو تاريخي واجتماعي لا
يفترق عن اللوحة بشيء سوى الإخلاص إلى عمل الفنان بوصفه مبدعا.. ليس هذا
فحسب، فقد كانت اللغة التي اعتمدها الحوار في الفيلم لغة مستوردة من القرن
العشرين، تلك اللغة التي بدت سوقية للغاية على لسان كل الشخصيات تقصدها
المخرج للتهكم والإثارة.
وإذا كان
هناك ثمة بطل لهذا الفيلم فهو بكل وضوح تقنية الإنارة والسينوغرافيا وتلك
الكاميرا الذكية الحساسة التي استطاعت إن تنقل المشاعر الداخلية للشخوص مع
تركيزها على الجوانب الجمالية للمكان والحركة الداخلية للعواطف.
باختصار،
الفيلم برغم فوزه بجائزة العجل الذهبي في هولندا لا يقدم شيئا جديدا عن
حياة رامبرانت باستثناء القصة المفترضة عن جريمة القتل وهي ليست مهمة على
كل حال، لكن التقنية التي اعتمدها المخرج تكاد تكون هي كل شيء.. المتعة
البصرية التي تصنعها لعبة الظل والضوء بكل سحرها.
المدى العراقية
02/02/2009 |